الألمان في غاية الحرص


قد يفاجئك صديقك الألماني في أحد المقاهي بأنه سيتقاسم معك فاتورة القهوة التي لا تتعدى قسمتها 7 يورو، فتدفع أنت النصف وهو النصف. وإذا زرته لن تجد أطباقاً مليئة بالطعام، بل كمية محدودة تكفيك لتشبع فقط. لن ترى الألماني يبدّل ملابسه أو أحذيته كثيراً، وقد تراه، أو تراها، في عدة مناسبات، بالقميص أو الفستان نفسه من دون شعور بالحرج أو العيب. في الوقت نفسه، سيخبرك بين فترة وأخرى أنّه مسافر هنا وهناك لاكتشاف مكان جديد والبحث عمّا هو مثير.

هذا السلوك الذي يراه كثير من العرب بخلاً، يدرجه الألمان تحت مسمى التوفير وحسن إدارة الموارد. الأمر لا يقتصر على الطبقات الوسطى أو الفقراء بل يصل إلى الأغنياء. هو سلوك يتعلق بطريقة التفكير بالمال، ففي الدرجة الأولى لا يحصل الألماني عليه بطريقة سهلة، وساعات العمل الطويلة هي حياته بكاملها، كما أنّ لديه التزامات مالية كثيرة، فدفع الضريبة والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي والتقاعد تعتبر أربع قنوات رئيسية لدفع المال لا مفرّ منها في النظام الألماني، فبمجرد أن تقيم في ألمانيا، وإن لم تعمل، ستصدر لك الحكومة رقماً ضريبياً.

كذلك، فإنّ أولويات الألماني ودوافعه للتوفير تختلف، فهو إذا تمكن من توفير مبلغ مالي سيخطط لرحلة، أو لتحسين شيء ما في أثاث المنزل أو لشراء المزيد من التكنولوجيا يضيفها إلى ممتلكاته التي تسهّل حياته الخاصة، وربما يشتري سيارة أو دراجة أحدث مما يملك. كذلك، يوفر كثيرون من أجل الدراسة المستقبلية لأطفالهم. إذاً، فالمظاهر المتعلقة بالدعوات والثياب الباهظة غير مدرجة في تفكير الألماني.

يبدأ التفكير بالتوفير عند الألمان منذ الصغر، فالطفل يتعلم ما الذي يعنيه المال. الأطفال في عمر خمس سنوات أو ست يتلقون هدايا لافتة من الأهل منها دفتر توفير، وهو دفتر ملون تزينه رسومات تشجعهم على ادّخار ما يحصلون عليه من هدايا مالية خصوصاً في مناسبات عيد الميلاد وأعياد ميلادهم. كذلك، فإنّ الحصّالة المنزلية ما زالت محببة إلى قلوب كثير من الأطفال. يفهم الصغار منذ سنواتهم الأولى أهمية العمل والإنتاج والنقود، وربما في كثير من المرات التي يطلب فيها الأطفال شيئاً خاصاً من الأهل يبادر الأهل إلى القول: “عليك أن تجمع ثمنه أو جزءاً منه بنفسك”. الأمر نفسه ينطبق على المراهقين الذين يبدؤون العمل في فصل الصيف لتخفيف الاعتماد على الأهل، أو لجمع المال لقضاء إجازة أو تمويل رحلة صغيرة. تقول كريستينا وهي طبيبة: “ابنتي في السادسة عشرة من عمرها، قررت أن تقضي عطلة صيفية أربعة أسابيع في الولايات المتحدة. لم نمانع لكن حددنا لها مبلغاً مالياً وقلنا لها إنّ عليها أن تتدبر أمرها به. فالمطلوب أن تعرف كم كان مكلفاً أن نزور المطعم باستمرار تبعاً لرغبتها عندما كانت تذهب بصحبتنا. الآن بدأت تستوعب لماذا كنا في كثير من الأحيان نرفض مثل هذه الطلبات المكلفة”.

من جهة أخرى، على الأهل توفير مبلغ مالي للمراهقين حتى إذا بلغوا الثامنة عشرة عليهم أخذ دروس خاصة في القيادة وهي مكلفة، كما على الأهل شراء السيارة للشاب أو الشابة، لذا يعتمدون مع المراهق الوضوح وعدم إخفاء الحقائق. تقول كلوديا، وهي مهندسة معمارية، إنّها كمهندسة وزوجها موظف في قسم الضرائب، لهما راتبان واضحان: “لذلك، كان علينا منذ كان ابننا صغيراً أن نوفر المال له على شكل تأمين مالي خاص للسيارة. قلنا له هذا وهو تفهم أنّ كثيراً من الأمور علينا إلغاء إنفاق المال عليها مقابل توفير مبلغ لسيارته المستقبلية وشهادة القيادة”.

على عكس كثير من الشعوب، يعتمد الألمان الصراحة والوضوح في العائلة بخصوص الشؤون المالية، سواء بين الزوج والزوجة أو بين الأولاد والأهل. ولا يعتمد الكثير من الأسر على الإفراط في تدليل الطفل وشراء كلّ ما يحلو له، من دون إفهامه القيمة المالية لهذه الممتلكات، سواء كانت دراجة أو هاتفاً محمولاً أو جهاز كمبيوتر.

كذلك، فإنّ المناصفة المالية بين الزوج والزوجة أمر طبيعي جداً في ألمانيا. هوبرت وسيغيلندا، مثلاً، متزوجان منذ 20 عاماً، لكنّ هذا لا يعني أن يشتري هو الثياب والأحذية ومستلزماتها الأخرى، بل عليها أن تدفع ثمن أشيائها الخاصة، بالإضافة إلى مشاركتها في مصروف المنزل ودفع قسم من إيجاره. وفي مستوى آخر من العلاقات، قد يتقاسم الشركاء فاتورة الطعام في المطعم أو فاتورة المشتريات من السوبرماركت بكلّ رحابة صدر، ومن دون أن تخلق المناصفة المالية أيّ مشاكل عائلية.



صدى الشام