جنيف 4 والرقص على دماء السوريين


رغم مرور ست سنوات على بداية الثورة السورية ورغم كل المؤتمرات وجولات التفاوض التي انعقدت جميعها وخرج فيها السوريون بـ”خُفَي حنين”، ومع ذلك ما يزال هناك من يعتقد أن تلك الجولات وضمن تلك الظروف يمكن أن تؤدي لنتائج أو يمكن أن توصل إلى حل يحقن الدماء.

الخبرات من خلال الجولات السابقة علمتنا أننا نخرج بنهايتها بأمرين: الأمر الأول هو تصفير عداد نقاش المفاوضات من قبل “بشار الجعفري” رئيس وفد نظام “الأسد” وإعادة المفاوضات إلى المربع الأول والخروج بنتيجة “لا شيء” إلا من سفاسف إعلامية وجدليات فلسفية غير مجدية والدخول بتفاصيل غايتها بعثرة الأوراق وزرع العراقيل ومنع وصول المفاوضات لأي مسارات جدية قد تؤدي إلى حلول أو تقدم في طريق البحث عن نهاية لهذا الموت والقتال المتدحرج في الساحات السورية.

الأمر الثاني: الخروج من فترة التفاوض بمزيد من قضم الأراضي والتصعيد العسكري والقصف الجوي والقتل من أجل إجبار الوفد التفاوضي على الانسحاب تحت ضغط الشارع الثوري الذي يتلقى نتائج هذا الإجرام الأسدي.

لكن جنيف 4 ينعقد الآن في أجواء مخالفة تماماً للجولات السابقة ولكن باتجاه الأسوأ تحضيراً وتشكيلاً وظروفاً.

 

 

من حيث التحضير ينعقد اجتماع جنيف 4 على أنقاض خسارة الثورة لكثير من المواقع الجغرافية الهامة وأهمها انتكاسة مدينة “حلب” وعودتها لتكون جزءاً من المناطق التي يسيطر عليها الاحتلال الأسدي والإيراني إضافة لخسارة “وادي بردى” والغوطة الغربية والريف الشمالي لدمشق، وتأتي أيضاً في أعقاب اشتراك الفصائل العسكرية ولأول مرة بمفاوضات مع الجانب الروسي من خلال مفاوضات “أستانا” 1 و2 والتي انعقدت على أنقاض اتفاق تركي – روسي يقضي بوقف إطلاق نار في الجبهات المتقاتلة لكن تلك الجولات لم يكن نصيبها بالنجاح بأكثر من نصيب مفاوضات جنيف وغيرها من حالات التفاوض، فعلى مدار ثلاثة اجتماعات واحد منها في أنقرة واثنين في أستانا خرج الجميع بمحصلة “الصفر” بينما كانت طائرات “الأسد” وبراميل حواماته وصواريخ راجماته لا تتوقف عن قتل السوريين وبتجاهل كاملٍ لكل الوعود والعهود التي أعطاها الجانب الروسي “الضامن” الذي عجز عن لجم إيران وميليشياتها الداعمة للأسد والدافعة له لخرق وقف إطلاق النار، ولم يتوقف الجانب الروسي عند إظهار عجزه بل شارك نظام الأسد وإيران بقتل الشعب السوري عبر طائراته التي ألقت بحممها وأدوات قتلها فوق أهل درعا والساحل.

من حيث التشكيل ترافقت اجتماعات الهيئة التفاوضية مع كثير من الانتقادات والاعتراضات الخارجية والداخلية، فعلى الصعيد الخارجي هدّد المبعوث الدولي ديمستورا بتشكيل الوفد إن لم يكن هناك توافق على مكوناته في إشارة واضحة لضم بعض المنصات التي تسمي نفسها تجاوزاً أنها معارضة والمقصود منصات “موسكو (قدري جميل) وأستانا (رندا قسيس) وحميميم (اليان مسعد)” أما منصة القاهرة فلا تشكل خلافاً كبيراً حول ضمها فهي أساساً جزء من الهيئة التفاوضية.

 

وانتقل الاعتراض لموسكو التي أرادت أن تكون هناك محاصصات ثلاثية مع ضم بعض الشخصيات لكن الهيئة التفاوضية حسمت الجدل وشكلت وفدها وفق رؤيتها لكنها وقعت بكثير من الأخطاء وتم (دحش) كثيرٍ من الأسماء تحت مسميات لا تتوافق والثورة السورية، فلا يمكن لرجل سياسي في السبعينيات أن يتم وضع اسمه كممثل عن الفصائل المسلحة، ولا يمكن لرجل فلسطيني لا علاقة له بالداخل أن يوضع ممثلاً للفصائل أيضاً، ولا يمكن لشاب لا يتجاوز عمره الـ25 عاماً لا يعرف القلم من عصا الراعي أن يوضع مستشاراً إعلامياً، بالإضافة إلى مستشارين عسكريين ثلاثة أرباعهم تم “دحشهم” بالواسطة بناء على توصيات خاصة بعيداً عن المهنية، وغير ذلك من استهتار ومن تسميات ولوائح وكأننا في “عراضة” لعرس وليس لتمثيل قضية شعب دفع مئات آلاف الشهداء ومثلهم من الجرحى عدا عن ملايين المهجرين والنازحين واللاجئين والمشردين.

من حيث الظروف سينعقد مؤتمر جنيف 4 تحت عناوين وبنود لا تعكس المطالب الحقيقية للثورة بعد استبعاد جدول أعماله لأي نقاش أو حديث يتعلق بمصير “الأسد” أو بمفاوضات حول تشكيل “هيئة الحكم الانتقالي” التي تشكل نقطة بداية أي حل عادل يتعلق بقضية الشعب السوري ويرضي تطلعات جمهور الثورة ويتناسب مع التضحيات التي قدمها على مدار سنوات الثورة.

وينعقد المؤتمر أيضاً في ظل استفراد روسي – إيراني بملف المفاوضات وغياب تام للإدارة الأمريكية الجديدة وبشبه غياب للدور الأوروبي، وكل ذلك يجعل من مفاوضات جنيف 4 إما حلقة من مسلسل الجولات الفاشلة السابقة أو انخراط في تنازلات لن ترضي الداخل السوري.

 

في جبهات القتال لا يقل الوضع توتراً مع ضياع القرار العسكري وتشتت في قيادة العمل المنظم فما زالت العقلية الفردية تتحكم بجبهات القتال، وهذا الضياع وهذا التشتت أضعف قوى الثورة ودفع بتنظيم جند الأقصى للفتك بفصائل الثورة وقتلَ منهم أكثر مما قتل النظام خلال العام الماضي ومع ذلك كان هناك من حاول ضمه تحت جناحيه (جبهة فتح الشام)  فغدر بهم وقتل من “الجبهة” ومن “جيش النصر” والمدنيين أكثر من 200 شاب سوري (عدا عن مئات الشباب المفقودين والذين ستتكشف جرائم قتلهم بعد رحيل هذا التنظيم عن ريف حماه) وما زال “الأقصى” يرفض تسليم جثامين هؤلاء إلا بضمان فتح طريق لخروج مقاتليه إلى معقل أميرهم “البغدادي” في الرقة.

وانتقل تعقيد المشهد العسكري والسياسي للجبهة الجنوبية التي طال صيامها عن المعارك لما يزيد عن عام قبل أن تنفجر بوجه غرفة “الموك” وبوجه كل من أراد لها أن تكون شاهد زور عن عودة معبر “الجمارك” للنظام وبتسليم ما تبقى من المناطق المحررة للنظام فكانت معركة “الموت ولا المذلة” التي أعلنتها غرفة عمليات “البنيان المرصوص” بمشاركة أكثر من 35 فصيلاً داخل مدينة “درعا” وباتجاه جبهة “المنشية” التي تُعتبر القلعة النارية التي تختبئ خلفها ميليشيات “إيران” و”حزب الله” وبقايا ميليشيات “الأسد”.

في بقية الساحات تبقى الجبهة الساحلية ساحة استنزاف يشاغل فيها أبطال الساحل عدوهم في جبلَيْ الأكراد والتركمان ويمنعونه من تفريغ خطوط الجبهة لمؤازرة بقية الجبهات رغم الثمن الكبير الذي يدفعه هؤلاء الأبطال مع أهاليهم المدنيين لقاء موقفهم الذي يرفض الخنوع والاستكانة، أما جبهات حمص وريف حماه وسهل الحولة والرستن وحي الوعر وريف إدلب وبلدات وقرى الغوطة الشرقية فما زالت تلك المواقع عرضة لغارات طيران الأسد والطيران الروسي الذي نسي أو تناسى أن هناك وقف إطلاق نار أُعلن في 30-12-2016 وبالتالي يبقى شلال الدم السوري يُراق على أيدي هؤلاء القتلة وعلى مرأى ومسمع العالم الذي ارتضى لنفسه أن يبقى شاهداً أخرس على كل تلك الجرائم التي تلحق بالشعب السوري.

 

 

ومؤخراً فجّر النظام جبهات أحياء القابون وبرزة وحي تشرين داخل مدينة دمشق والتي كانت ترتبط بهدنة مع نظام لا يعرف العهود والذمم، وهذا الإجراء قد بات الشعب السوري يعرف بأنه يأتي مع قرب أو بداية أي استحقاق تفاوضي ليضغط على الوفد السياسي المعارض للانسحاب، وبالتالي نحن أمام سيناريو مشابه لما حل بوادي بردى عندما انعقد اجتماع “أستانا 1” والذي خسرنا فيه “الوادي” و”نبع الفيجة” وتم ترحيل سكانه وأهله إلى مدينة “إدلب” التي يُراد لها أن تصبح “قندهار” أخرى ليُعلن عليها “الجهاد الأممي” في محاربة الإرهاب على حد زعمهم.

كل المؤشرات وتصريحات المسؤولين الدوليين بدءاً من أمين عام الأمم المتحدة وصولاً لوزير الخارجية الفرنسي انتقالاً لبعض المسؤولين العرب ومروراً بقناعة راسخة لدى السوريين؛ جميعهم يؤكدون بأن جنيف 4 مصيره الفشل قبل أن يبدأ، وأن نهايته لن تختلف عن سابقاته مع الجولات، وأن الظروف الدولية حتى الآن ليست في وارد الوصول إلى حلول ترضي أطراف الصراع، وأن طبخة البحص المراد إنتاجها في مسلسل جنيف لم يحن بعد موسم نضوجها، وبالتالي وأمام تلك الوقائع وبغض النظر عن العشوائية والاستهتار بطريقة تقديم واختيار الوفد التفاوضي الذي لا يستجيب معظمه لمبادئ المهنية ولِما يختزنُه الشعب السوري من مقدرات وإمكانيات مهمشة ومستبعدة سياسياً وعسكرياً (مع عدم إغفال وجود البعض ممن يستحقون مواقعهم في الوفد) فإن السؤال يبقى:

لكل خطة بديل، ولكل خيار احتياط، وأمام قناعة الجميع بما فيها الهيئة التفاوضية ومعظم أعضائها أن هذا النظام لم ولن يقبل ولن يستجيب لأي من الحلول السياسية وأنه سيبقى طرفاً معرقلاً وسنبقى بدوامة المفاوضات على حساب الدماء السورية، أمام هذا الواقع ما هو البديل لديكم وأنتم من تتسيدون سدة اتخاذ القرار؟

في الداخل قلتم أنكم تمسكون بالمفاصل العسكرية رغم أن الداخل ينفي ذلك ويقول أنكم تمسكون بمن يتبعون لكم فقط ومع ذلك سنقول إنكم صادقون ولكن أجيبونا: ما هي خطتكم لوقف استنزاف الفصائل من قبل تنظيمات داعشية تفتك بأهل وشباب سوريا؟ ما هي خطتكم لمواجهة نظام أنتم من تقولون إنه لا يفهم إلا بلغة القوة وإن خياره كان وسيبقى الخيار العسكري؟

هل لديكم خطة لتوحيد الفصائل بالداخل أم أنكم مستمتعون بوجود مئات القادة وهم يتقاتلون على وضع أسمائهم لا على جبهات القتال بل على جبهات التفاوض؟

الوطن يستحق الأفضل ويستحق التضحية أكثر، كلنا نتحمل المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع لكن أصحاب المناصب والقرار وأصحاب الكراسي والمسؤولية أنتم ولسنا نحن المستقلون، يبقى العتب عليكم وهو عتب المحب لا المتشفي لأننا جميعاً في مركب واحد إما أن يعبر إلى بر السلامة ونحقق لهذا الشعب أهدافه وأمنياته، وإلا فلعنة هذا الشعب ستطالنا إلى يوم الدين ولا نعلم بأي وجه سنقابل فيه رب العالمين.



صدى الشام