تماثيل الطاغية


ضاهر عيطة

منطلق رمزية التمثال الأول ديني غيبي، إذ تجسد الآلهة في جسم مادي ملموس، يتيح التواصل معها والتضرع إليها، في طقوس تعبدية، تجنبًا لغضبها وسعيًا لرضاها، لكن ليس للآلهة مشيئة في ذلك، إنما اتفق عليه جمع بشري. أما الطاغية فهو من يوعز للنحاتين ليستنسخوه في تمثال يؤله ذاته ويفرض هيبته، ما يوحي لعقول رعاياه بمدى قدسية تماهيهم مع تماثيله؛ إذ يصبحون هم –أيضًا مع مرور الزمن- تماثيل مستنسخة عنه، فالطاغية لا يكتفي بفرض سطوة وجوده الفردي بل ويعمد إلى نسخ ذاته الفردية عبر مئات التماثيل، لإحلال هيبته والرهبة منه في الوجدان الجمعي. كما ويدرك الطاغية أن الغاية من نصب التماثيل في ساحة أو شارع، ما هي إلا وسيلة لاستنساخ حضور المنسوخ عنه في أوسع حيز جغرافي، واستدامته لأزمنة مفتوحة، وبالتالي استنساخ مسوخ أخرى، في محيط رعاياها، وهو تمامًا ما يطمح إليه. وإذا ما اتفق معتقد جمعي على نصب تماثيل لشخصيات بعينها، كما حصل عبر مراحل التاريخ، وبعيدًا عن المنظور الديني، يكون هذا تعبيرًا عن التقدير والاحتفاء بما حققته تلك الشخصيات من إنجازات على الصعيد الفكري أو العلمي أو السياسي أو العسكري، كتمثال هوميروس وفيثاغورس وأرسطو والإسكندر المقدوني، وتمثال “أبو علاء المعري” الذي قطع تنظيم داعش رأسه.. هنا يصبح للتماثيل مدلولات مفهومة وواضحة، ولكن أن يقيم الطاغية تماثيل لشخصه، وهو أداة تقف عائقًا في طريق تحقيق أي منجز من خلال تصدّيه المستمر لروح العزيمة الوطنية ولروح العلم والفكر والوعي، فمعنى ذلك أن مثل هذا الطاغية ساهم في حرف مدلولات ورمزية التماثيل عن وظيفتها، حينما عمد إلى نشر روح الخضوع لمشيئته في وقت تفتقر مسيرة حياته لأي منجز.

والانحراف لا يقتصر على المدلول والرمزية وحسب، إنما يطال الأسلوب أيضًا، ففي الحالة الأولى، كما أسلفنا سابقًا، تبادر الروح الجمعية إلى إقامة تمثال ما، عرفانًا منها لشخصية محددة، وتخليدًا لآثرها، بينما في الحالة الثانية؛ فالطاغية هو من يوعز ويشرف على استنساخ ذاته في تماثيل، بغرض فرض حضوره الذاتي في ذوات متعددة، حتى وإن كانت حجارة.

وإذا ما قارنا هنا بين قيمة المعنى الأثري لتماثيل شيدت في مراحل تاريخية سابقة، وبين تماثيل تشيد في ساحات وشوارع لطغاة حاضرين في الحيز المكاني والزماني، لفهمنا البون الشاسع بين الحالتين، فالأولى ترمز إلى ملمح حضاري وإبداع بشري يروي حكاية تاريخية اتفق عليها ضمير جمعي، أما الثانية فتعبر عن غطرسة وهيمنة تُفرض قصرًا على العقل الجمعي، ويراد منها تجميد اللحظة الراهنة وعدم السماح لها بالعبور إلى المستقبل، كونها لحظة أبدية بالنسبة إلى طاغية. ليس هذا وحسب، بل يحتاج الطاغية إلى متماهين فيه ليصيروا ظلالًا وذواتًا له، وفي هذه الحالة ينتفي كياناتهم وشخصياتهم الآدمية، ولا يعود ثمة فارق جوهري يميزهم عن التماثيل، فعقولهم وأفكارهم تغدو جامدة كجمودها، وهم لا يلمحون ذواتهم إلا انعكاسًا لذات الطاغية الكلية الحضور في تمثال، ما يسلب فاعلية إنسانيتهم ويضعهم في خانة العبيد المستمتعين بعبوديتهم، وكأن سيدهم حاضرًا في تماثيله حضورًا فعليًا، مما يجعلهم يتعاملون معها بقدسية ورهبة تصل إلى حد التأليه الأعمى. وهذا تمامًا ما يحيل كيانهم وفكرهم وروحهم إلى كائنات ثابتة وجامدة، شبيهة بجمود الطاغية في تمثاله.

ومن هنا؛ يمكن أن نفهم فكر وروح رعايا المستنسخين عن تماثيل الطاغية الأسد، واندفاعهم لممارسة السلوك الوحشي تجاه المتظاهرين السلميين منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة السورية، دفاعًا منهم عن الثبات في بنية الزمن والمكان، فما إن شاهدوا تماثيل سيدهم وتماثيل والده وهي تحطم على يد المتظاهرين، حتى أحسوا أن وجودهم هو من يتحطم وينسحق، وما عاد من شيء مقدس عندهم، لا الآلهة ولا دور العبادة ولا المعالم الأثرية، ولا حتى البشر، فسارعوا يهدمون المدن ويحرقون كل معالم الحضارة السورية ويذبحون ساكنيها، ثأرًا لتماثيل سيدهم التي راحت تتهاوى أرضًا، ولهذا جرى استدعاء الأمن والجيش والشبيحة ليموتوا في محراب ما بقي قائمًا من التماثيل، ليس لمجرد الدفاع عنها وحسب، بل كذلك للدفاع عن كيانهم وفكرهم ومعتقداتهم التي تحجرت واستحالت إلى تماثيل حجرية، فهم لا يعون كيانهم ولا وجودهم ولا أرواحهم ولا ماضيهم ولا حاضرهم إلا من خلال الطاغية.

ولكن إلى ماذا يشير إصرارهم على القتل الوحشي المستمر طوال سنين، أهو مجرد دفاع عن سيدهم وعن تماثيله؟ لا بالتأكيد، إنما هو يحمل في طياته أيضًا فكرة الآتيان بالقرابين وذبحها على عتبات محرابه لينالوا رضاه وعفوه، وليمدهم بأعمار من عمره الأبدي حتى لو كلفهم هذا فقرهم وجوعهم وموتهم الفعلي، وهذا ما يجعل من موتهم موتًا حجريًا، أو موتًا وحشيًا، وليس إنسانيًا، فلم تكن ست سنين من القتل والإجرام والموت كافية لتخرج الأعمى من عماه، في حين كانت ستة أيام كافية لفعل ذلك، غير أنه مع التماثيل الحجرية ما من شيء يتبدل أو يتغير، فالحجارة صماء خرساء عمياء، وأكثر ما تصلح لتشييد التماثيل.

هذه التماثيل التي زرعت على مساحة الجغرافيا السورية، كانت تنبئ على نحو صارخ، بالمشروع الأبدي التأليهي الذي كان يخطط له، وهذا ما دفع الثوار إلى تحطيمها ليحطموا معها هيبة وغطرسة عائلة الطاغية، ويكنسوا فكرة التأليه من عقولهم، معلنين عن كيانهم الإنساني، وعن حلمهم بتحرر ساحاتهم وشوارعهم من سطوة خرافة التماثيل وخرافة الأبدية.




المصدر