أمسية برلين لذكرى صادق جلال العظم: إرث واحتفاء وجائزة


في ألمانيا بلاد الفلسفة، وتحديدًا في العاصمة برلين، أقيمت في العاشر من الشهر الحالي أمسية في ذكرى رحيل المفكر السوري الكبير صادق جلال العظم (1934 -2016).

التأمت الأمسية في مبنى البلدية المهيب والضخم، في قاعته الرئيسة بحضور كبير. الأمسية نظمت بالتعاون بين مؤسستي “ابن رشد للفكر الحر”، و”مؤسسة صادق جلال العظم للثقافة والتعليم”. وجاءت ممثلة إلى حد بعيد لـ “عالم” صادق جلال العظم إن جاز التعبير، من خلال المشاركين المنتقين بعناية في الأمسية وصولاً إلى الاختيارات الموسيقية التي رافقتها. وظهر
واضحًا كيف أن تفاصيل صغيرة أضفت على الاحتفاء متعة.

وبعد الترحيب من السيدة إيمان شاكر العظم، زوجته، والسيدة كورا جوستين من “مؤسسة ابن رشد للفكر الحر”، كانت البداية بكلمة فاريبا ديركشاني ممثلة عن “صندوق الأمير كلاوس”، وكان العظم عضواً في لجنة الجائزة التي يمنحها الصندوق، لمدة أربع سنوات (2002-2005). فتطرقت إلى هذه الفترة، وشعور القائمين على الصندوق بأنهم محظوظون بوجود العظم معهم بسبب كفاءته وإنسانيته في آن معاً. وأسرت كيف أنها لا تزال، إلى اليوم، تحتفظ بأوراق الفاكس التي كان يرسلها بخط يده من دمشق، وأنها تتمنى أن تكون قادرة على عمل شيء منها. ووصفته قائلاص: “كان رؤيوياً حقيقياً ورجلاً شجاعا جدا، ذا فهم عميق للعالم العربي والإسلامي”، فالعظم جمع، في آن واحد، الثقافتين العربية والغربية، ما مكَّنه من وضع “تحليلات واضحة فنَّد من خلالها الصور النمطية الخاصة بالشرق والغرب”.

وإذ إن الجائزة تعنى بالفنون والثقافة، كما هو معروف، ذكرت ديركشاني بحماسة العظم وابتهاجه حين منحت للشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 2004. وأشارت إلى دوره في لفت الانتباه إلى قامات ثقافية عربية أخرى في العالم العربي، ربما كانت الجائزة أغفلتها.

وبالطبع تطرقت أيضا إلى العلاقة الإنسانية التي جمعت جلال العظم مع اللجنة والمؤسسة، وكيف أنه بقي مستشارًا مخلصًا وصديقًا لصندوق الأمير كلاوس. ولم تفتها الإشارة إلى أن تلك العلاقة الطيبة المستمرة، كشفت أيضاً خاصة في السنوات الأخيرة، رحلة المنفى والشتات السوري التي مرّ فيها المفكر الكبير.

رحبي بموتي

وكان مقرراً في برنامج الأمسية أن تلقي الشاعرة السورية لينا الطيبي كلمة زوجته السيدة إيمان شاكر العظم، بيد أنها أوضحت أن عاطفية الكلمة وحميميتها، دفعتا إلى حثّ السيدة إيمان على أن تفعل رغم تأثرها الشديد. ورسمت السيدة إيمان في كلمتها صورة رقيقة لزوجها في أيامه الأخيرة “الذي ابتسم للموت مرحباً ومتسامحاً ومتصالحاً مع الذات”. وذكرت كلماته الأخيرة لها:”ارحمي موتي يا إيمان، ليس لدي أي رغبة بأن أعيش مثقلا على أحد… رحبي بموتي ليكون جميلاً خفيف الظل، فأنا لا أريد حياة تفتقد المعاني”. ووصفته بأنه “صادق الصادق، والوحيد الذي ينطبق عليه اسمه تماماً من دون لبس”.

أما السيدة سمية العظم، مديرة “مؤسسة ياسمين للمساعدة”، والعضو في مؤسسة “صادق جلال العظم للثقافة والتعليم”، فقد أعطت فكرة عن هذه المؤسسة التي أقامها المفكر عام 2012، وهدفت أولًا إلى تعليم الأطفال في مدينة إدلب السورية، فأمنت تعليماً لـ 240 منهم، فضلاً عن المحاضرات ودورات المعلمين والتدريب والتأهيل المرافقين لشؤون الثقافة والتعليم.

جائزة صاق العظم

وأعلنت أن المؤسسة، وبالتعاون مع مؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة، فتحت باب الترشح لجائزة باسم صادق جلال العظم في الثقافة والفنون للباحثين السوريين والفلسطينيين، من خلال “إنجاز بحث يركز على مواضيع المرحلة الراهنة” على أن ينشر البحث في النصف الثاني من عام 2017 بالشراكة مع دار ممدوح عدوان. وأن يكون البحث الثقافي “في مواضيع مرتبطة بما تمر به سورية اليوم، وبالأدوار الجوهرية التي يمكن للباحث والممارس الثقافي أن يلعبها، وذلك من خلال مجموعة من المحاور تبدأ من خلال الحفر في البنى الثقافية الفاعلة في المجتمع السوري للكشف عن الأسباب العميقة للتهميش الثقافي، مرورًا برصد ديناميات التحول في الثقافات السورية الموروثة منها والمكتسبة خلال الحراك، وكذلك رصد ملامح الثقافة الجديدة في عملية التغيير وباستشراف هذه الثقافة السورية الجديدة في المستقبل القريب. ويمكن تناول قضايا ترتبط بعمليات الإبداع الفني والأدبي والفكري والموسيقي التي تواكب عملية التغيير، إضافة إلى قضايا الإدارة والسياسات الثقافية والقضايا المتعلقة بالمؤسسات المعنية بالشأن الثقافي، فضلاً عن المواضيع العريضة التي تغطي المسيرة البحثية والفكرية للمفكر صادق جلال العظم والتي لا تزال مسائل ذات راهنية ومنها: الدولة العلمانية والخطاب الديني، ودور المثقف في التغيير المجتمعي والسياسي، وفي العلاقة مع الأحداث السياسة الراهنة، وجبرية خطاب الأنظمة الاستبدادية، ومفهوم الهزيمة وتحولات الخطاب الإسلامي”.

الكواكبي يكتب للعظم

وإذ لم يستطع الباحث والكاتب السوري سلام الكواكبي، رئيس مجلس الأمناء في “مؤسسة اتجاهات”، الحضور، فقد نقلت عنه السيدة سمية، عكفه على كتابة رسالة متخيلاً أن جده التنويري الكبير عبد الرحمن الكواكبي يرسلها إلى صادق جلال العظم المفكر التنويري أيضاً، وأن يختمها مقتبسًا من كتاب “طبائع الاستبداد” للكواكبي بالمقطع الآتي: “والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل مستبدّ يسعى بجهده في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل، والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار النّاس، والغالب أنّ رجال الاستبداد يُطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أنّ كلّ الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء”.

كلمة إيفان العظم، نجله، كانت بدورها عاطفية، مقسمة إلى ذاكرة الطفولة والمراهقة والشباب في بيروت فدمشق فاللقاء في أماكن شتى، تظللها باستمرار قامة الأب أستاذ الفلسفة والمفكر وطريقة تنشئته لأولاده في بيئة ثقافية صلبة، لكن منفتحة وديمقراطية قبل أي شيء آخر. وقد أشار إيفان العظم أيضًا إلى إنشاء “مؤسسة صادق جلال العظم” مؤخرًا.

أما الباحث الألماني فيرنير إنده، فتطرق إلى “عمل صادق وأهميته في أوروبا”، وعاد إلى ندوات الاستشراق التي عقدت في ستينيات القرن المنصرم، التي هدفت إلى خلق بيئة محفزة للباحثين الألمان والعرب معًا، وإن كانت تلك الندوات تدور في فلك الدراسات التقليدية والكلاسيكية والعلوم الإسلامية، فإن محاضرة العظم “مأساة إبليس” في لبنان عام 1965، كان لها الأثر البالغ في الدفع باتجاه الراهن فكريًا في لبنان والعالم والعربي، وذكر أن باحثًا ألمانيًا هو شتيفان فيلد، وكان مديرًا للمعهد وقتها، كتب في هذا الخصوص مقالًا عن عمل صادق في الدورية العلمية المحكمة Der Islam. وكانت تلك البداية لاشتهار عمل العظم على المستوى الأوروبي البحثي، خاصة، وذكر كتبه السجالية الأخرى، خاصة “ذهنية التحريم” مبديًا إعجابه بـ ديمقراطية العظم في نشر الانتقادات عن أفكاره في الكتاب نفسه.

عواصف سياسية

كلمة “مؤسسة ابن رشد للفكر الحر”، ألقاها مدير المؤسسة وصديق العظم الدكتور نبيل بشناق، وجاءت كمسح تاريخي للحياة الثقافية العربية وتطلع المثقفين العرب في النصف الأول من القرن العشرين، حيث “كنا نتطلع إلى التقدم الفكري في العالم العربي نقرأ كتبا تنويرية مثل “الأيام” و”مستقبل الثقافة” في مصر لطه حسين، و”الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق وتحرير المرأة لقاسم أمين”، قبل أن ينتقل إلى وصف أثر الأحداث (1948، 1967) والعواصف السياسية الشديدة على المنطقة العربية وكيف كانت “صادمة بكل المعاني” مبينًا كيف أن “جمهرة المجتمعات العربية والمفكرين راحوا يبحثون عن أسباب السقوط الصعب، فقد ساهمت كل الإيديولوجيات في الجهد التحليلي وكان أقواها تأثيرًا اتجاه الإسلام السياسي”، متابعاً: “لم يكن من السهل أبدًا الوقوف أمام مد الفكر الديني، خصوصاً لميل الناس الفطري نحو الإيمان بالغيبيات باسم المقدس. وبعد هزيمة 1967 المدوية، تصدى عدد من الكتاب لنقد ما حصل ونقد ذلك الفكر الغيبي، وكان أهمهم تأثيراً في رأيي المفكر الشاب آنذاك صادق جلال العظم، متسلحاً بالفكر الفلسفي العقلاني ومؤيدا كبيرا للحرية والعقلانية والعلمانية، فكتب نقد الفكر الديني والنقد الذاتي بعد الهزيمة، مما سبب له الكثير من المتاعب والملحقات القضائية، و”قد جذبني ذلك الرجل بشجاعته وتصميمه، بتفكيره الصافي وهو يرى أن التفكير الديني كتعليم للسياسة والتاريخ قد ولى. فوجدته يفتح أمامي طريق الأمل”.

وانتقل إلى أجواء الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، منوهًا أنهم كانوا قد تشبعوا بأفكار العظم في ظل خفوت صوت أصحاب الفكر الوطني التقدمي حيال الحركات الدينية، وأنه في عام 1998 فكر بإنشاء مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، ولقي من العظم وغيره من المفكرين العرب كل تشجيع، واقتطف من الفاكس الذي أرسله العظم بخط يده وقتها، وأوضح أنه لم يكن يعرفه شخصيا وأنه التقاه بعد حوالي عقد من الزمان هنا في برلين، فوجده على صورته من كتبه “الإنسان المنطقي العقلاني الهادئ، كان بمواقفه الفكرية يسمو فوق السياسة والإيديولوجيا. ولأن فكر صادق جلال سابق لوقته، فسيكون لفكره على الأجيال العربية القادمة أيضًا أعظم الأثر”.

وكان صادق جلال العظم قد أوصى عند وفاته أن تقرأ في جنازته قصيدة “لاعب النرد” لصديقه الشاعر محمود درويش، (وكانا قد تزاملا أيضًا في مؤسسة الأبحاث الفلسطينية في بيروت) وفي هذه الأمسية أيضًا قدم الدكتور خالد حروب للقصيدة (وضعت على شاشة كبيرة) منوهًا أنها المرة الأولى التي يطلب فيها مفكر قراءة الشعر في جنازته، وإن كان درويش “لاعب النرد” كما وصف نفسه في القصيدة، فإن صادق جلال العظم بتعبير حروب “صانع النرد”.

حسٌّ ساخر

الكاتب الألماني كارستن فيلند تطرق بدوره إلى العلاقة الشخصية التي جمعته بالمفكر وزوجته واعترف أنه “لم أفهم أبدًا أطروحة صادق عن إيمانويل كانط، نظرية الزمن مهما حاولت” وأن ذلك لم يكن ليشكل شيئا في الصداقة بينهما. وركز على التواضع الشديد للمفكر الكبير وكيف أن “العالم المادي لم يعن له شيئا إذ لم يشكل تحديا له”، كما على روح المغامرة وحب الحياة لديه فضلا عن حسه الساخر، من دون أن ينسى الإشارة إلى أن صادق أمضى سنواته الأخيرة لاجئا”.

ولا بد من القول إن كل الفقرات الموسيقية في الأمسية كانت مميزة ومنتقاة وفقًا لتفضيلات المفكر الكبير، سواء أكانت أغاني إيديث بياف الفرنسية وفرقة سورية من النساء غنت من التراث الشامي، كما من أهازيج الأعراس في الجولان المحتل، التي لا تناجي إلا سورية الأم، وبالطبع الغناء الصوفي للموسيقي السوري بشار زرقان، أم من القطع الموسيقية المؤلفة خصيصًا لصادق جلال العظم، على البيانو و Duduk، أو خاصة ختام الأمسية مع موسيقي العود العراقي نصير شمة في قطعة فيها تنويع على الأغنية التراثية الشهيرة “يا مال الشام”.

كانت أجواء حميمية وصادقة، أنيقة وخفرة ولبقة، تشبه المكان سورية الذي تحدر منه صادق جلال العظم، وإذ لقب مرة بـ “الدمشقي الكافر” إشارة إلى أفكاره التنويرية السجالية، فقد كان في أمسية برلين مبددًا للغياب هذا الدمشقي الساحر.



صدى الشام