تحقيق-عودة عائلة لإعادة إعمار شارع بحلب تعطي لمحة عن مستقبل سوريا


يعمل أفراد عائلة بطاش بأيديهم العارية لإزالة الأنقاض من شارع المؤسسة في حلب.. إنهم يعيدون إعمار حيهم المتهدم بعد سنوات من القتال انتهت في ديسمبر كانون الأول.

تحمل أصابع هيام بطاش (56 عاما) جروحا بسبب غسل الملابس في مياه شديدة البرودة بينما يجمع ابناها إياد ويوسف الحطب من المنازل التي لحقت بها تلفيات كبيرة ويذهب أحفادها للحصول على الخبز من مخبز تديره مؤسسة خيرية على مقربة.

وقالت هيام التي ارتدت ثوبا بنفسجيا وحجابا أسود “نأمل أن تعود الحياة إلى ما كانت عليه من قبل.”

لم تجلب الحرب الأهلية السورية الخراب على البلاد وحسب بل مزقت نسيجها المجتمعي فأثارت انقسامات بين من يدعمون أطرافا مختلفة في الصراع وفرقت بين العائلات وأفسدت حياة الملايين.

ولا تمارس عائلة بطاش نشاطا سياسيا. لكنها قالت إن عمل الكثير من رجالها بالجيش يجعلها تميل للحكومة. وانضم أحد أبناء عمومتهم لمقاتلي المعارضة وهو ما سبب صراعا مريرا.

تظهر حكايتهم كيف عانى المواطنون السوريون على أيدي طرفي الصراع الذي شردهم واضطرهم لتحمل النهب والقصف والموت والاختفاء والبعد عن أحبائهم.

تعيش عائلة بطاش في برد قارس بلا كهرباء ولا مياه نظيفة وتستخدم مصابيح زيت البرافين للإنارة. إنهم بعض من عشرات الآلاف من سكان حلب الذين فضلوا العودة لأحيائهم التي تحولت إلى حطام على أن ينزحوا.

كانت حلب قبل الحرب أكبر مدن سوريا من حيث عدد السكان وانقسمت إلى منطقة تسيطر عليها الحكومة وأخرى تسيطر عليها المعارضة إلى أن استعاد الجيش شرق حلب الذي كان تحت سيطرة المعارضة حيث يقع شارع المؤسسة في معارك دمرت أحياء بكاملها.

حين رحل مقاتلو المعارضة المهزومون اختار عشرات الآلاف من سكان شرق حلب الرحيل أيضا خشية أن ينتقم منهم الجيش السوري.

لكن عشرات الآلاف غيرهم لزموا منازلهم التي دمرتها الحرب وانضم لهم آخرون فروا من مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة بحثا عن ملاذ في غرب حلب الذي تسيطر عليه الحكومة.

إنه نمط تكرر في مناطق مختلفة من سوريا حيث استعادت الحكومة بمساعدة روسيا وإيران وفصائل شيعية مسلحة من لبنان والعراق وأفغانستان مناطق كانت خاضعة لمقاتلي المعارضة.

* شارع المؤسسة

كان شارع المؤسسة ذات يوم مركز حي مترابط بمنطقة الكلاسة فكانت به متاجر تعلوها شقق تسكنها أسر من الطبقتين المتوسطة والعاملة.

تعيش عائلة بطاش هناك منذ الثمانينيات حين بنى والد هيام الرقيب المتقاعد بالجيش منزله لبعض من أبنائه العشرة الذين عاشوا في طوابقه المختلفة مع أولادهم وأحفادهم.

لكن الأنقاض متراكمة الآن في الشارع الضيق الذي يبلغ طوله نحو 100 متر فقد تضررت مبانيه من جراء القصف أو اسودت بفعل الحرائق وتوزع الكثير من سكانه في أجزاء مختلفة من سوريا وفي لبنان وتركيا.

تعيش نحو خمس أسر وبضعة سكان آخرين في الشارع بعد أن مكثوا هناك خلال معظم موجات القتال الشرسة أو عادوا بعد أن استعادة الحكومة السيطرة على المنطقة في ديسمبر كانون الأول.

أطفال صغار تلوثت أيديهم بالتراب يرتدون ملابس خفيفة لا تحمي أجسامهم من البرد وقطط اتسخ فراؤها بين الأنقاض. تدوي أصوات انفجارات من القتال خارج المدينة.

حين بدأت القذائف تسقط على الحي في شهر رمضان عام 2012 مما أسفر عن مقتل طفلة صغيرة وحين سيطر مقاتلو المعارضة على الكلاسة تفرقت السبل بأفراد العائلة.

* انفجارات القذائف

قرر عماد شقيق هيام الذي يبلغ من العمر 54 عاما البقاء في الشارع مع زوجته وعائلته لأنهم لم يكن لديهم مكان آخر ليذهبوا إليه.

يقول عماد إن معظم مقاتلي المعارضة الذين اجتاحوا الحي من ريف حلب. ويقول إن الوضع كان مثاليا في البداية لكنهم انقسموا وباتوا مستبدين ويرتكبون السرقة في بعض الأحيان.

ودمر قصف القوات الحكومية بالمدفعية والضربات الجوية والبراميل المتفجرة التي أسقطتها طائرات هليكوبتر معظم الكلاسة.

نجا عماد من انفجار قذيفة دمر معظم الطوابق العليا من أحد المنازل لأنه اختبأ في مدخل في الجهة المقابلة ورأى برميلا متفجرا يصيب مبنى بالشارع مما سبب حريقا دمر مباني خلفه.

قتل واحد من إخوة هيام وعماد الآخرين حين سقط برميل متفجر على سوق كان يشتري منه الخضراوات. كما لقي زوج أفراح ابنة هيام حتفه في القتال.

وفي حين مكث عماد في شارع المؤسسة فإن خطر القنابل والمضايقات من جانب مقاتلي المعارضة اضطر هيام للفرار إلى منطقة الحمدانية في غرب حلب مع أبنائها وأحفادها.

* تهديدات واختفاء

انضم أحد أبناء العمومة من عائلة بطاش ويدعى شريف إلى مقاتلي المعارضة وكان غاضبا من أقاربه لأن زوج هيام كان في الجيش بينما كان ابنها محمد يؤدي الخدمة العسكرية في حماة.

وقال إياد ابن هيام إن شريف قال له “سنشرب كأسا من دمك ومن دم أخيك ومن دم أبيك.” سمع إياد فيما بعد أن شريف أصيب بالشلل خلال القتال في ديسمبر كانون الأول ثم ألقي القبض عليه.

إنه لا يعلم ما الذي حدث له. وقال إياد “كانت علاقتنا عادية. لكنه اختار جانبا ونحن اخترنا جانبا آخر.”

فقدت زينب (25 عاما) ابنة هيام زوجها هي الأخرى. اعتقل عند نقطة تفتيش تابعة لفرع أمني بالجيش عام 2013 وانقطعت أخباره منذ ذلك الحين وإن كان جنود أبلغوهم بأنه تم تجنيده ويقاتل حول تدمر.

وقالت زينب إن فرع الأمن التابع للجيش نفى اعتقاله لكنها تعتقد أنه ربما ألقي القبض عليه وإن كان ليس له نشاط سياسي لانضمام بعض أبناء عمومته إلى مقاتلي المعارضة.

وتقول هيام إن على الرغم من أنه كان بوسع أفراد العائلة التحدث إلى عماد عبر الهاتف من المدرسة الموجودة في الحمدانية حيث أقام 20 منهم في عدة فصول فإنهم لم يكونوا مستعدين للدمار الذي وجدوه في شارع المؤسسة حين عادوا.

قالت هيام “أعيش في هذا المنزل منذ 25 عاما. الحمد لله لدينا مكان نقيم فيه. هذا هو بيتي.”

وأضافت أن أكثر ما يسعدها هو التئام شملها مع شقيقها عماد.

* عودة صعبة

تعيش هيام حاليا مع زينب وابنتيها في قبو المنزل بشارع المؤسسة. تقتسمان غرفتين صغيرتين بلا أبواب واستعاضتا عنها بألواح بلاستيكية.

تفتح الغرفتان على فناء من الخرسانة يظله قماش مشمع حيث تقضي العائلة معم وقتها. في الأسبوع الماضي كان الجو شديد البرودة بحيث أمكنت رؤية أنفاس الأحفاد بينما تجمعوا حول جدتهم وهو ينتعلون الصنادل ويرتدون الملابس الخفيفة.

تظهر بوادر على عودة الحياة في أجزاء مختلفة من الحي. يبيع بائع خضر منتجات طازجة ما زالت جديدة على من عاشوا هناك خلال الحصار.

يتدلى اللحم الطازج من عقافات خارج متجر قصاب بين مبنيين مدمرين. لم تفتح المدارس أبوابها بعد ولا تزال الشوارع مليئة بالأطفال الذين يلعبون وسط الركام.

ترك يوسف أصغر أبناء هيام شارع المؤسسة ليبدأ أداء الخدمة العسكرية هذا الشهر. أما إياد (33 عاما) فهو العضو الوحيد في سن العمل من هذا الفرع من عائلة بطاش. إنه لا يستطيع العودة إلى عمله القديم قبل الحرب في ترميم المنازل في حمص القديمة.

فقد عماد وهو نجار أدواته وورشته خلال القتال لهذا لا يستطيع العمل الآن.

يستخدم رجال عائلة بطاش أيديهم لتنظيف الشارع. وصلتهم أخبار من جيران لهم يعيشون حاليا في مناطق أخرى من حلب ومدن سورية أخرى وفي لبنان وتركيا.

وعلى الرغم من أن جرافات الحكومة تزيل الأنقاض من الطريق الرئيسي فإنها لم تذهب بعد إلى الشوارع الصغيرة.

وقضى إياد يوما الأسبوع الماضي في توصيل كابل من مولد كهرباء ركبه أحد الجيران على مقربة إلى المنزل.

تأكد من أن طاقة الكابل تكفي لتوفير احتياجات أسرته وآخرين يعتقد أنهم سيعودون. قال إياد “طلبت منهم العودة.”

 

 



صدى الشام