عن حصرم الآباء


ميخائيل سعد

قال لي السوري الذي لم يمضِ على وجوده في مونتريال “إلا من البارح العصر”: إنه وزوجه في طريقهما إلى الطلاق، وهو يريد رأيي في هذا الموضوع.

طلبت منه أن يروي لي أحوال زواجه، ففي معرفة ذلك ما يساعدني على إعطاء النصيحة اللازمة.

كانت أوضاع الحرب السورية التي جعلت الموت قريبًا من الناس، قد سرّعت من رغبة الشابين في العيش المشترك، وكان أهل الفتاة في كندا، فكفلوا ابنتهم وعريسها، وجرى قبولهما لاجئين مكفولين لمدة عام، تتولى الدولة الكندية الإنفاق عليهما بعد ذلك، إذا لم يجدا عملًا ملائمًا، أو إذا أرادا متابعة الدراسة. قبل انتهاء العام كان الزوجان الشابان قد رزقا بطفلة، فقررت المرأة البقاء في مسكن أهلها إلى أن تتحسن أحوالها الصحية، وتتعلم أساليب العناية بالطفلة من أمها، وكان الشاب مضطرا لمسايرة زوجه، والقبول بإقامتها عند أمها.

وتمر الأيام والشابة سعيدة قرب أمها، ولكن حساسية الشاب تزداد مع زيادة التلميحات الصادرة عن بيت حماه، سواء عن عبء إعالته مع زوجه وابنته، أو عن ضيق المكان، أو عن تصرفاته “الولادية” التي لا تليق برجل متزوج وعنده طفلة. وشيئًا فشيئًا بات الشاب يميل إلى البقاء في شقته، بعيدًا عن زوجه وطفلته وبيت حماه، وبدأت خيوط الحياة اليومية تنسج نفسها حوله، دون أن تأخذ في الحسبان وجود امرأة وطفلة، وكان شوقه لهما يتراجع، ويتذكرهما في أخر الليالي. ولما كان مضطرًا للعمل؛ كي يعيش، فقد وجد عملًا عضليًا عند أحد السوريين الأقدم في المدينة، ووجد أصحابًا من عمره أيضًا، فتوسعت دائرة معارفه، وتشعبت طرق “المتعة” أمام شاب حديث العهد بالغرب، فبدأ بالغرق فيها.

أحد الأيام وصلتني رسالة منه على “الفيس بوك”، يخبرني فيها عن نفسه، ويطلب التعارف واللقاء، لأنه يريد أن يسمع رأي عجوز مثلي، أكلت الغربة عمره، حول صعوبات الهجرة وكيفية التعامل معها، فاتفقنا على مكان اللقاء وساعته، وكان قد قال: سأجدك بسهولة، إذا كان شكلك الخارجي يشبه صورتك مع لحيتك البيضاء.

قال لي، ونحن نشرب القهوة: لقد تعقدت حياتي لدرجة لم أعد قادرًا على التعامل معها، ولا أستطيع الكلام مع والد زوجتي، خوفًا من سخريته، وكنت أتابع كتاباتك منذ أن كنت بحمص، فقررت أن الوقت قد حان كي أراك، واسمع رأيك، قبل أن أقدم على عمل خطر.

تابع الشاب: قررت أن أجعل زوجي تنتقل من بيت أهلها إلى بيتنا، فوافقت ما إن طلبت منها ذلك. وقلت في نفسي: هذه بداية جيدة. حاولت جاهدًا أن أُلبّي جميع طلبات زوجي، ولكن بدأت سهرة البيت تزعجني، قاومت في البداية رغبتي في الخروج، ولكن كان أي كلام بيننا يتحول فورًا إلى شجار، فاستغل الوضع وأغادر البيت، ولا أعود بعدئذ إلا للنوم. أحد الأيام عدت من العمل لأجد البيت فارغًا، ووجدت ورقة كتبت عليها زوجي أنها لم تعد تتحمل الحياة معي؛ فأخذت ابنتها وذهبت إلى بيت أهلها.

ما إن قرعت جرس بيت حماي، حتى كانت حماتي على الباب، وقد استقبلتني بكلمات جارحة، ثم قالت: اذهب من هنا قبل أن أطلب الشرطة لك. قلت لها: أريد رؤية زوجي وابنتي. قالت: ما إلك عنا لا زوج ولا بنت، يا الله انقلع.

خطر على بالي أن أدفعها جانبًا وادخل رغمًا عنها لأصطحب زوجي وابنتي، ولكنني ترددت، فقد كان أحد الشباب الذي أسهر معه قد حذرني من ذلك، فما هو رأيك أستاذ، بماذا تنصحني؟

قبل أن أرد على طلبه، تحدثنا عن حمص، وأحوال زواجه، وكيف كان حظه جيدًا بالمقارنة مع بقية الشباب، الذين يموتون كل يوم بفعل الصدفة، أو بسبب مواجهات الأمن للمتظاهرين، أو بسبب الاعتقال العشوائي، فكان الزواج من صبية أهلها في كندا فرصة نادرة وثمينة، لذلك؛ أقدم عليه، وأصبح الآن يراه غير محمول، ولولا كفالة بيت حماه والطفلة الحديثة الولادة، لما استمر في هذا الزواج.

كان استنتاجي الشخصي، أن الشابين ذاهبان إلى الطلاق، ولكن كان لابد من لعب دور المصلح الاجتماعي، على أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. حذرته من الإقدام على أي عمل عنيف أو لفظ عنيف ضد زوجه وإلا فهو الخاسر الكبير، وطلبت منه، في حال التأكد من قراره بالطلاق التوجه إلى المحكمة، وتنفيذ ما يطلبه المحامي منه.

قال لي: كم تستغرق عملية الطلاق؟ قلت له: القاضي لن يصدر حكمًا قبل مضي عام على طلب الطلاق، كي يتيح للزوجين الفرصة للمصالحة، والعيش المشترك من جديد، فهدم الأسرة ليس أمرًا محبّذًا، ولكنه أبغض الحلال، كما في ثقافتنا الإسلامية، عندما لا يبقى مجال للقاء.

قلت له: بما أنك أنجبت فتاة، فسأروي لك هذه الواقعة الحقيقية التي حصلت مع ابني، وكان في العاشرة من عمره، فربما تجعلك تعد للعشرة قبل الذهاب إلى الطلاق. أحد الأيام كنا، بوصفنا عائلة، نشاهد فيلمًا عن عائلة مكونة من ثلاثة أفراد؛ الأب والأم والطفل، أدى خلاف الوالدين إلى الطلاق، فكان على الطفل أن يمضي خمسة أيام من الأسبوع مع والدته، والسبت والأحد مع والده. كان الفيلم يتابع الصعوبات التي رافقت أفراد الأسرة، الوحيد الذي لم يكن قادرًا على التعبير عن ألمه هو الطفل، الذي عليه أن يتكيف مع صديقة أبيه الجديدة مرة، ومرة أخرى مع صديق أمه الجديد، وكان الفيلم يصور الصراع العاطفي الذي يعيشه الطفل وحاجته للعيش مع أمه وأبيه. قلت بصوت مرتفع لزوجي ولابني: كأن هناك مبالغة مقصودة لتضخيم عذابات الطفل في الفيلم. قال ابني فورًا: هل تعلم أنني محسود من كل الصف؛ لأنني الوحيد الذي يعيش مع أبيه وأمه في بيت واحد!!

الطلاق يا صديقي سهل هنا، كما في بلدنا الأصلي، ولكن الواجبات المترتبة عليه كبيرة وصعبة، ففكر قبل الإقدام عليه، فربما الخير في أن تصلح ما فسد بينك وبين زوجك قبل الذهاب بعيدًا في دفع ثمن الهجرة، ولا تجعل طفلتك تضرس من الحصرم الذي أكلته أنت وأمها…




المصدر