في معنى السياسة السورية
10 شباط (فبراير - فيفري)، 2017
عمار ديوب
شكّل تغيّيب السياسة، بما هي صراع برامجٍ، لعقودٍ متتاليةٍ مشكلة حقيقيّة في فهم معنى السياسة هذه. أصبحت بذلك سياسةٌ تكتيكية لا برامج فيها، وتتمحور حول قضايا بعينها، كالديمقراطية أو المواطنة أو حقوق الإنسان، ولدى أغلبية القوى الحزبية المعارضة أصبحت مشكلة سورية هي في الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية. السياسة في ما يخص شكل السلطة تتضمن هذه المسائل، ولكنها لا تنحصر فيها، فهي تتضمن جوانب متعددة، اقتصادية وأيديولوجية وفكرية وتعليمية ومسائل أخرى. حصر السياسة في جانب واحد محاولة لتغييب الأشكال الأخرى، وبحدوث ذلك التغييب، تُمرر تلك الجوانب؛ إذ لن تكون البرامج الجديدة للقوى المعارضة مختلفة فعليًا عن البرامج السائدة للنظام الحاكم. يستثني من ذلك الصراع على شكل السلطة بالتحديد.
لم تتغيّب السياسة فحسب، بل وكل أشكال التعبير والمطالبة بالحقوق، ومن ثم؛ ساد شكلٌ من الوعي المحلي، والأخلاقي والديني بامتياز. في هذه الحالة يصبح من المستحيل للوعي الأولي هذا البحث عن برامج مُستقاة من الواقع، ويصبح السؤال الواقعي، ما الأوضاع التي كان عليها السوريون عام 2011؟ الأوضاع في كليتها وليس في جانب منها! ولو تجاوزنا النقاش في هذه الموضوع، وقد كُتبت بعض الدراسات القيّمة حول ذلك، فإن السوريين كانوا يعيشون تحت نظام أمنيٍّ إفقاريِّ، ويتجه نحو سياسات ليبرالية جديدة، تتخلى فيها لدولة تخليًا تامًا عن المُفقرين، وتتحوّل إلى دولة لصالح الفئات الليبرالية والثرية عامة. هذا لم يكن واقع السلطة السورية، بل واقع كل سلطة ثار عليها العرب منذ أواخر 2010، من تونس إلى اليمن.
يتجدّد سؤال الديمقراطية ذاته بين السياسيين والمثقفين السوريين، وبالكاد يجري تجاوزه إلى الشروط المشار إليها آنفًا، ومن ثم؛ يُبتعد عن طرح الواقع بشروطه، في جميع مستوياته. وبتغيّيب ذلك، يغيب الطرح الوطني العام، وتغيب المعالجات الوطنية العامة كذلك. استعادة الوطني، بوصفه هيكلًا جامعًا لمختلف القضايا، يتطلب -بالضرورة- طرح جميع جوانب الواقع، وحينها يمكن الافتراق الكلي عن رؤية النظام، والتمحور في قضايا المجتمع، ومن ثم؛ الوصول إلى صياغات: لماذا أخفق السوريون في ثورتهم، ولماذا لم تنتصر، وكيف يمكن إدارة الصراع في الوقت الراهن.
سورية الأن في مرحلة اجتثاث كل ملمح للثورة، وتقع تحت الاحتلالات الخارجية، وفي إطار سيطرة الفصائل السلفية أو الجهادية، وهناك القوى الكردية النزاعة إلى الابتعاد عما هو وطني، والتفكير بما هو قومي، وبعدائية مع العرب، ويضاف إلى ذلك التهميش الكبير الذي يعيشه ملايين السوريين تحت سيطرة النظام، عدا عن ملايين المهجرين قسرًا إلى الدول المحيطة بسورية، أو في كل جهات الأرض.
اللوحة هذه هي شكلٌ توصيفيٌّ للوضع السوري، وفي هذا الإطار -بالتحديد- تحدث المداولات الخاصة بمستقبل سورية، وتُطرح الرؤى والأفكار عن الواقع وعن كيفية إدارة حياة السوريين العامة والخاصة. في هذا الوضع، وفي كل وضع، لا يمكن تجاهل جميع الشروط التي يتشكل منها واقع ما، ومن ثم؛ صوغ سياسة سليمة، يتطلب الوعي الدقيق باتجاهات هذا الواقع، وكيف سيتغيّر، وكيف يمكن إعادة تشكيل بلد لكل السوريين. فكرتنا هذه متعلقة بميزان الفشل، أو تجاوز المشكلات بالتحديد.
يمكننا إعادة صوغ الأفكار السابقة: يحكمُ سوريّة نظام أمنيٌّ إفقاريٌّ، ويواجه بثورةٍ شعبية، وتُسيطر على الثورة معارضة لا تمتلك برنامجًا وطنيًا. النظام والمعارضة يرتهنان بتتالي سنوات الثورة للصراعات الإقليمية، ونضيف هنا: إغلاق النظام جميع الممكنات نحو أي حل سياسي، إصلاحيا كان أم ثوريًا. الاستنتاج الواقعي -هنا- أن هذا الواقع دمر الثورة والنظام، وبات المتحكم الأساس بالوضع السوري الخارجُ الإقليمي والدولي. ودفع هذا الخارج النظام إلى التصلّب، وشوّه المعارضة، وأفنى الثورة، وبذلك؛ أمست سورية محكومة للخارج، ولتنظيمات سلفية وجهادية، وللفصائل العسكرية.
الواقع السائد هو ما وصفناه، ولكن هناك دائمًا ممكنات أخرى، ممكنات تتفعّل بمقدار ما يسمح الواقع بذلك فحسب. فإن يُغلق أفق الصراع المسلح، ويُفتح أفق المداولات بالسياسة والتفاوض، فهذا يعني أن هناك ممكنات واقعية، وعليه؛ ما الذي تفعله المعارضة في الوقت الراهن؟!
المعارضة بتنوعها وخياراتها المختلفة متشظية، وموزعة بين التبعية للدول الخارجية، ومن شذّ عن التبعية لم يتبلور في أحزاب أو تحالفات قادرة على فرض رؤية جديدة لمجمل الواقع السوري. نقصد من ذلك أن جملة المشكلات التي أصحبت عليها سورية، باتت تتطلب عملًا سياسيًا معقدًا وبرنامجيًا.
الآن، هناك مداولات تخص الحل السياسي، وسيُفرض حلٌ يراعي مصالح الدول المتدخلة في سورية كافة، وفي إطار الهيمنة الروسية على سورية. هذه الفكرة تعني أن السوريين سيخضعون لاحتلالات متعددة، ومن ثم؛ لنهب ثرواتهم، وقد لا يفوزون بالحدود الدنيا لحق التعبير، ولا سيما أن التنسيق الروسي- الأميركي- التركي- الإسرائيلي، ليس ضمن أولوياته النهوض بسورية. إذن؛ لا خيار أمام القوى السياسية خارج القوى المُكرّسة سوى قراءة الواقع مجددًا، وفق ما وصفناه بعامة، وكذلك وفق ما هو عليه.
السياسةُ تعبيرٌ عن صراع برامج، وتعكس مصالح قوى سياسة واقتصادية وشعبية معينة، وضمن توجه فكري وفلسفي واستراتيجي معين. ضمن تعريف كهذا، ونظرًا لتعقيدات الواقع وما وصل إليه، يغدو أيّ سياسة تغفل جانبًا من الواقع سياسة تفتقر إلى البعد الوطني والشعبي والحداثي.
نجمل القضايا التي على السياسة أن تقدم رؤيتها الواضحة في شأنها؛ لتكون فاعلة وممثلة لجانب كبير من الواقع: أولًا؛ النقاش حول كيفية النهوض بالاقتصاد السوري، وبعيدًا عن رؤى برامج الإعمار، فهي برامج نهب وتبعية للاقتصاد السوري، وهذه النقطة يمكن أن تقوم بها رؤوس أموال خاصة وعامة وخارجية، ولكن ضمن خطط للاقتصاد الوطني. ثانيًا؛ كيفية تمكين المواطنين في مدنهم وقراهم ومعاملهم وأماكن وجودهم، بحيث يكونون قادرين على المساهمة في صوغ حياتهم، بعيدًا عن أي شكل تسلطي، ولكن دون الاعتماد على أي علاقة تنطلق من العائلة أو الدين، وإنما من الحاجات الأساسية للمواطنين، وثالثًا؛ رفض كل تشكيل سياسي ينطلق من الطائفة أو الدين، وأن يكون منطلقه مسألة المواطنة وشرعة حقوق الإنسان والحقوق العامة للمواطنين، وفي أكثر من مدينة سورية، ورابعًا، الاعتراف بالقوميات المتعددة التي تتشكل منها سورية، وأن تكون المواطنة هي الرابطة بين تلك القوميات، والبحث عن أشكال من الحكم، بما يُراعي مصالح تلك القوميات، وخامسًا عدّ مهمة التخلص من الاحتلالات مسألة سياسية بامتياز، ووضع جميع البرامج السياسة لهذه المهمة المعقدة.
مسألة السياسة في سورية مسألة معقدة جدًا؛ لأسباب تاريخيّة وراهنيّة، كما أوضحنا، وهي تتعقّد أكثر بسبب الضعف الشديد لدور السوريين فيها، وسطوة الاحتلالات والسلفية والجهادية. فهل من نقاشٍ جادٍ حول هذه القضية؟!
[sociallocker] [/sociallocker]