on
نيسم جلال: موسيقى الغضب والحزن والألم
يتشعّب سؤال الهوية في تجربة عازفة الفلوت السورية نيسم جلال ليصبح مركزياً، وهذا جلي في المقطوعات التي تعزفها وتأخذنا بشكل تلقائي إلى تتبّع رحلة ابنة كفر نبل السورية التي وُلدت من أبوين مهاجرين في فرنسا، وأُشبع فضاء نشأتها بأغاني أم كلثوم وصباح فخري ومحمد عبد الوهاب، ويُمكن للمتابع ملاحظة ذلك في اشتغالات جلال اللاحقة حتى لو كانت على قوالب موسيقية غربية.
تذهب صاحبة ألبوم “الموت ولا المذلة” صوب مساحات جغرافية وروحية جديدة ضمن مسار حياتها الشخصية والمهنية، حيث تقودنا آثار الإيقاعات الأفريقية مع أطياف أندلسية إلى حلب وفاس والقاهرة، وتقدّم عبر الفلوت والناي مقامات الموسيقى العربية.
منذ السادسة من عمرها، بدأت جلال بالعزف على آلة الفلوت ثم درست الموسيقى الكلاسيكية الغربية، لتقوم بعدها بجولة موسيقية في مالي مع فرقة “تاراس بولبا” التي تأسّست في إيطاليا. لكن هناك ما كان يشدّها نحو البلاد فانتقلت من فرنسا إلى دمشق في سن التاسعة عشرة لدراسة الموسيقى الشرقية، وتتلمذت على يد مسلّم رحال (من أبرز عازفي الناي في سورية) سنة 2003.
عن تلك الاستدارة، تقول نيسم في حديث إلى “العربي الجديد”: “في فرنسا عندما تنشأ في عائلة مهاجرة تصدمك العنصرية القوية تجاه الأجانب وتجاه العرب بشكل خاص، ما يُسبّب نوعاً من الضياع لأنك تشعر بالانتماء تلقائياً إلى هوية مكروهة”، وتضيف “كان الدافع الموسيقي أساسياً كذلك في ذهابي إلى سورية بحثاً عن الهوية، والتعرّف أكثر على ملامح تلك الهوية المكروهة ضمن اللاوعي الجمعي الفرنسي، وهذا يتعلّق طبعاً بتاريخ طويل لم يبدأ مع الحملات الصليبية على المنطقة العربية ولم ينته مع الفترة الكولونيالية”.
الحديث عن الهوية يقودنا إلى تلمّس تأثيرات الموسيقى الأندلسية في اشتغالات جلال، والتي تشير إليها قائلة: “المراد دوماً هو تغييب هذه الفترة من تاريخ العرب التي تظهر فيها الحضارة العربية كملتقى للحوار الثقافي والتعايش وتقدّم الفنون والعلوم والعمارة المتطوّرة جداً. الحقبة الأندلسية لا وجود لها في مناهج التعليم الفرنسية، لذلك كنت أتعمّد في ورشات العمل التي أقيمها مع طلاب المدارس الإضاءة على هذه المرحلة التاريخية التي لا يمكن ولا بأية وسيلة إزالة أثرها القوي على الحضارة الأوروبية والعالمية”.
بعد إقامتها في دمشق، امتلكت جلال خبرة أوسع بالموسيقى العربية، فكانت مصر وجهتها الثانية، حيث ارتحلت إلى القاهرة سنة 2003، وأقامت ثلاثة أعوام عملت خلالها مع عازف الكمان المصري عبده داغر، وعازف البيانو فتحي سلامة وفرقة “بلاك تيما”، إضافة إلى إسهامها في تأسيس فرقتي “الدور الأول” (2004) و”باكاش” (2005).
تصف الموسيقية السورية تلك المرحلة: “على المستوى المهني قدّمت مصر لي الكثير، إذ قضيت أيامي فيها بتعليم مستمر؛ الوسط الفني المصري غني وكبير جداً، وهناك ألفّت أولى مقطوعاتي الشخصية، وتعرّفت أيضاً على الموسيقيين الصوفيين البارزين مثل الشيخ ياسين التهامي”.
عادت جلال إلى فرنسا سنة 2006، وبدأت تعاونها مع مغني الراب اللبناني ريّس بيك، حيث قدّما حفلاتهما المشتركة على عدّة مسارح في أوروبا، ثم تعاونت في 2008 مع عازف العود المصري حازم شاهين، إضافة إلى تعاونها مع موسيقيين أفارقة في باريس، منهم: الشيخ تيدان سيك، وشريف سومانو، وماماني كيتا من مالي، وبريس واسي وهيلاري بيندا من الكاميرون، وفاتموتا ديوارا من ساحل العاج، وغيرهم، ما جعل من إيقاعات القارة السمراء وشجنها حاضراً في اشتغالات المؤلّفة الموسيقية السورية.
تقول نيسم: “تأثّرت بالموسيقى الأفريقية كثيراً لأني أنتمي إلى ضواحي باريس ومفقّريها، تربيت فيها مع الأفارقة والمغاربة وعندما كنت أسير في الشوارع كانت تتناهى إلى مسامعي بإيقاعاتها الساحرة، لتغدو جزءاً أساسياً من هوّيتي”.
المحطّة الأبرز في تجربتها كانت تأسيس خماسي “إيقاعات المقاومة” عام 2011، وهو مشروعها الشخصي الذي اختبرت هويّته وقدرته على الاستمرار عبر إقامة الحفلات وتأليف المقطوعات منذ أن أطلقت ألبوم “أسلوب حياتي” سنة 2015.
وعن تزامن مشروعها مع انطلاقة الثورات العربية توضّح نيسم: “لم يكن هذا الأمر مقصوداً تماماً، لكن الثورات العربية أثّرت كثيراً على تجربتي، وإن كانت المقاومة مرتبطة وغير مرتبطة بالسياسة لأسباب عديدة، مثلاً في فرنسا تتنامى العنصرية يوماً بعد آخر، ويأخد مجتمعها بالانغلاق أكثر فأكثر، لذلك أطلقت هذا الاسم على الفرقة كما اخترت العمل مع موسيقيين من جنسيات مختلفة، كما أننا نحيا في عالم رأسمالي يريد دائماً شكلاً واحداً للثقافة والفن والموسيقى المعدّة والجاهزة للاستهلاك السريع، ومجرّد فكرة تقديم مشروع موسيقي فيها نوع من المقاومة”.
في ألبومها الأخير، أخذت جلال التي درست الفلسفة إلى جانب عملها الموسيقي، أبرز هتافات الثورة السورية، حيث يتمازج فيه الغضب مع الحزن والأمل جنباً إلى جنب لتكون نواة مقطوعات الألبوم، ومن بينها: “حلب”، و”أبطال كفرنبل”، و”الموت ولا المذلة”، وهي تصف تجربتها: “ما حدث سنة 2011 جعلني أنتمي بشكل أكبر إلى سورية، وأكون فخورة بهويتي السورية”.
يبرز في مقطوعات الألبوم شغفٌ بسرد الحكاية، فكل واحدة تبدو كأنها سيناريو يحتوي حبكة درامية متصاعدة؛ في مقطوعة “الموت ولا المذلة” يندثر الهدوء الموجود في الخلفية مع تفريدات الفلوت وتتالي صيحات الغضب قبل أن يخيّم مشهد حزن طويل لا ينتهي بانتهاء المقطوعة.
تختم جلال حديثها لـ”العربي الجديد” قائلة: “في كل مقطوعة أجرّب أن أروي لأن الموسيقى لغتي، فلا أحاول أن أحصر المستمع في طريق تخييليّة واحدة ولا أن أترك عملي من دون ناظم حكائي، لكن أسعى في كلّ عمل إلى أن أمتلك حكاية ذات خطوط وملامح تتجدّد عند انتهاء كل عملية سماع من دون أن تبقى رهينة الاستماع الأول”.
صدى الشام