«سينما فلسطين» مستمرة في تولوز الفرنسية: أفلام بين حتمية الأمل والمواجهة… والموت على الطريق


تستمر تظاهرة «سينما فلسطين» الدورة الثالثة في تقديم عروضها للجمهور الفرنسي حتى أواخر الشهر الجاري، وفي جعبتها للأيام المقبلة أفلام وندوات، من بينها «باب الشمس» ليسرى نصرالله، و«أمور شخصية» لمها الحاج. تظاهرة تجهد في الوقوف بثبات بدعم من مؤسسات فرنسية إلى جانب مؤسسة قطان. كما تحاول أن تقدم بعض الفعاليات حتى خارج أوقات المهرجان. أفلام ثلاثة بارزة في التظاهرة في اليومين الماضيين شغلت الجمهور نقاشاً وتساؤلات. وهنا إضاءة على تلك الأفلام.

حتمية الأمل والحرية

يبدو فيلم «3000 ليلة» (2015 ) الفيلم الروائي الأول للمخرجة الفلسطينية مي مصري بعد عدد من الأفلام التسجيلية، تحية كبيرة لنضالات المعتقلين الفلسطينيين، خصوصاً لنضال المرأة في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي. تخوض المخرجة في عوالم المعتقل من خلال معلمة فلسطينية شابة، يحكم عليها بالسجن ثماني سنوات بسبب مساعدتها لجريح فلسطيني مناهض للاحتلال. ترفض ليال، وهذا هو اسمها، الانصياع لثغرة في قضيتها تسمح لها بالإفلات من الحكم، حين يوحى لها بأن تقول إنها ساعدت الشاب تحت تهديد منه. ستجد ليال (ميساء عبدالهادي) نفسها بمواجهة مستويات متعددة من الصراع في سجن النساء ذاك: الاحتلال ممثلاً بسجّانيه، وهم هنا من النساء، والسجينات الإسرائيليات الجنائيات اللواتي يقاسمنها وزميلاتها المعتقل نفسه، وربما كان فيلم مي مصري من بين أعمال قليلة تناولت تجربة اعتقال من هذا النوع، أي مشاركة سجينات فلسطينيات وإسرائيليات المكان نفسه، إلى مواجهة زميلات الاعتقال الفلسطينيات المتوجسات من الضيفة المستجدة، وصولاً إلى صراعها مع زوج يتخلى عنها سريعاً ويسافر بعيداً إلى كندا، وهي التي لم تكمل أشهراً قليلة من الزواج معه، بل رغم أنها تلد له طفلاً في السجن، سيكبر هناك ويبقى لعامين كاملين، ويصبح ورقة لابتزاز ليال والضغط عليها لإنهاء مشاركتها في إضراب كبير يقع في السجن. حكاية الطفل تبدو التطبيق العملي لعبارة سعدالله ونوس الشهيرة «إننا محكومون بالأمل»، فماذا تفعل سيدة شابة تلد طفلاً في المعتقل غير أن ترّبي الأمل، حسب قصيدة لمحمود درويش، من أجلها ومن أجل وليدها.
تقدم مي مصري في فيلمها صورة جميلة ومتقنة، إضاءة، واعتناء بالتفاصيل، خصوصاً لناحية المكان (الفيلم صور في سجن عسكري قديم في مدينة الزرقا الأردنية)، وكأن المخرجة تؤكد انتماءها وإخلاصها في فيلمها الروائي لشغفها المديد بالسينما الوثائقية.
لكن اللافت أن المخرجة تصنع فيلمها اليوم بعدّة الماضي، فهي تستنهض عناصر ورموزاً فلسطينية قديمة، تجاوزتها اليوم معظم الأفلام الفلسطينية الجديدة. رموز مباشرة تبقى في المستوى الأول من التخاطب مع الجمهور، فالسجن والقهر هما أسلاك شائكة وقضبان، والحرية شمس وعصافير مرسومة على الحيطان من أجل طفلها الصغير، أو منحوتة بأصابع معتقل فلسطيني بدأ يعيش معها قصة حب في السجن، بل إن الترميز يبدأ من اسمها (ليال عصفور)، وكذلك فإن الإغواء بالحياة (وهو هنا من قبل الاحتلال) يعني أن تحضر تفاحة حمراء بكامل نضارتها في قلب المشهد، وصولاً إلى تجسيد الصورة البشعة للسجان الإسرائيلي. مع أن المخرجة، على مستوى آخر، تلفت في إضاءتها على المشترك الإنساني بين سجينة إسرائيلية (مدمنة سرقة ومخدرات) والبطلة الفلسطينية التي تنقذها من الموت، فتثبت التفوق الأخلاقي للضحية الفلسطينية، وتستطيع البطلة أن تبذر تعاطفاً مع قضية الفلسطينيين في قلب تلك الإسرائيلية الناجية.
فضّل الفيلم أن يكــون تحية على أن يقدّم إشكالية كبيرة، ولغة سينمائية جديدة، كما هو حال أفلام إيليا سليمان وهاني أبو أسعد والسينمائيين الفلسطينيين الجدد. وربما لذلك فهو ينتمي للماضي أكثر من أن ينتمي لسينما اليوم.

حتمية المواجهة

في فيلم «حب، سرقة ومشاكل أخرى» (2015) يأخذنا المخرج مؤيد عليان إلى حتمية أخرى، هي حتمية المواجهة مع الإسرائيليين، وهو يختار لذلك حبكة مناسبة، مشوقة ومليئة بالسخرية والمرارة. لا يتحدث الفيلم عن انسداد الأفق أمام الشباب الفلسطينيين في بحثهم عن الخلاص، قدر ما يؤكد حتمية المواجهة وضرورة التحرر من الاحتلال كحل وحيد للخلاص من الضياع والبطالة ومشاكل الفقر والتعليم وخلافه. لم يرد بطل الفيلم أن «يرتكب» بطولة حين قرر ترك العمل مع أبيه في مستوطنات الإسرائيليين، إنه غير راض وحسب، أراد أن يهرب، فقرر سرقة سيارة تساعده على شراء فيزا تساعده لعبور هذا الجحيم، لكن قدره المشؤوم (والساخر أيضاً) وضع بين يديه، في قلب السيارة المسروقة، جندياً إسرائيلياً مخطوفاً من قبل مقاومين فلسطينيين. هكذا يصبح بين «نارين» تلاحقانه، المخابرات الإسرائيلية التي تريد تجنيده كي يدلّ على المقاومين، وكتائب المقاومة التي راحت تبحث عن الجندي المخطوف الذي فلت من يدها بمصادفة السرقة، فتضغط على الشاب كي يعيده إليهم. يحاول الشاب أن يساوم المقاومين على مبلغ من المال مقابل تسليم الجندي لهم، دون أن يطمح للانضمام، فمن ناحيته لا يريد سوى الهرب بعيداً عن دائرة الموت والعنف والفقر والذل. لكن استخبارات الاحتلال لن تترك الشاب لمصيره، فهي ستفضح، كما هددته، علاقته بامرأة متزوجة من رجل نافذ، حكاية ستنتهي بأن تصل صورهما إلى الزوج، ما يؤدي بالزوجة إلى قتله، فيما يتبنى بطل الفيلم جريمة قتل الزوج مدعياً أنها جاءت بسبب السرقة. لكن براعة المخرج وحكايته لم تتوّجا بإنتاج يسمح بالاستعانة بممثلين محترفين، فمن الواضح أن التمثيل كان مصيبة الفيلم، فهو بدائي لأبعد الحدود، ولم يستطع النص والإخراج وحدهما أن يحملا العمل، مع أنهما يلفتان إلى مخرج موهوب وواعد.
في فيلم «المنعطف» (2015) لرفقي عساف تجتمع ثلاث شخصيات على الطريق، الأول فيهما هو راضي (الممثل أشرف برهوم) الفلسطيني الأردني الذي اختار لنفسه الحياة على الطريق مقيماً في سيارة فان، وضع فيها مكتبته وطعامه وقهوته. هو صامت في الغالب، وفي القليل الذي سيفصح عنه سنتعرّف إلى رجل مهزوم، بفعل من حرب عام 67 من جهة، وبفعل غياب الأب. أما الشخصية الثانية فهي ليلى (الممثلة فاتنة ليلى) التي ستقذفها محاولة سرقة إلى سيارة راضي، وهي فلسطينية من مخيم اليرموك تتحدر من مدينة صفد. الشخصية الثالثة هي للبناني (مازن معضم) يبدو أنه غادر بلده تحت وطأة الحروب المتتالية. ربما تصلح عبارة واحدة لتفسير هذا العمل الملتبس، اللامنطقي في بعض تفاصيله، الذي يبدو أقرب إلى استعادة أحداث عبر غيبوبة لشخص تعرض لحادث، حين يصادف السيارة شرطي يطلب منهم أن يوصلوه إلى مكان قريب، لكنه حين يعرف أن البنت تعرضت للسرقة يصرّ على اقتيادهم لمخفر الشرطة لتقديم بلاغ حول الواقعة. في تلك اللحظة، عندما يدخل الشرطي إلى المخفر يسأل اللبناني السائق راضي عن كتاب وجده في السيارة، من دون الحديث عن تفاصيله، وما الكتاب سوى «رجال في الشمس»، رواية غسان كنفاني المعروفة. هنا نفهم أن المخرج يريد أن يغصب المتفرج على تفسير عمله بإيحاء من تلك الرواية التي قاد فيها أبو الخيزران، وهو يحمل في داخله هزيمة نكبة عام 48، الفلسطينيين الثلاثة إلى الموت في قلب لهيب الخزان في الصحراء. وهنا يأتي التذكير برواية كنفاني، في لحظة دخول الشرطي الأردني إلى المخفر. هكذا إذن، سيارة الفان هي صهريج معاصر، والشخصيات الثلاث يبدو أنها ستلاقي، على هذا النحو أو ذاك، حتفها في الطريق.
الشخصيات هنا ليست تماماً شخصيات، إنها قضايا وحسب، فاللبناني هو قضية لبنان برمتها، كما الفلسطيني قضية الفلسطينيين، كذلك يبدو أن المخرج لا يعرف شخصياته كما ينبغي، فمن السهل أن تكتشف أن ليلى، ابنة مخيم اليرموك، لا يشبه منطوقها، ولا يعكس انتماءها ذاك.

راشد عيسى
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»



صدى الشام