“بزنس” صناعة الصحفيين في “الحرب السوريّة”


هل تطمح بدخول عالم مهنة الصحافة ولا تعرف كيف الطريق؟ هل تحلم بأن تمسك “المايك” وتظهر على شاشات القنوات الكبرى؟، لقد أصبح ذلك ممكناً اليوم فما عليك إلّا التسجيل في الدبلوم الذي نجريه بقيمة 500 دولار لمدّة 20 يوماً وستصبح بعدها إعلامياً!

بهذه الكلمات بدأ أحد المراكز السورية الموجودة جنوبي تركيا إعلاناً له على مواقع التواصل الاجتماعي يروّج فيه لدورةٍ مأجورة في مجال التحرير الصحافة وكتابة التقارير الصحافية.

كلمات، عروض، وإعلانات تكاد لا تتوقف من قبل مراكز تدريبية سوريّة باتت منتشرة بشكلٍ كبير خلال السنوات التي تلت اندلاع الثورة السورية وما شهدته من تداعيات كبيرة وتحولات جذرية على جميع المستويات في سوريا، وهو ما وفّر على ما يبدو بيئة مثالية لـ “تصنيع الصحفيين” بعد أن بات هناك طلب كبير على ناقلي المعلومات لمواجهة الكم الهائل من التدفق الإخباري القادم من واحدة من أخطر بقاع العالم على الإطلاق.

 

مهنة مرحلية

ما أن تُلقي نظرة على مواقع التواصل الاجتماعي حتّى تشاهد إعلانات عن دوراتٍ عديدة، منها ما هو متخصص بالفيديو ومنها ما يتعلق بإعداد المراسل أو التحرير الصحفي، وأخرى لإعداد البرامج الحوارية وثالثة بالإخراج.

الأمر الأكثر إثارة للجدل أن هذه المراكز لم يكن لها أي وجود في سوريا قبل بدء الثورة، ما يعني أنّها تشكّلت على أساس أن “موسم مهنة الصحافة مزدهر” فلا بد من العمل به والكسب من ورائه وهذا يُعد أمراً طبيعياً أسوةً بباقي التجارب في المنطقة والعالم.

لكن من جهة أخرى فإن تحليل محاور الورشات والتدريبات يدلّ على أن التدريب غير مهني، إضافةً إلى أن كثيرًا من المتدرّبين لا يعرف عن الإعلام الشيء الكثير.

 

هاجس المال

يبدو الدافع المادي هاجساً لقسم لا بأس به من الصحفيين الذي يسعون للخضوع لهذه التدريبات بغض النظر عن كفاءتهم لممارسة العمل الإعلامي.

يقول صحافي سوري يعيش في مناطق النظام لـ “صدى الشام”: “إن هذه الظاهرة تشكل تجارة رابحة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى سواء من جهة الصحافيين أو مراكز التدريب”، وأضاف الصحافي الذي رفض الكشف عن هويته، أن الشُبّان بالداخل السوري وخاصّة في مناطق النظام يلجؤون لتعلّم مهنة الصحافة بغية الكسب المادي ولا سيما فيما يخص التواصل مع مؤسّسات الإعلام البديل التي لديها شغف للوصول إلى أية معلومة جديدة في تلك المناطق.

وبيّن الصحافي أن من يعمل في المجال الإعلامي يحصل مقابل المادّة الواحدة على 50 دولارًا على أقل تقدير فيما لو تواصل مع وسائل الإعلام الجديدة، في حين لا يحصل على أكثر من 2000 ليرة سورية “4 دولارات” إذا بذل الجهد ذاته مع وسيلة إعلام تابعة للنظام.

وتابع أن كثيرًا من المتاجرين استغلّوا هذه الجزئية وهرعوا لتأسيس مراكز تدريب إعلامي تحت مسمّيات مختلفة لاستيعاب هؤلاء الأشخاص الراغبين بالتعلّم، لكنه اعتبر أن الحال في مناطق المعارضة مختلف تماماً، ولا سيما أن وجود الصحافيين ارتبط بالحاجة إلى دورهم لتغطية الأحداث اليومية الكثيرة، مشيراً إلى أن معظم المعلومات القادمة من هناك تكون موثّقة بالصورة والفيديو وهذا يعطيها مصداقية أكثر من المعلومات القادمة من مناطق النظام.

 

الحاجة للصحافيين في مناطق المعارضة

الناشط الإعلامي سامر السليمان قال: “إنه بدأ العمل مع بدء الثورة السورية من خلال تصوير المظاهرات ثم توثيق الشهداء والجرحى” مضيفاً أن الإعلام ليس مجال عمله لكنه اضطر لدخوله بحكم الحاجة.

وكان السليمان من الصحافيين الذين وثّقوا “مجزرة الحولة” في ريف حمص، والتي راح ضحيّتها عشرات الشهداء والجرحى، وأوضح متحدثاً لـ “صدى الشام” أن ما دفعه لهذا العمل هو الظلم والإجرام الذي كان لا بد من نقله إلى العالم، مضيفاً: “لا تكون الجريمة جريمة بلا شهودٍ وأدلّةٍ عليها، لذلك كان واجباً عليَّ توثيق المجازر في ظل غياب الإعلاميين”.

تعلّم السليمان المهنة بشكلٍ ذاتي، فقد شاهد مقاطع على يوتيوب عن كيفية العمل الصحفي وبدأ يمارس المهنة، وعمل بعدها لدى عدّة وسائل منها شبكة شام ووكالة سمارت للأنباء، ويلفت السليمان أنه بات قادراً على نقل المعلومة كأي صحافي محترف من خلال عمله لسنواتٍ في الحقل الإعلامي.

وحول الدورات الإعلامية المأجورة، أوضح السليمان أنه يرى أن هدف هذه المراكز تجاري بحت ينطوي على تحقيق الربح وهو ما جعله ينصرف عنها ويتعلّم بشكلٍ ذاتي.

أما عصام منصور الذي يعمل مراسلاً إذاعياً في الداخل السوري، فقال لـ “صدى الشام”: “لقد بدأت العمل الصحافي بعد مرور فترة من الزمن عقب اندلاع الثورة السورية، وفي شهر تموز من عام 2014 تحديداً وذلك بعد أن خضعت لدورة إعداد التقارير المرئية والإذاعية وذلك في مركز تدريب مجّاني بمدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي”، ويضيف “منصور” أنه في نهاية الدورة خضع لامتحانٍ وتفوّق فيه وحصل على وظيفة في “راديو فرش” وهي إذاعة محلية في مدينة كفرنبل.

وبيّن ” منصور” أن ما  دفعه للعمل الصحافي هو محاولة نقل ما يحصل داخل المناطق السوريّة المحررة إلى العالم الخارجي.

وعن تجربته في العمل يقول إنه كان يعاني من قلّة الحرفية ومن استخدام قالب محدّد، لكن فيما بعد أصبحت لديه الخبرة نتيجة الممارسة وانتقل للعمل مع راديو “ألوان”.

وفقاً للتجربة الناجحة لـ “عصام” في مركز مجّاني فإن هدف هذه المراكز ينطوي حتماً على تخريج الصحافيين، بينما نجد أن “معظم مراكز التدريب الإعلامي المأجورة تتاجر بالمهنة إلّا ما قلَّ منها والتي تعمل على تنمية المواهب”، حسبما يقول.

 

 

 

مكسب مادي

يعتبِر نبيل السوسي، وهو معد ومقدم برامج في راديو ألوان، أن معظم مراكز التدريب تسير نحو الربح المادي كهدف وحسب، ولا سيما أنها لا تضع أية شروط أو مقاييس للانتساب إلى هذه الدورات، لذلك فهي تقتصر فقط على من لديه الرغبة دون النظر إلى بقية الأمور التي تخوّله للدخول في المجال الصحافي.

وبيّن أن غياب المعايير في اختيار المتدرّبين يؤثّر سلباً على حصيلة التدريبات، وذلك لأن المتدرّب “يتشدّق بأنه إعلامي مخضرم ويملك باعاً طويلاً في الحقل الإعلامي ولكنه في حقيقة الأمر يكون قد استطاع لتوّه التمييز بين الافتتاحية والخبر ما يؤدّي لاختلاط الصالح بالطالح”، وفق قوله.

ولفت إلى أن كثيراً من العاملين في الشأن الصحافي السوري “تسلّق على المهنة، وأخذ مكان الصحافي المناسب والمحترف، وذلك نتيجة المحسوبيات والواسطات المتجذّرة داخل إدارات المؤسّسات الإعلامية وأصحاب القرار”.

أما ما يُعرف بـ “الصحافي المواطن” فهو كما يرى السوسي “شجاع ولا يهتم لخطورة العمل في موقع الحدث، وإنما تتمثّل أولويته بنقل ما يجري حتى لو دفع حياته ثمناً لذلك”، لافتاً إلى أن هذا النوع يمثّل قلّة من الصحافيين في حين أن البقية يقومون فقط بمجرّد إنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي ونسخ الأخبار من هنا وهناك، ثم يطلق على نفسه اسم ناشط.

وبيّن أن المطلوب اليوم للنهوض بالعمل الصحافي السوري هو وضع سياسة واضحة خاصّة بالشأن السوري وتوزيعها على الوسائل الإعلامية لتكون مرجعية لهم، إضافةً إلى ضرورة تقييم قدرات كل من يدّعي أنّه صحافي، وإفساح المجال أمام الشخص المناسب للعمل.

 

 

مراكز بالجملة

في العاصمة دمشق تأسس ما يُسمّى بالـ “البرنامج الإعلامي المتكامل” الذي يتألف من مدرّبين لا يتجاوز عمر الواحد منهم 25 عاماً في أحسن الأحوال، ولا تعرف مواقع البحث على غوغل أو حتى الشاشات أي أرشيفٍ صحافي واضح لهم.

يقول القائمون على هذا البرنامج إنه “إعلامي متكامل” لأنه يُعلّم كل شيء عن الإعلام في شهرين، بما في ذلك تحرير الأخبار ومدارس المونتاج والمكساج الإذاعي والإخراج للصورة وإعداد وتقديم البرامج والتحرير للصحف والمواقع والإذاعات والتلفزيونات، كل هذه المهارات من الممكن الحصول عليها فقط بمبلغ 60 ألف ليرة سوريّة، وهو ما أثار انتقاد الكثير من الصحافيين والمواطنين، وحتى وسائل الإعلام الموجودة في مناطق النظام، وذلك بسبب العروض الاستفزازية التي لا تطلب من المتدرّب شهادة ثانوية على أقل تقدير لتصنع منه إعلامياً، وإنما بإمكانه دخول هذا الحقل ومعرفة كل شيء عن الإعلام بمجرّد دفعه 60 ألف ليرة.

مراكز أخرى تحت مسمّيات مختلفة كـ “المركز الدولي للتدريب” و”معهد الإعداد الإعلامي” ومراكز أخرى كلها تصنع صحافيين، وبعد كل ذلك لا يغدو مُستغرباً أن  يأتي أحد المعلنين لهذه الدورات ويباهي بأن محاور ورشته تتضمن: “صنع صحافي، خلق مراسل، تحرير ما بعد التحرير…”، عناوين براقة وإنجازات موعودة لمن يرغب، إلّا أن الفقرة الأخيرة منها تبدو كأحجية عجز عن تفسير معناها صحافيون مخضرمون تم سؤالهم عنها، فهل من قام بوضع هذا الإعلان لا يعرف شيئاً عن المهنة؟ أم أنه تقصّد أن يكون عرضه جذاباً أكثر عبر أكبر جرعة ممكنة من الغموض؟.



صدى الشام