ما سرّ العداء بين التنظيمات المتطرفة والنخب الدينية؟


تُبنى التوجهات الفكرية لأي تنظيم متطرف على عدد من المسلمات النظرية التي يتم «تلقين» أتباعه بها، لضمان الحفاظ على ولائهم وطاعتهم، وانصياعهم تالياً لما قد يطلب منهم من مهمات.

وعلى رغم انتماء معظم التيارات الإسلامية المتطرفة إلى الخط المعادي لتوجه الطرق الصوفية، التي لطالما اعتبرتها تلك التنظيمات، لا سيما في العصر الحديث، سبباً في التقاعس عن تحقيق «غاية الاستخلاف» وبناء «الدولة الإسلامية» ومواجهة أنظمة الظلم والاستبداد المحلي، إلا أن أسلوب تعاملها مع أتباعها يكاد يستنسخ أسلوب الجماعات الصوفية لجهة طلب التقليد والاتباع الأعمى لـ «أمير الجماعة»، في مقابل «شيخ الطريقة» في التصوف.

لقد انتهى المطاف بتنظيم «داعش» بعد انهيار جبهاته في مواقع عدة في العراق وسورية، وخسارته عدداً كبيراً من المقاتلين، وضعف قدرته على استقطاب أتباع جدد من العالم الإسلامي وخارجه في الجاليات المسلمة في أوروبا، بالهجوم العنيف على عدد من كبار علماء المسلمين في البلاد العربية، والتحريض على «قتلهم»، في خطوة أثارت «صدمة» العديد من المتابعين للمسار الفكري لهذا التنظيم، وزادت من القناعة بمأزومية منظومته الفكرية، إن وجدت.

التنظيم أعلن من خلال شريط فيديو حمل عنوان: «عملاء لا علماء»، عن استهداف علماء المسلمين في دول الخليج، والسعودية خصوصاً، ولم يتطرّق إلى أي من علماء الشيعة أو إيران، الذين يدّعي التنظيم قتالهم على الدوام، ويطلق عليهم أثناء بث إصداراته اسم «الرافضة»، أو «حلفاء عُبّاد الصليب»، ولم ينلهم ما ينال علماء المسلمين السنة من القتل والاستهداف طيلة السنوات الماضية.

من هؤلاء العلماء الذين حرّض عليهم تسجيل التنظيم الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، وكلّ من الدعاة: سلمان العودة، ومحمد العريفي، وعائض القرني، إضافة إلى مفتي الديار السعودية، عبدالعزيز آل الشيخ، وعدد من علماء العراق، متّهماً إياهم بالتحريض على مقاتليه، الذين وصفهم بـ «المجاهدين». واتّهم التنظيم في الإصدار علماء المسلمين بـ «التواطؤ» مع الكفار، على حد وصفه، وحرّض على قتلهم ووصفهم بأئمة الكفر.

لا يهمنا في هذا السياق قراءة الشق السياسي من الخطوة التي أقدم عليها التنظيم المتطرف، والتي وإن كانت مفاجئة لجهة توقيتها وحجمها، إلا أنها مفهومة في سياق الصراع الفكري والأيديولوجي مع النخب المسلمة في عالمنا والمنطقة.

قد يظن البعض أن «داعش» يسعى من خلال «استباحة» دماء عدد كبير من علماء المسلمين ونخبهم الفكرية، للرد على مواقفهم التي أعلنوا فيها التصدي له في العديد من المناسبات، وتحريمهم وتجريمهم الالتحاق بصفوفه والانخداع بوهم بريق «الخلافة» الفردوس المفهومي لدى كثير من الشبان المسلمين، لكن واقع الحال، أن التنظيم لم يكن ليستكمل دوره التهديمي والمشوه لصورة الإسلام الناصعة من دون السعي إلى «اجتثاث» النخب الفكرية للمجتمعات الإسلامية بالتصفية الجسدية، بعد أن عجز عن مواجهتها فكرياً.

منذ اليوم الأول لإنشاء التنظيم المتولد من تنظيم آخر عفّى الدهر عليه وانتهى دوره الفكري والأمني في تخريب المجتمعات الإسلامية (تنظيم القاعدة)، كانت معركة المجتمعات الإسلامية مع التنظيم فكرية وأيديولوجية، وبدا واضحاً أن تحقيق أي «نصر» حقيقي عليه لن يتم من دون مواجهة حججه وذرائعه الواهية لتجنيد الشباب والتصدي لها، أما الانتصارات العسكرية فهي تحصيل حاصل لحصاره الأمني والاقتصادي وتجفيف موارده المالية والبشرية.

رغبة التنظيمات المتطرفة في «تشويه» صورة النخب الفكرية والدينية لا ينبع من حساسيتها وحسدها من المكانة التي تحوزها هذه النخب في مجتمعاتها المسلمة، بل يكمن أيضاً في أهمية انتزاع الزعامة المعرفية وأولوية تفسير النصوص الدينية من النخب التقليدية بحجة «قدمها» و «تقادم» فكرها، وضرورة «تجديد» الفكر الإسلامي المعاصر برؤى وطروح جديدة، لا تمتلك هذه التنظيمات المتطرفة، بحكم كون معظمها «قتالي» أي رؤية أو تصور واضح عنها سوى اتباع وسيلة «الهدم الخلاق»!

منذ الأسابيع الأولى من إعلان التنظيم السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي العراقية عام 2014، أصدر مفتي المملكة العربية السعودية موقفاً أكّد فيه أن أعمال التنظيم و «القاعدة» هي «العدوّ الأول» للإسلام، وحذّرت هيئة «كبار العلماء في السعودية»، أعلى هيئة دينية في المملكة من الالتحاق بالقتال في مناطق الصراع؛ مثل العراق وسورية، إلى جانب من سمتهم «المجموعات المتطرّفة»، وقالت إنها «إرهابية»، وشدد بيان «هيئة كبار العلماء في السعودية»، على «تحريم الخروج إلى مناطق الصراع والفتنة، ونبّهت صاحبه من مغبّة فعله، ووقـوعه في ما لا تحمد عقباه».

السلطة المجتمعية وتوسيع هيمنتها السياسية لتشمل جوانب جديدة من الحياة العامة، هو ذاك الذي تسعى إليه التنظيمات المتطرفة بإعلانها الحرب على النخب الفكرية والدينية في العالم الإسلامي، فحاجة «داعش» وأشباهه إلى «احتكار» سلطة تفسير النصوص وتأويلها سياسياً بما يخدم مشروعه الهدام، «مطلب» لا يقل أهمية عن السيطرة الفعلية على الأرض واستعباد العباد بحجة تحرير البلاد، وهو ما يزيد الحاجة إلى البرامج التوعوية القادرة على مجابهة التنظيمات المتطرفة و «إيلامها» فكرياً من خلال بناء نخب فكرية واعية بتراثها وتفاصيل الواقع، في الوقت عينه.



صدى الشام