صورة «مولانا» في الدراما العربية


تُعبر الدراما عن الذات الإنسانية لذا فهي فن صناعة الأحداث بالصوت والصورة، ولها قدرة غريبة على تشكيل الصورة الذهنية لدى المشاهد، ولذلك نجد أن الكثير من الدراسات والبحوث العربية في مجال الدراما، تركز على الدراما التلفزيونية، وجمهورها، أكثر من غيرها، لأن «مشاهدي التلفزيون العرب هم مشاهدو دراما بالدرجة الأولى.
من أبرز ما تناولته الأعمال الفنية العربية صورة المتدين في أكثر من شكل وأسلوب فيلم «مولانا» الذي يتضمن، كما أظهرت التقارير الرقابية مغالطات دينية وتاريخية، وإساءات متتالية لرجال الدين الإسلامي والدين المسيحي، وتحريض على الصراع الديني – الديني والصراع المذهبي.
في عرض صورة المتدين كانت أغلب الملامح الدرامية والسمة الغالبة في الإنتاج العربي اللحية الكثيفة غير المهذبة، والشارب المحفوف، والمسبحة والشيخ المنافق أو الدرويش والولي. والصورة الثانية لشاب حليق الوجه، لا يجد حرجاً في التعامل مع الجنس الآخر، يفسر النصوص بما يتلاءم مع مصالحه الشخصية، والنمط الثالث من علماء متصدرين للعلم يتزلفون للحكام ويقدمون كقدوات ونماذج.
وحسب الدراسات فإن دوافع التعرض للدراما التلفزيونية تتشكل من الترفيه والتعلم واكتساب المعرفة والتفاعل مع الآخرين وفهم القضايا الاجتماعية والتعرف على أنماط حياتية جديدة، ووسط هذا الكم الهائل من الإنتاج كيف يمكن رصد السمات العامة لصورة لمتدين في الدراما والسينما العربية.
قدمت الدراما والسينما العربية علماء الدين عموماً بصورة سلبية فهي تظهرهم منافقين كذابين متملقين سياسياً لنيل المناصب، كما حضرت صورة المشعوذ الدجال صاحب العاهة في البدن، أو درويش رث الثياب يرتدي اللون الأخضر للدلالة على الزهد والصوفية، وصورة مكررة بأشكال مختلفة لمتدين شهواني إرهابي، وهما صفتان متلازمتان، وتاجر بالسلاح ومرتاد للنوادي الليلة.
كما ظهرت صورة معلم الطلاب للقرآن الكريم في المدارس الشعبية ودور التحفيظ القرآنية على هيئة شيخ جشع يتاجر بالدين لتحصيل قوت يومه، وطبعاً ضرير يتضاحك عليه الأطفال، يسأل الأطفال ماذا أرسلت أمهاتهم له كأجر له مع تأكيده المستمر على أن أجره على الله القدير، ويختتم حديثه للأطفال بالصراخ والشتم وضربه الأرض بالعصا.
واستطاع القائمون على السينما والدراما تكوين صورة ذهنية سيئة تعبر عن الكبت الجنسي لطبقة رجال الدين فارتبط بقصد واضح لدى القائمين على الإنتاج العربي صورة الشيخ زائغ العين الذي «يبصبص» على النساء ويرتاد الحانات ويواعد المومسات بعيداً عن أعين مُريديه، وهو ضخم الجثة واللحية لا يتوانى عن إظهار قدراته الجنسية.
من العبارات الدارجة في السينما والدراما حديث أصحاب العمامات واللحية الطويلة «يا كافر يا عدو الله» التي تنطق غالباً في مشهد يوحي بأن «الآخر» لا يمكن أن يتساوى مع صحاب اللحية البيضاء أو مرتدي العمامة أو حامل السبحة، الذي يقضي وقته في التسبيح والصلاة وهي صورة مقصدها ربط التكفير بالمصلي والملتحي والمُسبح عموماً، هذه الصورة تقدم الخلق السيئ والمزاج المتقلب في ربط مقصود بأن رجال الدين ذوو أخلاق سيئة وإن التزموا بالصلاة والتسبيح.
صورة الإرهابي القاتل صورة مكررة بأكثر من أسلوب، إما بالطريقة التقليدية لشيخ ذي لحية كثة يرتدي عمامة وجلبابا دينيا وغالباً ما يكون أبيض قصيرا ويرتدي وشاحاً أبيض، أو الصورة الحديثة لشاب مهذب منفصل عن الواقع يشعرك بأنه بلا أهمية في الحياة وذقن قصيرة مشذبة وتضاف في كلا الحالتين رتوش من هنا وهناك لزوم التصعيد الدرامي للأحداث لنساء وحفلات وخمور وتجارة السلاح.
إن مشاهدة السينما والدراما تستهلك مشاعرنا ومالنا ووقتنا، وغالباً ما ينكر الجمهور وجود تأثير مباشر عليه، ولكن الجمهور ودون أن يشعر يتماهى مع المعروض ويحاكي الأفعال بالمشاهد والنصوص فتجد عبارات الأبطال وأشكالهم حاضرة في فضائع وسلبيات تقدم للمجتمعات على أنها أفعال طبيعية.
كما تساهم الدراما في تدريب الجمهور على السلوك المتوقع، فمثلاً فرار الإرهابي من رجال الضبط الأمني تجد له نموذجا واقعيا يقلده من تماهي مع الصورة التلفزيونية وأخذها نموذجاً، ونموذج الإغواء الذي تمثله بنات الليل نموذج حاضر في كثير من تعبيرات وتصورات الشارع العربي وصفحات التواصل الاجتماعي، وهكذا يصبح المشاهد مستعدا سلفاً لاستحضار ما يرغب من صور درامية وسينمائية مرّت بخياله للتماهي معها وتمثيلها على شخصيته.
في عالم الدراما والسينما كما، يري روجر فولر لا وجود لشيء اسمه التمثيل المحايد للواقع، ذلك أن الأحداث والعمليات والأشياء والناس تقدم لنا دائما عبر وسيط، سواء في الفيلم، أو اللغة، أم في أي وسيط آخر، فللوسيط بنيته الخاصة المشبعة بالقيم السائرة، يخضع التمثيل لعملية تصفية عبر شبكة من الدلالة، ولا ريب في أن الدلالة ليست» طبيعية، بل «إنها وظيفة بنية اجتماعية واقتصادية ومؤسسية».
وضمن ذلك السياق لم يعد من الممكن فهم الرسالة الإعلامية، على أنها مجرد نقل للواقع أو محاكاة له، بل مقاربتها بوصفها تمثيلاً للواقع وإعادة بناء له، فالتشكيل النصي والدرامي للحدث في وسائل الإعلام، يحوّل المضامين الإعلامية إلى تمثيل لغوي وذهني يستحضر ذلك التفاعل بين الإنسان والثقافة والمجتمع العالق بالحدث، مستوعباً مختلف العناصر المنتجة للمعنى التي من شأنها أن تخترق الأبنية الفكرية والاجتماعية والنفسية للمتقبّل، وتكيّف الرسالة مع الظروف المحيطة بها.
ويوظف الخطاب الإعلامي الدلالة التمثيلية اللغة ليشكل دلالته الاتصالية، كما يستثمر المعرفة الجماعية لإنتاج المعاني وصياغة الأفكار وفق ما يقتضيه الفعل الاتصالي، والتلفزيون، بوصفه ناقلا للدراما والسينما فإن تأسيسهما في المجتمعات جاء كوسائل للترفيه، والجمهور بسبب تعرضهم المستمر تتكون في أذهانهم تصورات عن الواقع الاجتماعي، والواقع في وسائل الإعلام يمكن أن يؤثر في المعتقدات، وبالتالي في سلوك الإنسان ويطلق على ذلك اسم نظرية الاتجاه السائد، وهذا يعني أن مضامين التلفزيون تعمل على تثقيف معتقدات الجمهور.
ويتضاعف تأثير دراما التلفزيون على صغار السن، والأسر الفقيرة والمفككة، فالغرس يحدث نتيجة عملية امتصاص المعرفة، ويتيح التعرض لدراما التلفزيون وفق هذه النظرية معلومات بارزة عن الحقائق والقيم والصور الذهنية، وتؤدي كثرة التعرض لتلك المعلومات إلى سهولة استرجاعها من الذاكرة، على أساس أن الناس يبنون أحكامهم وفقاً للمعلومات المتاحة، هذا التدرج في طبع الصور الذهنية في عقلية المشاهد، بفعل مشاهدته المستمرة للتلفزيون، خاصة المسلسلات الدرامية، ينتج عنه مع مرور الوقت وجود عالمين، أحدهما عالم واقع المجتمع كما يصوره التلفزيون، والآخر عالم واقع المجتمع الحقيقي المعاش على الطبيعة، وذلك يوضح قوة تأثير التلفزيون الإعلامية الاتصالية لدى المشاهدين.
إن قوة الدراما التلفزيونية، والسينما كأداة اتصالية وقدراتها غير المحدودة على حمل الأفكار والرسائل التي يرغب القائم بالاتصال في إيصالها إلى الملايين، فالدراما التلفزيونية «تكتسب مكانة خاصة بالنسبة إلى باقي المواد التي يقدمها التلفزيون، ذلك أن القيمة الإعلامية للأعمال الدرامية تكمن في قدرتها على حمل الأفكار التي تعكس هذه المفاهيم، وقدرتها على التأثير في الجمهور تأثيرًا غير مباشر، وهذا الأسلوب يعتبر من أنجح أساليب التأثير، ذلك أن الموعظة أو التوجيه المباشر قد يأتي بردود فعل عكسية، فإذا أريد ترسيخ قيمة معينة، أو معنى أو مفهوم فإن ذلك يتم بنجاح من خلال تمثيلية أو مسلسل أو فيلم، ويمكن التحكم في مستوى وعي الجمهور من خلال المعلومات المتاحة في الأعمال الدرامية والسينمائية.



صدى الشام