القراءة والأثر: عن الكتابة والقراءة والمحترفات الابداعية


1 – أية قراءة نعني؟

القراءة كتابة بالعين أو بالأذن على أذن أخرى. كل قراءة هي مسح ضوئي لمكتوب ما كتبه آخرون لأقرأه أنا وأنت. هذا هو الظاهر، ولكن عملية القراءة هي أبعد من هذا بكثير، فأية قراءة نعني هنا؟

إن ما نعنيه هنا في مرحلة أولى هو قراءة الأثر بالفكر والعين، واليد ولم لا؟ ها قد أوصلتنا القراءة إلى الكتابة بشكل ما، فكيف سنُقصّر المسافة بين قارئ وكاتب؟

كل كتابة تأتي في الأصل من أجل القراءة، فلا معنى لمكتوب “مكتوب علي” إلا إذا وجه لقارئ ضمني أو مقصود أو مخبّر[1]. وإذن فأنا أقرأ لأُحدث خللا معينا في بنية الذات بشكل إيجابي، لأغير أمراً كان مفعولا، لأخلف الأثر علي وعلى الآخر.

وقال اقرأ ؟ فأجاب ما أنا بقارئ؟ وأعادها مرات فأعاد الجواب نفسه؟ الجواب سيبقى طبيعيا ومنطقيا هنا، بما أن الأثر الذي سيقرأ يبقى غائبا، ولنتذكر ميل محمد عابد الجابري لرواية حديث الوحي المحمدي بجواب: ماذا سأقرأ؟[2]

ماذا سيقرأ الأمي؟ وللإشارة فالأمي حسب هذه الرواية الأخيرة ليس هو الجاهل بالقراءة بقدر ما هو فاقد الأثر، نعني فاقد الكتاب، بما أن المآل الطبيعي لكل كتابة لن يكون سوى الكتاب. إذا صحّ زعمنا هذا فلنا أن نتساءل: ما مصير القراءة إذن؟ إنه الأثر.

والأثر قد يكون مكتوبا، سيُجمع داخل كتاب ورقي أو إلكتروني أو رقمي، مادي إذا جاز القول، وقد يكون معنويا مخلفا على الدماغ، هذا الجهاز الهائل الضروري لكل قراءة وكتابة، فما الأثر الذي ستخلفه القراءة على الدماغ؟

2 – أثر القراءة على الدماغ:

لقد بينت الدراسات العلمية الحديثة التي أجريت على الإنسان مدى التأثير الكبير الذي تخلفه القراءة المكثفة على الدماغ. فقد تمت عملية مسح ضوئي للعقل وهو يعمل، وللعقل قوته السحرية لدرجة فهمه لذاته أولا قبل فهم الآخرين. فهم الذات بقراءتها وكتابتها بشكل ما خارج الذات، فالعقل جهاز معقد ومركب. لقد راقبت تكنولوجيا التصوير الضوئي الجديدة في التسعينيات العقل وهو يعمل لمعرفة ما الذي يحدث داخله، فأكدت أن القراءة هي أهم المهارات تأثيرا على الإطلاق. الأثر يحصل بالقراءة. وحين قال له اقرأ فقد كان هذا الفعل الأول مقصوداً لأنه كان يعرف أن البشر لم يولدوا أبدا على القراءة، فالسمع والشم والرؤية تولد مع الإنسان، وتتطور بتطور الخبرات، وكلما دخلت القراءة وحدثت الكتابة تحقق الأثر إيجابا أو سلبا تبعا لنوع المقروء. اختراع الحروف الأبجدية كان له تأثير قوي على الدماغ، وأصبح من المستحيل تصور العالم من غير هذه المليارات من الكلمات المتناثرة أمامنا في كل مكان، على اللوحات الإشهارية، في الصحف، على الأنترنت وعلى هواتفنا الذكية. لقد ساهمت القراءة في اختراع الكلام إذن.

3- مفعول القراءة:

تشير الدراسات الحديثة إلى أننا نتذكر 20% مما نقرأه، و30% مما نسمعه، و40% مما نراه، و 50 % مما نقوله، و60 % مما نفعله، و90 % مما نقرأه ونسمعه ونراه ونقوله ونفعله، فما السبيل إلى قراءة فعالة إذن؟ وفي مدارسنا خاصة؟ ما دام مقامنا يرتبط هنا بمؤطرين ومدرسين في مختلف المجالات.

ثانيا : الذكاءات المتعددة وأثر القراءة:

أعاد هوارد جاردنر بناء طريقة قياس الذكاء الواحد بعد تجربة دامت لأزيد من عشرين سنة في الدراسة والبحث حول الدماغ البشري، فبيّن في كتابيه “أشكال العقل البشري”، و”إطارات العقل”، أن هناك ثمانية أنواع من الذكاء على الأقل، هي:

1. الذكاء المنطقي – الرياضي :
يعني الحساسية والقدرة على الإدراك والاستدلال الاستنتاجي والاستقرائي واستخدام الأنماط العددية والتجريدية.

2. الذكاء اللفظي – اللغوي:
يرتبط بالكلمات واللغة المسموعة والمكتوبة، ويتميز به الأدباء والشعراء والكتّاب والمفكرون.

3. الذكاء البصري-المكاني :
يعتمد على حاسة البصر، ويتضمن إدراك الخطوط والفراغات ودوران الأشكال وتحويلها، ويؤثر في تكوين صورة ذهنية لخصائص الأشكال والرسومات، يتميز به الرسامون والمصورون والطيارون.

4. الذكاء الموسيقي (الصوتي):
القدرة على إدراك أنماط النغمات ودرجاتها وكل أشكال التعبير الموسيقي والأصوات الطبيعية البيئية والاستجابة لها والانفعال بأثرها. يتجلى هذا الذكاء لدى الذين يحبون الغناء والاستماع إلى الموسيقى والأنماط الإيقاعية.

5. الذكاء الجسمي-الحركي:
يعني القدرة على استخدام الجسم في التعبير عن الأفكار والمشاعر والقيم وإظهار الحركة، كما يبدو في الألعاب وفي أداء النحات والميكانيكي والطبيب الجراح.

6. الذكاء التأملي الذاتي :
هو القدرة على إدراك الإنسان لمظاهره الداخلية (الذاتية) ومجال عواطفه. ويتجلى هذا الذكاء لدى الذين لديهم إرادة قوية وثقة بالنفس ودافعية داخلية، يظهر هذا الذكاء لدى القادة الدينيين والفلاسفة والأطباء النفسيين وعلماء النفس.

7. الذكاء التواصلي التعاوني:
القدرة على فهم الناس وإدراك طباعهم ومزاجهم ودوافعهم ويتجلى هذا الذكاء لدى القادرين على قبول الآخرين والاتصال معهم وإقامة العلاقات الاجتماعية والعمل التعاوني والجماعي باستخدام التعلم التعاوني والمهارات الاجتماعية.

8. الذكاء الطبيعي:
يعني الحساسية للبيئة الطبيعية والفضول الفطري للرغبة في استكشاف العالم الطبيعي والقدرة على فهم الكائنات الطبيعية وأشكالها المختلفة.

ويظهر أن القراءة تؤثر في كل هذه الأنواع بأشكال مختلفة، كما تحدث أثرها على كل ذكاء.

ثالثا : من القراءة إلى الكتابة: المحترفات الكتابية

قد تكون تجربة المحترفات الكتابية بأشكالها المختلفة من بين أهم الطريق للتعلم وفق الذكاءات المتعددة وخاصة الذكاء المدرسي، فما المقصود بها وكيف يمكننا استغلالها في التدريس اعتماداً على الذكاءات المتعددة؟

1 – في المفهوم: المحترف والتعاريف المجاورة له

كلمة محترف هي ترجمة حرفية للكلمة الفرنسية Atelier والتي تعني المكان الذي يشتغل فيه حرفي أو عامل. والمحترف الفني هو المكان الذي يعمل فيه الرسام أو النحات. ولفظ المحترف يحيل على دلالة عملية تطبيقية، وكأننا هنا سنتعلم حرفة الكتابة. ومن هنا يبدو المصطلح غريبا شيئا ما على القارئ العربي، والمتعلم منه بشكل خاص، لكونه تعود على تلقي النص بدل السعي لإنتاجه. هذا ما يحصل في مدارسنا، بما أن دروسا كالإنشاء والتعبير الكتابي تتحول في الغالب إلى إعادة إنتاج ما قاله الآخرون دون السعي إلى إنتاج النص الذاتي.

المحترفات هي غير الورشات، لأن الورشة تتخذ صيغة جماعية، فيما الكتابة في المحترف هي كتابة فردية تنطلق من عمل جماعي. فالمحترف بناء على ذلك هو حلقة دراسية لتنمية مهارات وتقنيات الكتابة الإبداعية.[3] البعد التقني يعتبر محدداً رئيسياً، إذا في كل محترف، أي تقنية الكتابة، ولكن أية كتابة؟ إنها الكتابة الإبداعية.

والكتابة الإبداعية هي غير كتابة التقارير، أو إعادة كتابة النصوص، هي ليست نسخا لنصوص أخرى بشكل عام، رغم أن كل كاتب ما هو في الأصل سوى نسّاخ لغيره، كما بيّن ذلك عبد الفتاح كليطو[4].

ومفهوم الكتابة الإبداعية هو مفهوم منتشر في الولايات المتحدة الأميركية بشكل كبير، ويطلق عليه لفظ Creative Writing، وهو مفهوم يرتبط بالكتابة الذاتية التي تشتمل على المتخيل الذاتي.

المحترفات الكتابية بهذا هي ورشة تطبيقية عملية للتدرب على الكتابة الذاتية، أو لتعزيز مهارات وتقنيات الكتابة الإبداعية المنطلقة من الذات دون إهمال ما يحيط بها، وهي بهذا تشترك فيما هو جمعي ( ورشة) وفيما هو تقني (محترف) وفيما هو ذاتي (إبداع). وإذا رجعنا للقواميس اللغوية والاصطلاحية، فإننا نلاحظ ما يلي:

كلمة محترف في العربية تحيل على الاحتراف وهو الاكتساب أياً كان حسب ابن منظور، أي تحيل إلى عملية ذاتية ترتبط بالرزق وبغيره، ولكن عن طريق التعلم بواسطة أو بغيرها، والمحترف كذلك الصانع. وكلمة ورشة ترجعنا في الأصل إلى مجال التغذية والحيوية، فحسب ابن منظور: الوارش هو النشط، وتحيل كلمة ورش في أغلبها إلى الطعام وتناوله، والوارش الطفيلي. وفي الصحاح للرازي: الحرفة: الصناعة، والمحترف: الصانع.

وقد وردت كلمة Atelier في معجم عبد النور في جهة الترجمة: فرنسية/ عربية بمعنى: محرف، محترف، مشغل ورش والمرسم. Atelier de peintre

2- شيء من التاريخ
2 – 1 . في الغرب:

بالنسبة لتاريخ الأفكار يصعب تحديد بداية مدققة أو ذكر اسم خاص لمخترع أو مكتشف لهذا المفهوم: مفهوم الكتابة الإبداعية ومحترفات الكتابة، بما أننا في أفكار متحركة يرتبط بعضها ببعض، وما يمكن الإشارة إليه هو البدايات والإرهاصات التي سبقت أو واكبت هذا المفهوم في الغرب وعند العرب.

في الولايات المتحدة: انتشر مفهوم الكتابة الإبداعية منذ القديم في ارتباط بمؤلفين معروفين، شعراء وروائيين وقصاصين، إذ كانوا يقيمون حلقات للتدرب على الكتابة الذاتية، بحيث تم إدماج العملية في صلب الحياة المهنية، وفي جل القطاعات لتصحيح التعلمات.

ونجد في التعليم الجامعي خاصة، وفي أغلب التخصصات الأدبية محترفات كتابية، ينشطها كتاب معروفون للتمرن على تعلم الفعل.Le savoir-faire ولعل طبيعة التعلم والتعليم الأميركي التي يغلب عليها الطابع العملي البراغماتي تقتضي هذا النوع من النشاط، لكونها تركز على المنتوج العملي أكثر من تركيزها على الجوانب النظرية منفصلة.

في أوروبا سيتأخر الأمر قليلا، إذ سيظهر هذا المفهوم، أو بالأحرى ستبدأ إرهاصاته الأولى في الظهور منذ الأعمال التي قام بها كل من “مونتيسوري” و”فريني” الذي عرف “بالتعبير الحر”، “فالطفل يتوق إلى إبداء رأيه وإلى الاتصال بأترابه… يطلب منه أن يقص ما رأى، وأن يقول ما يجول في خاطره، ثم يناقشه أصدقاؤه بعد أن يخطه على اللوح… ويصحح التلاميذ أخطاء بعضهم بعضاً مما يزيد من فرص الكتابة أمام الطالب”[5]

“فرينه” أبدع كذلك المطبعة المدرسية التي كان يصر على أن تتم من طرف التلاميذ وأن تكون حية.

كانت “مونتسوري” تركز كذلك على التعلم الذاتي بواسطة “بيوت الأطفال” التي هي عبارة عن أماكن يقوم فيه الطفل بتمرينات تساعد على تفتحه ونموه الذهني والجسدي بشكل ذاتي، كل ذلك من أجل احترام حريته. هذه بدايات قد نجد امتداداً لها عند “جون بياجي” وعالم الطفل في ما يتعلق بالتمثلات Les Représentations، ونجدها عند “ايميا فيريريو” بعده فيما يخص تعلم الكتابة.

أما في فرنسا الحديثة كنموذج للثقافة والتربية الغربية فقد انطلق العمل بمفهوم المحترف الكتابي d’écriture Atelier منذ سنة 1960 بواسطة المجموعة الفرنسية GFEM ( المجموعة الفرنسية للتربية الحديثة، ومجلتها: المداد الحي Encres VivesK التي كان يديرها ميشيل كوسيم Michel Cosem. وقد اهتمت بما هو نظري في الغالب. وفي السنة نفسها 1960 ستقوم حركة L’oultpo التي أسسها كل من فرنسوا لوليوني

وقد اشتهرت باشتغالها على رواية Disparition اختفاء لجورج بيريكGeorges Perecوالتي تقوم على تغييب الحرف E الأكثر تداولا واستعمالا في اللغة الفرنسية.

2 -2 . عند العرب حديثاً، المغرب نموذجاً:

قليلة هي التجارب التي تهتم بالمحترفات الكتابية في المغرب بشكل منظم ودائم، خاصة على مستوى التعليمين الابتدائي والثانوي، هناك تجارب متعددة يطلق على بعضها المختبرات السردية أو مختبر القصة القصيرة، ويكاد ينعدم ذلك على مستوى الشعر، إلا فيما يقدم على شكل ورشات تنظمها بعض الجمعيات أو بعض المؤسسات الخاصة والعمومية مع كتاب معينين، حين يزور الشعراء أو الكتاب هذه المدارس لإطلاع التلاميذ على خصوصية الكتابة لديهم، ولكن، قلما يدخلون معهم في تجارب منظمة ودائمة للتدرب على الكتابة الإبداعية. قد نشير إلى المسابقات التي تقيمها بعض الأكاديميات أو الجامعات بالنسبة للكتابة الإبداعية، أو ما تقوم به وزارة الثقافة من تدريب وتحفيز للتلاميذ على الإلقاء الشعري الجيد.

قد تكون تجربة لطيفة لبصير من بين التجارب الجامعية التي يمارس فيها الطلبة المحترفات الكتابية بشكل منظم، بحيث تجعلها هاجساً لدى طلبتها بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة.

نذكر أيضا التجربة المحدودة لمحمد القاسمي وجليل بناني في مجال التعبير بالرسم ثم الكلام. هي تجربة جمعت بين رسام وفنان تشكيلي وشاعر، وبين محلل نفساني ومفكر في قضايا النفس الإنسانية. يجتمعان من منطلق واحد وبهدف واحد. مغامرة الرسم والكتابة مع أطفال ومراهقين يعيشون ظروفا نفسية صعبة. أسفرت هذه التجربة عن إصدار كتاب مشترك هو: Trace et parole أثر وكلام.

تجربة “مشغل كتابة وإبداع الطفل” بإشراف الشاعرة إكرام عبدي: أسفرت عن كتاب: “عربة الحلم”[7]، وهو عبارة عن نصوص لفئات عمرية بين 11 و 15 سنة في مختلف أجناس الكتابة 2014

تجربة ثانوية الشهيد صالح السرغيني التأهيلية، بنيابة الرحامنة بابن جرير: أسفرت عن كتاب “واحات أدبية” [8] ضم قصائد باللغتين العربية والإنكليزية 2015.

تجربة أحمد العمراوي: التجربة يلخصها كتاب: “الكتابة الإبداعية والمتخيل الشعري للتلاميذ” (محترفات كتابية) الصادر عن مطبعة الأمنية سنة 2008 في الرباط. تتلخص التجربة في الاشتغال المنظم مع تلاميذ ومع غيرهم في محترفات كتابية مستمرة في الزمان والمكان. ضمت هذه التجربة مدخلا نظريا حول المحترف وأهدافه وطريقة إدارته ديداكتيكيا. وشمل الكتاب نماذج من إنتاجات التلاميذ في القصة والشعر وتأويل النصوص وكتابة الشهادات وتعليقات أخرى، كلها تمت بطريقة إبداعية للتلاميذ.

ويتضمن الكتاب مقدمة مفصلة حول القراءة الإبداعية كمنطلق للكتابة الإبداعية، وكذا أهداف المحترفات في المغرب، ثم الاستراتيجيات المقترحة لتنظيم العملية ويقع الكتاب في حوالي 200 صفحة من القطع المتوسط.

3 – لماذا المحترفات؟

المحترف الكتابي والإبداعي ليس بديلا لدرس التعبير والتواصل، ولا لدرس النصوص ولا لدرس الأدب. هو درس قائم بذاته، وتخصص له ضوابطه المنهجية، وأسسه النظرية، وخلفياته الايديولوجية. هو مكمل ضروري يخرج المتلقي من السلبية إلى الإدماج. إدماج التعلمات في التجربة الذاتية الحرة، ولكن المنظمة حسب السياق العام الذي يقتضيه الزمان والمكان.

في كتابة” الأدب في خطر” يصرح “تزيفيتان تودوروف” في هذه الفقرة الدالة التي نسوقها كاملة. يقول: هل أنا بصدد اقتراح أن تدريس المادة التعليمية ينبغي أن يتوارى تماما لصالح تدريس الأعمال الأدبية؟ لا، وإنما ينبغي لكل واحد منهما أن يجد الموضع اللائق به. فمن المشروع في التعليم الجامعي (أيضا) تدريس المقاربات والمفاهيم المستخدمة، التقنيات. أما التعليم الثانوي غير الموجه للمختصين في الأدب، بل للجميع، فلا يمكن أن يكون له نفس الموضوع: فالأدب نفسه هو الموجه إلى الجميع، لا الدراسات الأدبية. إن أستاذ الثانوي مكلف بمهمة عسيرة: استبطان ما درسه في الجامعة، لكن بدل تدريسه، عليه تحويله إلى وضعية أداة خفية. أليس هذا مطالبة له بجهد مفرط، لم يكن أساتذته أنفسهم بقادرين عليه؟ فلا عجب إذن أن لا يتمكن من ذلك دائما على أحسن وجه” [9]

عدم التمكن يعود لقلة الخبرة، ويعود للتصورات الجاهزة التي خلقتها الطرق التعليمية ومنهجيات تدريس النصوص للمختصين في الأدب ولغيرهم، في المدرسة الثانوية على الخصوص، بسلكيها الثانوي التأهيلي والثانوي الإعدادي، مع بعض الاختلافات تعود للحيز الزمني المخصص لدروس اللغة العربية.

في الثانوي التأهيلي يختلف الأمر قليلا بين الشعب ذات الطابع الأدبي والشعب العلمية والتقنية، حيث تصير اللغة في هذه الأخيرة تابعة، وظيفتها تعزيز المواد العلمية المحضة والفلسفة. وفي كل الشعب يصعب العثور على مدرس قادر على التجاوز والإبداع، بسب إكراهات الوقت، خاصة في التعليم العمومي الرسمي. فلكي يكون الأستاذ قادرا على الإثارة والتأثير، وعلى تحويل المتعلم من وضعية التلقي القابل لكل شيء إلى وضعية المتسائل المنتج، عليه هو أولا أن يتمتع بقدر كاف من التدريب على هذه المهمة الجديدة. إذ لا يمكن للمدرسين في الثانوي بحكم تعليمهم الجامعي المحدود المرتبط بالبحث العلمي الصارم في المنهجية أن ينتقلوا وبكفاءة من وضعية الملقي في أحسن الأحوال إلى وضعية المنشط، رغم إصرار درس التعبير والتواصل[10] على مرحلة الإنتاج. إنتاج النص ضمن المنهجية المقترحة من طرف المتعلمين.

قد نتجه نفس اتجاه تودوروف في كوننا لا ندعو لتعويض درس التعبير والتواصل أو درس الإنشاء بدرس خاص هو المحترف الكتابي في الوقت الحالي على الأقل، بما أن ظروفه لم تتأت بعد، بل نقترح طريقة للإشراف على المحترف وتركيزه بمعية درس التعبير والتواصل باعتباره الأقرب له من حيث التصور، وفي المخرجات التي هي الوصول بالمتلقي إلى درجة الإنتاج الذاتي شفهيا وكتابيا.

إن للمحترف أهمية كبرى في تكوين الشخصية وفي التعلم الذاتي وفي القدرة على اتخاذ الموقف بالنسبة للمتلقي متمدرسا كان أم غير متمدرس. ولعل الهدف الرئيسي من كل هذا هو خلق قارئ من نوع جديد، قارئ الأثر بالأثر، قارئ يوظف كل ذكاءاته وطاقاته لغاية أساسية هو تلبية الرغبة بلذة ضرورية ليس إلا.



صدى الشام