سوريالية القتل


حسام ميرو

يحفل تقرير منظمة العفو الدولية، حول إعدامات سجن صيدنايا، في المدة الواقعة بين عامي 2011 و2015، بمشاهد سوريالية “ما فوق واقعية” عديدة، تظهر فنون الأجهزة الأمنية السورية في قتل معارضي النظام، وانعدام أي صلة بالإنسانية لدى من يعطون الأوامر، ومن ينفذونها، على حدّ سواء، حتى يخال المرء أن مرتكبي تلك الفظاعات هم من جنس آخر غير الجنس البشري، ويضعون أنفسهم في مرتبة أعلى منه، وإلا ما أمكن لهم القيام بتلك الممارسات بدم بارد، ومن دون أن يرفّ لهم جفن.

لقد عرف تاريخ البشرية مئات من طرق التعذيب والقتل التي ارتكبتها فئات حاكمة، وقد يكون كتاب “تاريخ التعذيب”، من تأليف ليبر نهاردت ج. هروود، وترجمة ممدوح عدوان، من أشهر الكتب التي وثّقت تاريخ التعذيب منذ العصور القديمة، وتضمّن وصفًا مريعًا لعمليات التعذيب التي تنتهي بموت الضحايا، وجسّد وحشية البشرية في غير محطة من محطاتها، إذ تعدُّ طبقة ما نفسها في درجة أعلى من الآخرين، ذاهبة في تصورها -هذا- إلى مدى بعيد في احتقار الآخر، ما يجعل من قتله، بل والتلذذ بتعذيبه قبل الموت، أمرًا عاديًا ومقبولًا، حتى أن طقس التعذيب والموت يتحوّل في بعض الأحايين إلى طقس من الاحتفال الذي يثير حماسة القاتل.

لكن القرن العشرين الذي شهد حربين عالميتين، راح ضحيتهما عشرات الملايين من المقاتلين والمدنيين، وتدمرت بسببهما مدن وبلدات، شهد أيضًا نزعة دولية عارمة في تأكيد حقوق الإنسان، ونشوء منظمات دولية عابرة للقارات للدفاع عن الحقوق الإنسانية المختلفة، انطلاقًا من الحق الرئيس للإنسان، والمتمثل بـ “حق الحياة”، استنادًا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر في 10 أيلول/ سبتمبر 1948، والمواثيق الدولية ذات الصلة، في محاولة لكتابة تاريخ جديد، يجعل من انتهاكات حقوق الإنسان قابلة للمراقبة والمساءلة، ما يسهم في التضييق على مرتكبي تلك الانتهاكات، والحد من إمكاناتهم في ممارساتها.

وعلى الرغم من هذا الاتجاه الدولي في تقييد الأنظمة، ودفعها إلى تعزيز نظمها القضائية، إلا أن الواقع الفعلي في بلدان كثيرة سار، ولا يزال، في اتجاه مغاير، من دون أي خشية من مساءلة فعلية، فما زالت أنظمة سياسية كثيرة تمارس عقوبات الإعدام بحق مواطنيها، من دون محاكماتهم، سواءً عبر محاكمات فعلية أم صوريّة، وهو ما يزيد الشكوك في فاعلية المواثيق الدولية، ومن يمثلها من منظمات وجمعيات دولية، خصوصًا في ظل التعقيدات السياسية الدولية؛ إذ تتباين مصالح الدول الكبرى، وتنعكس سلبًا على سلّم الأولويات في النظر إلى النظم السياسية، ويجعل من نظرتها إلى حقوق الإنسان تتراجع إلى مواضع أقلّ أهمية، لمصلحة البعد السياسي المباشر، وهو ما ينطبق بشدّة على الحالة السورية.

لقد ارتكب النظام السوري في عهد الأسدين انتهاكات جسيمة بحق معارضيه في محطات عدة، بدءًا من الاعتقال التعسفي والسجن لمدد طويلة من دون محاكمات؛ وصولًا إلى التعذيب بشتى بطرق ووسائل شتى، وبالإعدام، وهي في معظمها انتهاكات باتت موثقة لدى جهات حقوقية محلية أو دولية عديدة، ومع ذلك؛ فإن المجتمع الدولي كان ولا يزال يتعامى عن تلك الانتهاكات، انطلاقًا من مقاربات سياسية، أمكن لنا أن نسميها مقاربات سوريالية، خصوصًا من جهة تعارضها مع المبادئ الإنسانية التي يدعيها لنفسه، إضافة إلى المفاضلة في كثير من الأحايين بين “السيئ” و”الأسوأ”، في عدّه، على سبيل المثال لا الحصر، أن النظام السوري هو أفضل من الجماعات الإسلامية والتكفيرية، متناسيًا أن النظام نفسه هو نظام إرهابي وتكفيري، يرى في الآخرين خارجين عن دينه في الحكم.

هل كان لكبار السورياليين، من أمثال أندريه بريتون وسلفادور دالي، وغيوم أبولينير، وغيرهم من مؤسسي السوريالية، أن يتصوروا مشاهد القتل كما رواها الناجون من سجن صيدنايا؟ ومقارنة خيالاتهم الجامحة، والمنفلتة من كل ما هو واقعي، بخيالات السجانين التي لا يمكن فهمها واقعيًا ولا منطقيًا، وعدّها نوعًا من السوريالية، لكنها سوريالية مقلوبة، ومضادة لتوق الإنسان إلى الانفلات من الواقع إلى عالم أكثر حرية، فهي سوريالية قائمة على الانفلات من الواقع من أجل تدمير الإنسان نفسه، وقتل أي حلم لديه بالحرية.

إن ما يستحق الدرس فعلًا ليس معاناة الضحايا فحسب، بل برودة أعصاب القتَلة، وهم يسوقون ضحاياهم إلى الإعدام، وكيف أمكن لهم ألا يتأثروا بعذابات واستغاثات الضحايا، وأن يقيموا حاجزًا بينهم وبين الضعف الإنساني الذي تمثّله الضحية العزلاء، وأن يمارسوا حيواتهم الاعتيادية من دون أن تلاحقهم الكوابيس.




المصدر