على خلفية “مسلخ” صيدنايا:الكتابةُ في المعتقل، المعتقل في الكتابة


“المسلخ البشريّ”، هكذا اختصرت منظمة العفو الدوليّة، في تقريرها الأخير، وصف سجن “صيدنايا” سيئ الصيت؛ موثّقة لثلاثة عشر ألف معتقل قضوا نحبهم تحت التعذيب بشتّى الطرق المخترعة من فكر نظامٍ قمعيّ ولا يزال، رغم ذلك يؤكّد أحد الكتّاب بأن سجن “صيدنايا” مقارنةً بسجن “تدمر” بمثابة إخلاء سبيل!

تتعدّد الأسماء والقوالب، غير أنّ الموت هو واحد، ما من شبيه له في غير السجون السوريَّة، التي لن يعلم أيّ تقرير مدى الفظاعات المرتكبة في دواخلها المعتِمة، ولن يستطيع أيّ تقرير كالذي أعدّته منظمة العفو الدولية أن تنقل الوقائع، على الرغم من أنّ كتّاباً ذوي تجربةٍ مريرة في السجون السورية وثّقوا كتابةً ما جرى داخل تلك الزنازين، لكن دوماً تبقى حلقةٌ ما مفقودة، حلقة تفصل بين المحجوز مع الآهات والضرب، وبين المحجوز في سوريَّة/القفص!.

العديد من المعتقلين خرجوا بأعجوبةٍ بعد سنوات الظلام ليغدوا مصوّرين كتابةً، ما كان يجري داخل المكان الذي لا زال في دواخلهم يتحرّك، والعديد الآخر أيضاً كان يكتب قبل أن يدخل، ومن ثمّ يخرج إلى الحياة مجدّداً ليروي أو يحاول أن يحجب ما يتذكّره ويمنعه من التدفّق على البياض الذي كان محروماً منه طيلة سنواتٍ متواصلة، فقط كي لا يتألّم أكثر. تتفاوت التجربة فيما بين الحالتين، لكن الوقائع هيَ هيَ ولا تتغيَّر، ثمَّةَ سجن وحشي صنعه الطاغية الأسد في داخل كل سوريّ، سواء كان الأخير في المعتقل أو خارجه الذي لا يبتعد عنه تشبيهاً.

أمكنة مضادّة، أزمنة مضادّة، كما قال فرج بيرقدار عن السجون الأسديَّة، تلك الأمكنةُ التي يفوحُ منها رائحة الألم، ووجع القيح والجروح المتعفّنة بإمكان أيّ أحد أن يلمسها، أمكنةٌ تخلَّد كصورةٍ فوتوغرافيَّة من خلال الكتابة.

في هذا الملف سوف نقرأ “السجن” عند مجموعة من الكتّاب السوريين الذين خَبِروا العتمةَ والعيش داخل قوقعةٍ كانت تُضاء بالأنفاس والكلمات والأحلام، إضافةً إلى صراخ الأرواح، سوف نطّلع على السجن في داخلهم الذي بدأ يتوسَّع رويداً رويداً لحظة خروجهم من السجن الأسديّ، الإسمنت المجبول بدماء من قضوا، الذي كان يحاصرهم ويحاصر رفاقهم، ما كان بوسعه أن يحاصر الأفق الذي انتظرهم كما لا زال ينتظر الآلاف من المعتقلين في الزنازين ذاتها التي لا زالت قائمة وبعنفٍ شديد.

 

 

– آرام كربيت (كاتب وروائي):
السلطة وتحويل الكائن إلى مجرّد شيء لا قيمة له

السجن هو ذلك الوحش الخفي الذي يدخل في التكوين النفسي للفرد المسجون ولا يخرج منه على الأطلاق. يبقى نائماً ومستيقظاً في داخله سواء أراد أم لم يرد. إنه موجود في سرير نومه، على طاولة طعامه وشرابه، في حزنه وفرحه وفي علاقاته العاطفية.

أهم شيء يعيش في داخل هذا الكائن، أن جذور الجمال الطبيعي، للطبيعة البشرية في التكوين النفسي للإنسان تموت في داخل هذا عاثر الحظ الذي خرج إلى الحياة بعد مدة طويلة قضاها في مكان مغلق.

يخرج المرء مشوهاً، ضعيفاً، منقسماً على نفسه ومحيطه. فهو غير قادر على فهم نفسه ولا على فهم الآخرين. هناك حاجز نفسي بينه وبين هذا العالم كله يبدو من الخارج أنه إنسان طبيعي، يتكلم ويأكل ويشرب، يتنفس، ولكنه ما أن يختلي بنفسه حتى يعود ذلك الكائن الآخر، ذاته الأخرى، الذي يعرفها سابقاً ويتعرف عليها من جديد.

عملياً، يعيش المرء الذي خرج من السجن، منفصلًا عن محيطه، نتيجة العزلة الطويلة التي عاشها بعيداً عن الحياة وإيقاعها. التغيير الذي أصابه، قلبه رأساً على عقب. يعيش متاهته دون أن يعرف أي كائن ما يدور في داخله. يعلم أنه عاش بعيداً عن آلة الزمان والمكان. وكل شيء حوله يسير إلى الأمام، بينما عالمه يعود إلى الوراء.

منذ اللحظة التي خرجت من السجن لجأت إلى الكتابة للتخفيف من الألم الداخلي كالحزن والقهر والفراغ لأتواصل مع ما أنا فيه. ربما، الكتابة عن تجربة السجن هي الترياق الذي يهدئ التناقضات الداخلية للفرد المغلوب على أمره، وهو المكان الأكثر صدى للنفس.

وفي الكتاب الذي نشرته في العام 2010 باسم، “الرحيل إلى المجهول“، ولد كاتب جديد يحبو نحو الأمل، يهرب من الماضي والحاضر إلى المستقبل. وكائن من كلمات. عريت الحيطان الجافة، الصلبة، الشبابيك العالية الحاجزة للروح والنفس، السلطة وقدرتها على تحويل الكائن البشري إلى مجرد شيء مائع لا قيمة فعلية له. ودائماً كان حنيني إلى الطبيعة والبراءة، إلى الطفولة والنهر والشجر لأرجم هذه الحضارة الصلبة الصماء القاسية التي قزمت الطبيعة والبشر.

 


راتب شعبو (طبيب وكاتب):

كسلحفاة بلا قوقعة

في القسوة، لا شيء يعادل أن يكون جلادوك بلا أي رادع أخلاقي. في السجون السياسية الأسدية، التي خبرتها من الداخل لأكثر من عقد ونصف بسنة وبضعة أيام، أنت مجردٌ من أي وسيلة دفاعية، أنت مثل سلحفاة بلا قوقعة. لا دفاعات شخصية لديك، ولا قانون يصد عنك، ولا مجتمع يحميك. يبقى فقط ما يمكن اعتباره الرادع الإنساني، تلك القوة الكامنة في الضمير (ضمير جلادين!). يمكنك أن تأمل فقط بحماية القاسم المشترك الإنساني مع هؤلاء الذين يحوزون كل شيء ويجردونك من كل شيء.

في القسوة، لا شيء يعادل أن تنتظر رحمة جلاديك. ولا شيء يعادل، في القسوة، أن تجد حياتك تافهة ولا تستحق أكثر من دقيقة أو دقيقتين حتى يُقرَّر أن ترمى في العدم كما يرمى عقب سيجارة. لا شيء أقسى من ذلك، ولا يمكن لأحد أن يدرك شعور هذه اللحظات دون تجربة فعلية.

ذات يوم، ودون مقدمات، تم رمينا في سجن تدمر العسكري الصحراوي الرهيب. كنا خليطا من اليمين واليسار، باعدتنا الرؤى السياسية ووحدتنا حافلات السجون وجدرانها. كان ذلك في اليوبيل الفضي “للحركة التصحيحية المجيدة”، حين لم يستوعب ضباط اللجنة الأمنية “يباس” رؤوس بعض هؤلاء البؤساء المسجونين الذين أرادت “القيادة” أن تفرج عنهم ورفضوا، مع ذلك، أن يشكروا “القيادة”. فما كان من الضابط رئيس اللجنة، الذي كان يرتدي بدلة رسمية سوداء، ويحمل في يده عصا أطول قليلاً من عصا الماريشالية، إلا أن قرر، وهو يضرب ساقه بالعصا عدة ضربات متوالية، “تكسير الرؤوس”.

هناك يطغى الخوف من الموت على كل شيء، يغور المنطق في هوة سحيقة، وكذلك المعنى والكرامة وسلم القيم والاعتبارات. القلق الأول والوحيد هو الحياة. هل أخرج من هنا حياً؟ كل لحظة تمر هي انتصار وانتظار في الوقت نفسه. انتصار لأنك لا زلت حياً، وانتظار لما تحمله اللحظة التالية. في كل لحظة يقول عقلك الباطن ليتني قمت قبل أن أصل إلى هنا بما يستحق هذا العقاب الذي أنا فيه، وفي اللحظة نفسها تموت فيك القوة وتستسلم لترتاح كمن يستند إلى الريح.

من “كسر الرؤوس” إلى “كسر الرقاب”، جريمة واحدة، ليس بحق مكسوري الرأس والمشنوقين فقط، بل بحق المجتمع الساكت والمرغم على السكوت. جريمة مستمرة تقول، إننا في عالم موحش، يحكم فيه من لا يملك الحق ولا الجدارة ولا القيم البشرية.

 

  غسان الجباعي (كاتب ومخرج مسرحي):
العنبر رقم 6

كان لنا شرف تدشين سجن صيدنايا العسكري سنة 1986، على ما أذكر. وكان ذلك-بالقياس إلى سجن تدمر- بمثابة إخلاء سبيل. فهو سجن حديث نظيف، مكون من ثلاث طبقات، على شكل مروحة أو إشارة مرسيدس، لكنه من الداخل أشبه بالمتاهة، أو غابة الحديد المليئة بالأقفاص والسلالم والأبواب. سجن بأجنحة وممرات، على شكل حذوة الفرس، وباب رئيسي يقفل بالسلاسل فوق المزلاج، وداخل كل جناح عدد من المهاجع فيها مرحاض ومغسلة، ولها- أيضاً- باب حديدي عريض متحرك من القضبان، يسمح للسجان بمراقبة ما يحدث داخله.

كانت الطبقة العلوية مخصصةً للسجناء “الخطرين” من الإسلاميين والفلسطينيين، والطبقة الثانية “للخطرين” من اليساريين؛ بينما خصصت الأولى للمجموعات اليسارية، التي كان يعيش بعضها في جناح مشترك، ولكن في مهاجع منفصلة، مثل رابطة العمل الشيوعي، والبعث الديمقراطي والعراقي، والحزب الشيوعي (المكتب السياسي) وبعض التنظيمات الفلسطينية والكردية واللبنانية (التقدمي الاشتراكي، وحزب الكتائب والأحرار) وغيرها من الأحزاب..

هناك تحول السجن إلى مركز ثقافي، حيث جمعنا من خلال الزيارات، عددًا كبيرًا من أهم المؤلفات، وحولنا أحد المهاجع إلى مكتبة عامة. وهناك ترجمنا الكتب، وكتبنا الأشعار والقصص والروايات، وأقمنا الأمسيات والمحاضرات…

وهناك قمت بأول تجربة مسرحية بعد تخرجي من “الاتحاد السوفييتي “… فما إن جمعونا مع حزب العمل الشيوعي في جناح واحد، وكان جلّهم من الشباب المتّقدين حماسًا وحيوية، حتى دبّت فينا الروح من جديد، فقررت أن أحقق حلماً مسرحياً قديماً، كنت قد قمت بإعداده عن قصة للكاتب الروسي أنطون تشيخوف هي «العنبر رقم 6».

اخترنا كل من كان يملك، ولو موهبة قليلة في التمثيل، وكنا خليطًا من كل الأحزاب، وبدأنا التدريبات سراً، في أحد المهاجع التي تبرع نزلاؤها بالتخلي عنها، لمدة ثلاث ساعات يومياً؛ وكانت تلك تضحية كبيرة… لكن التحدي الأكبر أمامنا، كان تصميم العرض والديكور المناسب للظروف التي نعيشها، وكيف يمكن أن نقدم عرضاً مسرحياً في مهجع لا تتجاوز مساحته 30 متراً. أين سيمثل الممثلون!؟ أين سيجلس المشاهدون!؟ واخترعنا تصاميم وحلولاً غريبة عجيبة، كأن يتحول الممثل، عند الحاجة، إلى طاولة أو كرسي، وأن تثبّت المخدات على الجدار وينام سكان العنبر 6 لكسب المساحة وأن نجدل الحبال ونثبتها بين السطح والأرض لتتحول إلى قضبان حديدية، نفكها ونركبها حسب المشهد.. كما قررنا أن نعتمد في الإضاءة على الشموع خلف الأقنعة، وأن يحضر العرض كل مرة عشرة أشخاص فقط، ويكون الحضور وقوفاً وأداء الممثلين همساً تقريباً، كي لا يسمعنا الحراس…

كنت متردداً، وكان المحرض الأكبر لهذه التجربة صديقي الصحافي علي الكردي. قمت بإعداد النص وقام بسام صياغة بنسخ عشر نسخ منه، بخطه الجميل، وبدأ هيثم القطريب، بتأليف الموسيقى على عود صنعناه من “بيدون” ماء بلاستيكي وأوتار من النايلون، وقام الفنان “طلال أبو دان” برسم تصوراته للشخصيات بقلم الرصاص. وما زلت، لحسن الحظ، أحتفظ بنسخة من النص، وبتلك التصاميم والتصورات، حتى الآن.

أصبحت مسرحيتنا حديث الجميع، وكانت التجربة ممتعة لدرجة أننا تمنينا ألا يصدر قرار بإخلاء سبيلنا قبل عرض المسرحية؛ لكن العرض- مع ذلك- لم يكتمل، لأن إدارة السجن قررت فجأة فصلنا عن بعضنا بجدار إسمنتي، عقاباً لنا، وذلك بسبب رسالة تم ضبطها في المنور، بين الطبقتين الثانية والأولى… حدث ذلك بعد مضي تسع سنوات من الاعتقال.

 فراس سعد (شاعر وكاتب):
التنقيب عن آثار من مرّوا

دخلت إلى السجن بسبب مقال، هذا ما أراد أن يوحي به الأمن. حسناً. أعرف أن المسألة أبعد من مقال. مع ذلك كانت الكتابة المناهضة للنظام حجته لاعتقالي، أول فعل في المنفردة هو التنقيب عن آثار من مروا، تنقيب عن كلمات منفردة لأن أحدا لن يتجرأ على ارتكاب عبارة أو جملة، لم أصل سوى إلى خطوط عمودية مترادفة كصف جنود أو طلاب في التدريب الجامعي، فهمت أنها عد لأيام سجين، واصلت العد حتى اكتشفت أن هناك من بقي نصف سنة، كان كافيا لبثّ الرعب في قلبي، منقبا عن كلمات أخرى في التواليت، وفي أي زاوية سرية، واصلت بحثي لأعرف أين أنا، بعد أربعين يوما اكتشفت اسم السجن الذي أوجد فيه، خلف أنبوب الصرف الصحي: “صيدنايا”.

في المنفردة تبدأ المراجعة، ماذا فعلت ماذا لم أفعل ماذا لو لم أفعل، وصلت إلى نتيجة أن اللغة العربية هي السبب الأساسي لمحنتي الراهنة، فلو أني كتبت بلغة ثانية لما انتبه الرقيب العربي السوري إلى مقالاتي المناهضة له ولنظامه، ولما تم اعتقالي من ثم، لذا قررت الانفكاك عن اللغة العربية، لكن ليس عن الكتابة، فاللغة التي لا تحتمل كلمة حرية أو حق الأجدر بنا تركها إلى لغة أخرى.

هكذا بدأت بما تيسر لي من أشياء حادة أحفر بعض الكلمات بالإنكليزية على جدار المنفردة، إحداها قصيدة صغيرة جداً عن الصحن الوحيد، عن الانتظار، عن الضوء أو السماء، كتبتها في المكان الأكثر عتمة من المنفردة بحيث لا يمكن للسجان أن يراها إلا بنور فاحص، خوفاً من العقاب الذي لا يقل عن الرفس والركل ثم الفلق…

بعد أشهر من وصولي إلى الزنزانة الجماعية راودني حلم الكتابة، حيث لاحظت كلمات كتبت بخط اليد في هوامش كتب وصلت إلى الزنزانة، أغلبها كتب دينية. أول قصيدة أقرأها في السجن كانت لحسام ملحم، الشاعر الشاب المعتقل معنا، هربت باليد من زنزانة إلى أخرى، كتبها بخط يده فوق ورقة لا أعرف من أين جاء بها، أمسكت الورقة غير مصدق، بمتعة وخوف، بدهشة وخشوع، كمن يمسك بحبيبة يخشى أن تنفجر في أي لحظة، لكن من شجعني على الكتابة هو علام فخور الفنان المبدع، أقنعني أن هناك ساعي بريد يمكن أن يوصل رسائلنا إلى الخارج، لم أصدق حتى قرأت رسالة كتبها بأسلوب أدبي فريد، بدأت بالكتابة، رسالة أو رسالتين على ما أعتقد، منذ تلك اللحظة أحاول الكتابة الذهنية، بقلم التخيل فوق لوح الذاكرة، أكتب وأنسى، ثم أكتب وأنسى، وأتحسر على ما نسي، لأنه حتماً أجمل ما كتبت.

في غرفة ضابط كبير مغادرا معتقل صيدنايا أقول جواباً عن سؤاله إني سأعمل في الصحافة، يقول: “أحذرك من العودة إلى كتابة أشياء سيئة، لأننا سنجلبك….”.

باستثناء مقالات قليلة جداً لم أتجرأ طوال سنوات على الكتابة باسمي، لأسباب عديدة، رغم أني أكتب كل يوم، بعد السنة الثانية للثورة بدأت مصاعب موضوعية تتعلق بالنشر في صحف لبنانية أو مواقع سورية، لأسباب طائفية للأسف، غالباً، أو لتدخل أشخاص في المعارضة لا تعجبهم طريقتي أو لأسباب شخصية تخص بعض هؤلاء… كل ما نشرته في السنة الأولى بعد السجن كان بمساعدة أصدقاء لتأمين عيشي اليومي في العاصمة…

عاد معظم أصدقاء السجن الذين توطدت صداقتي معهم إلى الكتابة، فأسسوا منابر وصحفا: عمر عبدالله كاتب رأي في الصحافة، دياب سرية أول من تجرأ على الحديث عن انتفاضات صيدنايا، مؤسسا صحيفة أسبوعية، ماهر إسبر مؤسسا لموقع إلكتروني، طارق غوراني مؤسسا لموقع مكرو سوريا، أيهم صقر مؤسسا لمجلة أطفال، بدوري أنا وقد أصبت بالغيرة أسست بمساعدة فنية من طارق، موقع فلافس، من دون أي دعم مالي، فتوقف بعد أشهر…

أطلق المعتقل في أصدقائي الشباب شهوة القول وإرادة التعبير ولم يستطع الرقيب إيقافهم، كان للثورة فضل، فربما من دون ثورة ما كان لنا أن نحلم بالعودة إلى الكتابة الحرة، وخطر الاعتقال ماثل أمام أعيننا كل لحظة.

فرج بيرقدار (شاعر):
تمارين يوميّة على الحياة

السجون عموماً، وسجون الأسد على وجه الخصوص، أمكنة مضادة، وأزمنة مضادة أيضاً، بل هي قتل للزمن ونهش للأعمار. حين تنتهي التحقيقات وجولات التعذيب يغدو السجن مسألة زمن شديد الوطأة، زمن ثقيل، حجريّ، سيئ النيّة، لزج ورجراج في آن معاً. هو زمن تؤرِّخه في الأيام الأولى على الجدران، وفي الشهور اللاحقة على الذاكرة، ولكن عندما تصبح السنوات قطاراً طويلاً، متعَباً من الصفير ويائساً من المحطات، فإنك تحاول شيئاً آخر يشبه النسيان. إنها دائرة مفرَغَة لا يمكن الخروج من ربقتها بغير تحفيز الذاكرة وإعادة تأثيثها على نحو جمالي ماضياً ومستقبلاً، وقائعَ وأحلاماً. ولعل الآداب والفنون هي الوسيلة الأنجع، لأنها تميل بطبعها إلى الجمال والحرية والحياة، ما يعني أنها نوع من المواجهة مع ظروف السجن المتحالفة مع البشاعة والنذالة والموت.

بطء إيقاعات الزمن في السجن شديد الوطأة والمضاضة، إلا أن له وجهاً آخر يمكن أن يستثمره السجين بالتأمّل، وإعادة النظر بأفكار عديدة متحرراً من قيود السلطة والمجتمع والثقافة السائدة، وبالتالي بانسجام مع النفس أثناء مراجعة الكثير من القناعات الفكرية والثقافية والاجتماعية وتحريرها من كل تصنيم. بالنسبة لي صرت أنظر إلى الشعر كشعر بغض النظر عما إذا كان عمودياً أو على التفعيلة أو حراً من الأوزان. لم أعد منحازاً لقالب دون غيره.

ولكن بعيداً عن هذا وبعيداً فيه، فقد كنت أعي منذ بداية الاعتقال أهمية الكتابة بوصفها آلية دفاعية من أجل التوازن ضمن ظروف مخلخَلة ومتشظّية وافتراسية. كنت أعي مسبقاً أن السجن محاولة دؤوبة لإلغاء معنى السجين، بل لإلغاء المعنى بإطلاق، وبالتالي فإن خلق أي معنى سيمنح السجين إمكانية أفضل في مواجهة السجن، هذا إضافة إلى ما يعنيه ذلك من إحساس بحرية معنوية ورمزية، أعني حرية الخيال الذي هو غير قابل للأسر.

التأمل والكتابة وخلق المعاني، عبر الشعر أو غيره، من شأنها أن تحمي قاموسك اللفظي من التخثر، لأن مجموع الألفاظ المتداولة داخل السجن لا يتعدى الألف كلمة.

باختصار.. إذا كان السجن أشبه بتمارين يومية على الموت فعلياً أو معنوياً، فإنه لا بد من القيام بتمارين يومية على الحياة، وليس هناك من تمارين أفضل من الآداب والفنون.

 


آسيا خليل (شاعرة وإعلاميّة):

نصوص السجن

 

لا حجل يقف على أسوارنا

1

قمرٌ يميلُ عن الحائطِ الكفيفِ

بيني وبينكَ

صمتٌ ينفخُ العتمةَ

في النجمِ البعيدِ

تعالَ انتشلني من الخلاءِ الدبِقِ

(رويداً، رويداً يسكن أوردتي)

أزحْ عن أشجاريَ طيرَ الوحدةِ

مترهلاً يتراكمُ الوقتُ في الغرفةِ الصغيرة

كثيفاً يضغطُ على شجني

2

ترى

هل أنتَ هنا؟

إذاً

مغمضةَ الصوتِ

سأتسلَّلُ

من لغةِ البابِ المحشوّ بالصدى

لن يلمحوني وأنا أتأبّطُ قلقي

انشرْ جناحيكَ لحنيني

نطوي أرصفةَ المدينةِ

خذني إلى شمالِ البلاد

وامضِ بي إلى البيادرِ نجبْها

غزالينِ شاردينِ

مُرَّ بي فوق المرابعِ

أتلمَّس طفولتي وصبايَ

ازرعني عشبةً أمام عتبةِ بيتِ أمّي

ذرني سكَّرةَ العيدِ في كفِّ طفلة يتيمة

ألقِ بي حصىً في دجلةَ تنبئُ العابرينَ

بفخاخ الموتِ على الضفَّتينِ

لوِّحْ بقلبي للماضين في البحرِ

إلى المدنِ الغريبة ..

متى يرجعون؟

اسقني المدى الشارد في حدودِ الله

أشعلْ قناديلَ الملحِ في دمي

واسكرْ من غفوةِ الكرزِ على شفتَيْ

انثرْ رذاذ الشمسِ على جلدي

وضمّني إليكَ متأجِّجةً بالحدائقِ

قبل أن يفيقَ

الحرّاس.

3

عمّا قليلٍ ستنفتحُ الأبوابُ

إنّه أوانُ التنفّسِ ..

هل يدركونَ أنّنا نستنشقُ الذاكرةَ

في غرفٍ

مكتظّةٍ بالوقتِ الباردِ الكسولِ

وأنّنا نحتاجُ أن ننظرَ في عين الله مباشرةً؟

4

شتلةٌ صغيرةٌ زرعناها في الحوضِ

الترابيّ الصغيرِ أمام مهجعنا

براعمها تفتّحتْ اليوم

تحلَّقتْ حولها سجيناتُ الرّأي

يمسّدْنَ الساعات انبهاراً بفتنتها

وعطرُها المنثورُ في الرّيحِ

يميلُ على الفتياتِ

تنضحُ بالحنينِ عيونهنَّ

ساهيةً عن غنجِ الوردِ المتفتِّحِ

يسترجعني عطرٌ تناثرَ

حين صدى وقعِ الأزرارِ تناهى إلى يديكْ

أتيهُ مع عشبةِ النّايِ في أذني

وأغيبُ في العناق.

 

5

أنسجُ شالاً زهرياً للطفلةِ روز

المولودةُ في غيابي

تقولُ أختي: “يسكنُ البحرُ عينيْ ابنتي

وتنسابُ على قطنِ جبهتها خيوطُ الذّهبِ”

أحبّكِ روز .. وأحبُّ الشجرْ

وأهيمُ برائحةِ التّرابِ

والنّعناعِ البرّيِّ في ساحةِ دارنا

ورهيفِ المطر

أحبّكِ .. فاكبري طفلةً

تهدهدُ القمرَ على أغصانِ السّرو.

6

تغمرنا الشمسُ بطرفِ نظرتها النّاعسةِ

والأقفالُ

تحكمُ الحصارَ على أرقي

نصلُ الضجرِ يشطرُ سكينتي

أنينٌ خافتٌ يتصاعدُ من مساماتي

ونأييِ عن مساءاتكم يكثفني

تعالَ نمضِ الليلةَ أيضاً معاً

خلفَ غيمِ الأفقِ

فروحي تفيضُ عن هذا المكان

وأحتاجُ سماءً أوسعَ من فوّهةٍ

وفضاءً خالياً من الأسلاكِ الشائكة.



صدى الشام