المؤسسات التلفزيونية الرسمية المُسلمة: نهاية حقبة في هولندا وبلجيكا


ألغيت في بداية عام 2016 المؤسسة الإعلامية المختصة تاريخياً بإنتاج برامج المسلمين في التلفزيون الهولندي الرسمي، وكلّف قسم «أن تي آر» الذي يشكل أحد أقسام التلفزيون الهولندي المدعوم من الدولة، إنتاج البرامج الخاصة بالمسلمين. وجاءت النهاية على هذا النحو بعد قرار حكومي سابق نص على إلغاء كل الأقسام الدينية في التلفزيون الهولندي وعددها سبعة، والطلب من إدارات تلك الأقسام البحث ضمن مؤسسات التلفزيون الهولندي القائمة للعمل تحت إدارتها لإنتاج برامجها الخاصة، لكن القسم الإسلامي فشل في إقناع أي من المؤسسات الموجودة بالعمل تحت مظلتها… لتنتهي تجربة فريدة تُعَّد الأقدم في أوروبا في إنتاج برامج تعنى بشؤون المسلمين الذين يعيشون في البلد، إذ سبقت هولندا كل الدول الأوروبية بتخصيص ساعات تلفزيونية على شاشاتها الحكومية للبرامج التي تتوجه إلى المسلمين منذ عام 1986. وكانت بلجيكا ألغت هي الأخرى في وقت سابق من عام 2016 قسم برامجها الخاص بالمسلمين البلجيكيين والذي كان يعمل ضمن هيكلية القنوات الرسمية في جزء البلد الذي يتحدث اللغة الهولندية.
وإذا كانت تجربة الأقسام المسلمة في التلفزيون الهولندي تعود إلى ثلاثة عقود سابقة، فإن عمر التجربة البلجيكية لم يتعد ثلاث سنوات، بيد أن التحديات والمشاكل ذاتها واجهت القسمين في البلدين الجارين، وأهمها المشاكل التي لم تتوقف بين المسلمين أنفسهم (عاملين في المؤسسة أو متفرجين عاديين) حول طبيعة البرامج المقدمة، والتباينات في وجهات النظر حول «الإسلام» الذي يُقدم في البرامج التلفزيونية، بخاصة مع اختلاف الخلفيات الإثنية والثقافية للمسلمين في الدولتين. كما كان سؤال الهوية من الأسئلة المُهمة للذين يقفون خلف هذه الأقسام، إذ كيف يُمكن التميز في عصر الإعلام الفضائي، ومع وجود مئات المحطات الدينية التي تصل وأحياناً تلوث الأجواء بخطابها الطائفي والعدائي والذي يقلق السلطات في أوروبا.
يعكس تاريخ القسم المسلم في التلفزيون الهولندي الرسمي إلى حد كبير طبيعة التركيبة الاجتماعية للمسلمين في هولندا والعوائق التي تجعل من المحال (في الوقت الحاضر على الأقل) التفكير بمظلة واحدة يتجمع تحتها كل المسلمين في البلد الأوروبي، إذ تغير اسم المؤسسة مرات طوال الثلاثين عاماً الماضية بسبب تغيير بنيتها إثر خلافات وإعادة هيكلة، وواجهت كل أنواع المشاكل، من التخوين إلى اتهامات بالفساد المالي، كما كانت اتهامات الولاء للحكومتين المغربية والتركية – إذ ترجع أصول غالبية المهاجرين المسلمين في هولندا إلى تركيا والمغرب- من الاتهامات العديدة التي وجهها مسلمون إلى إدارات المؤسسة المتعاقبة. ولم تنج من اتهامات الكفر أو الرغبة في إثارة المشاكل الطائفية عبر فسحها المجال لأبناء طوائف معينة بالإطلال عبر برامجها.
وعلى رغم كل المشاكل التي واجهها القسم الإسلامي في التلفزيون الهولندي الرسمي، فإنه كان يشع أحياناً، بخاصة عندما كان لفترات خاطفة تحت إدارة إعلاميين مهنيين مبدعين من أُصول مسلمة، بعضهم نجح في العبور إلى الجمهور الهولندي الكبير على رغم تخصص البرامج التي أنتجها. كما قدم القسم في فترات مبعثرة تحقيقات تسجيلية مهمة عن أحوال المسلمين في هولندا، وكان قريباً من نبض الشارع في أوقات حرجة بُعيد الزلزال الذي وقع في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، والأحداث الجسام التي وقعت في هولندا في السنوات العشر الأخيرة، كصعود اليمين المتطرف، واغتيال مخرج سينمائي هولندي معروف على يد شاب مغربي متطرف في وضح النهار في مدينة أمستردام.

برامج اليوم
والحال أن العام المنقضي لم يكن سيئاً على الإطلاق لجهة البرامج الهولندية الجديدة التي تخاطب المسلمين في هولندا، فوصلت إلى الشاشات الرسمية الثلاث برامج على مقدار كبير من الفهم لتعقيد المشهد الذي تقاربه، وتصدت لقضايا حساسة كثيراً. إذ يبدو أن التخلص من بيروقراطية الإدارة للقسم الإسلامي الملغى، فسح المجال لهولنديين مسلمين للعمل بحرية ومن دون تدخلات وضغط إدارات مشغولة بمعاركها الخاصة. كما دخلت عمليات اختيار أفكار البرامج التلفزيونية الجديدة وتنفيذها ضمن سياسات إعلامية متفتحة، كاسرة الأفق الضيق الذي حوصرت به بعض البرامج الإسلامية في الماضي.
من البرامج التي لاقت نجاحاً في العام الأخير برنامج الحوار «قمر جديد» الذي تقدمه نادية مسعد، ويناقش بأسلوب متحرر ونقدي ظواهر من الحياة العامة لمسلمي هولندا، ويقدم وجهات نظر هولنديين مسلمين تجاه ما يجري من أحداث في البلد عموماً، وبرنامج جديد للأخوات الثلاث: أسماء وجهاد وهاجر محمد العمراني، والذي كان حضورهن قبل عشرة أعوام في برنامجهن التلفزيوني «بنات الحلال» مُهماً كثيراً في إطلاق النقاشات حول المسلمين والإسلام في هولندا، وما يواجهونه على ضوء الأحداث العالمية العنيفة. وخصص قسم «أن تي آر» برنامجاً يجسّ أحوال الشباب العرب في الدول العربية التي مرَّ عليها «الربيع العربي»، قدمه مقدم هولندي من أصول لبنانية اسمه داني غصن، زار في حلقاته عدداً من الدول العربية.
يتألف التلفزيون الهولندي الرسمي الذي يبث على ثلاث قنوات عامة ومجموعة من القنوات المتخصصة، من مؤسسات إعلامية مختلفة تتشارك فترات البث بحسب عدد شعبيتها وموازناتها. هذا التقسيم يعود إلى بداية تأسيس الإعلام الهولندي في عشرينات القرن الماضي، والذي أراد حينها أن يعكس التقسيم الديني والفكري في البلد، وانضم بعدها إلى الأقسام التي تعمل تحت أسماء دينية، أخرى علمانية متحررة، تهيمن اليوم على معظم زمن البث التلفزيوني في البلد. ويمكن دائماً الحصول على وقت بث من التلفزيون الرسمي ومساعدة مادية من الدولة الهولندية لإنتاج البرامج، شرط أن تحصل المؤسسة الإعلامية الجديدة على أعضاء يتجاوز عددهم الحد الأدنى الذي يشترطه القانون الإعلامي.



صدى الشام