on
أسواق «البالة»: حين يتحايل السوري على معيشته الصعبة
منذ سبعينيات القرن الماضي بدأ التجار العرب يمارسون نوعاً جديداً من التجارة، حيث اتجهوا إلى البلدان الأوروبية ليبتاعوا منها الثياب المستعملة، لينشأ في بلادنا ما يسمى «البالة». في سوريا ونتيجة الأزمة الاقتصادية بعد الثورة، باتت هذه الأسواق ملاذاً للكثيرين.
منذ نشأة هذه التجارة، كان هناك نوعان من الزبائن، الطبقة الفقيرة، التي لاقت بثياب البالة الرخيصة ملاذاً لها، فقد كان سعر القميص أو السترة لا يتجاوز الدولار، وهو رقم أغرى أصحاب الدخل المحدود للنبش في أكوام الثياب المتراكمة أمام المحال، والبحث عن قطع تلائمهم. النوع الثاني لا يرتبط بطبقة اقتصادياً، بل بعقلية سائدة في بلدان العالم العربي، حيث يؤمن البعض بأن الثياب التي تباع في الأسواق المحلية سيئة الصنع، وأن الثياب الأوروبية المستعملة أفضل منها، فيقصدون محال البالة، التي تسمى أيضاً بمحال «الثياب الأوروبية»، ويقتنون منها قطعاً ملمعة، ويبحثون بينها عن العلامات التجارية المعروفة عالمياً.
وأدى التباين الطبقي لدى زبائن البالة، إلى جعل التجار يصنفون بضائعهم بثلاثة أقسام، صنف الكريم، وهي ثياب مستعملة لا تزال برونقها، وبعضها غير مستعمل وعلاماتها التجارية لا تزال مغروسة فيها. الصنف الثاني هو النخب الأول، وهي ثياب تبدو مستعملة، ولكنها بحالة جيدة، والصنف الأخير هو النخب الثاني، وهو يضم مجموعة هائلة من الثياب مرمية على مصاطب بجانب المحال، وتحتوي على قطع ملابس انتهت صلاحيتها.
بعد أن اندلعت الثورة السورية، وخلفت وراءها أزمة اقتصادية عانى منها الشعب، ازدهرت تجارة البالة، وانضمت شرائح جديدة إلى أسواقها بل أصبحت واحدة من الأعمال التي يقبل عليها الشباب.
هذه التجارة، التي كانت على الهامش لوقت طويل، هددت الاقتصاد السوري، مما دفع دوائر النظام المختصة، منذ منتصف سنة 2014، إلى إصدار سلسلة من القرارات المتلاحقة، تمنع تجارة هذا النوع من السلع واستيرادها. لكن عملية الاستيراد لم تتوقف، فالبضائع لا تزال تمر حتى يومنا هذا من لبنان إلى سوريا بانتظام، وسرعان ما أوجدت عصابات احتكرت هذه التجارة، التي باتت غير شرعية.
وحسب الصحافي المقيم في سوريا، أحمد إبراهيم، فإن دوريات الشرطة المكافحة لهذه التجارة، لم تلاحق سوى التجار الشباب الحديثين فيها نسبيا، الذين يعتاشون من هذه المهنة، ويبيعون البالة على عربات متنقلة، وأما محال البالة الكبيرة، والتي تتمركز في منطقة الإطفائية في دمشق، فهي لم تتوقف عن العمل يوماً واحداً.
ودفعت القرارات الحكومية القاضية بإيقاف تجارة البالة، إلى نشوء ظاهرة جديدة، وهي محال محدثة تبيع ثياب البالة على أنها ثياب جديدة. ويدعي أصحاب هذه المحال بأن بضائعهم هي تصفيات للمحال الكبرى، ويغرسون على قطع البالة كروت خاصة بهم. واستطاعت هذه المحال أن تكسب عددا كبيرا من الزبائن، بسبب الأسعار الرخيصة والمنافسة لكل ما هو جديد.
ووفقاً لإبراهيم، فإن هذه المحال كثرت في الآونة الأخيرة في ضواحي العاصمة دمشق، مثل منطقة أشرفية صحنايا، التي تحولت معظم متاجر الملابس فيها إلى متاجر مختصة بتصفيات المحال الكبرى.
وعلى الطرف الآخر من المعادلة، يبدو أن التجار اللبنانيون، الذين يوردون لأشقائهم السوريين هذا النوع من السلع، أعجبوا بفكرة تصفيات المحال، إذ إن الظاهرة بدأت تنتقل إلى لبنان، ففي منتصف الشهر الماضي، أُفتتح محل في شارع «الحمرا» في بيروت، اسمه لبيع ثياب بالة على أنها تصفيات للمحال الكبرى، وقد شهد إقبال غير مسبوق بفضل أسعاره الرخيصة، وطريقة العرض الأنيقة.
إلا أن الاحتيال الذي يقوم به المحل لجذب الشباب، قابله البعض باستياء واضح، وتقول نادين، إحدى زبائن المتجر، «لم يتطلب الأمر جهداً كبيراً لأكتشف أن ما المحل يقدم ثياباً مستعملة، فأغلب الثياب لا تحتوي على كروتها الأصلية، وبعضها لا يبدو بحالة جيدة، كما أنني وجدت في جيوب إحدى الستر مناديل ورقية، ولكنني عندما صارحت صاحبة المحل بشكوكي، رفضت الاعتراف، وأصرت على أن كل ما في المحل هو ثياب ليست مستعملة»، ولكن هناك الشباب لم يهتموا بأن ما يقدمه المحل هو ثياب مستعملة.
وتقول نور: «لا يهمني إن كانت البضاعة مستعملة أو ليست مستعملة، هناك بعض القطع التي أعجبتني وأشتريتها لأنها رخيصة ومميزة».
الشباب في سوريا يحاول الخروج من مأزق اقتصادي، سواء كان بائعا أو مشتريا، البائع يجد في هذه التجارة حلا مؤقتا في الاستمرار بالحياة، والمشتري يخدع نفسه ويقنعها بشراء ملابس جديدة بماركات عالمية. وفي الحالتن فإن السوري يحتال على معيشته الصعبة.
صدى الشام