on
هل تتحطم مفاوضات جنيف على صخرة “المرحلة الانتقالية”؟
على الرغم من أن القضايا “الشكلية” في محادثات التسوية السورية الجارية في جنيف، مثل تشكيل وفد المعارضة وطبيعة المفاوضات، مباشرة كانت أو غير مباشرة، وترتيب جلوس المفاوضين، أخذت وقتاً كبيراً قبل اجتماع جنيف وفي أيامه الأولى، إلا أن الأهم من ذلك هو مضمون المفاوضات، والتي ستركز بشكل أساسي على المرحلة الانتقالية التي نصّت عليها جميع القرارات والتفاهمات الدولية الخاصة بالشأن السوري. وفي هذا السياق، فإن المعارضة السورية بدعم من بعض حلفائها، رأت أنه من الضرورة إرساء حكم انتقالي كامل الصلاحيات، ينتفي معه دور رأس النظام الحالي وأجهزته الأمنية، في وقتٍ تواصل فيه روسيا وإيران، الداعمتان لنظام بشار الأسد، تقديم صيغ مختلفة للمرحلة الانتقالية، تتضمن مشاركة معينة للمعارضة في السلطة القائمة، مع بقاء النظام ورأسه وأجهزته إلى نهاية المرحلة الانتقالية، بل مع إعطاء الحق للأسد في إعادة ترشيح نفسه في أية انتخابات جديدة.
وقد بدأ حديث المجتمع الدولي عن المرحلة الانتقالية حول سورية في نهاية يونيو/ حزيران 2012، باجتماع أولي في جنيف شاركت فيه الدول المعنية بالقضية السورية، ليصدر لاحقاً “بيان جنيف 1″، المكون من 6 نقاط، والذي دعا إلى وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين، ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة، وإدخال المساعدات، على أن يعقب تلك الخطوات تأسيس هيئة حكم انتقالي من أسماء مقبولة من قبل النظام والمعارضة، تكون كاملة الصلاحيات، أي لا يكون للأسد أي دور فيها.
وفي شأن صلاحيات الهيئة الانتقالية ومواصفاتها، فقد حدّد البيان ذلك بالقول “إقامة هيئة حكم انتقالية يمكنها تهيئة بيئة محايدة تتحرك في ظلّها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة، ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة”. والإشارة إلى “مجموعات أخرى” تركت الباب مفتوحاً للتأويل حول تركيبة مثلّثة للحكومة بوجود مستقلين ومجتمع مدني، بالإضافة للنظام والمعارضة.
وبالنسبة للسلطات التشريعية، فقد تحدثت الوثيقة عن تشكيل جسم تشريعي منبثق عن هيئة الحكم الانتقالية أو بإشرافها يتولى إعداد وثيقة الدستور الموقّت وطرحه للاستفتاء الشعبي. غير أنه لم يتم تحديد المصدر التشريعي الذي ستستند إليه الفترة الانتقالية، وما إذا سيكون الدستور المعتمد حالياً من جانب النظام، أم أنه سيتم الاتفاق على إعلان دستوري، أو اعتماد دستور 1950 كما تطالب بعض أطراف المعارضة.
ولعل القضية الأكثر إشكالية، والتي تصطدم بها أغلب الجهود المبذولة في هذا الإطار، هي موقع ودور وصلاحيات رأس النظام. هناك تأويلات في هذا الصدد، حول دور “السلطات التنفيذية الكاملة”، والتي نصّت عليها صلاحيات الهيئة الحاكمة الانتقالية. بالنسبة للمعارضة، فإنها تعني رحيل رأس النظام نهائياً، أما بالنسبة لبعض الاجتهادات الدولية فتعني “تجريده من الصلاحيات التنفيذية فقط وإبقاء الصلاحيات التشريعية”. أما النظام وإيران وروسيا، فيعتبرون أن “السلطات التنفيذية الكاملة” تعني “بقاء النظام بكامل صلاحياته مع توسيع صلاحيات الحكومة”.
والواقع أن هذه ليست قضية رمزية لدى غالبية الشعب السوري الذي ثار على نظام الأسد، ولا يمكن تخيّل مواصلة النظام ورأسه الحكم في المرحلة المقبلة، مع كل ما ارتبط باسمه من جرائم وانتهاكات، بل هي قضية عملية أيضاً، لأن بقاء النظام كفيل بنسف أي حل سياسي وتجويف مضمون المرحلة الانتقالية.
ولا يتعلق الأمر برأس النظام فقط، بل أيضاً بأجهزته الأمنية وكبار رموزه المتورطين بالقتل. وهؤلاء جميعاً يتمتعون بصلاحيات كاملة في نظام أحادي قمعي. وبقاء الأسد، ولو لفترة قصيرة، يهدد جوهر صلاحيات أية هيئة حاكمة انتقالية، بغض النظر عن اسمها. من هنا، فإن رفض المعارضة أية تسوية أو مرحلة انتقالية بوجود رأس النظام، مرده أيضاً الحرص على توفير أسباب نجاح الحل السياسي. لكن صيغة المرحلة الانتقالية لم تتوقف عن التبدل في إطار البيئة الدولية المتغيرة، خصوصاً التفاهمات الروسية ــ الأميركية.
وفي بيان فيينا 1 بتاريخ 30 أكتوبر/تشرين الأول 2015، والذي جمع 17 دولة، إضافة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، تمّ الاتفاق على تسع نقاط شكّلت مبادئ عامة للحل السياسي في سورية، تتضمن وحدة سورية واستقلالها وهويتها العلمانية، والحفاظ على مؤسسات الدولة، وتشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة، ووضع دستور جديد، وإجراء انتخابات جديدة، وتنفيذ وقف إطلاق النار في كل أنحاء البلاد. لكن الاجتماع أرجأ البت في بعض النقاط الخلافية وفي مقدمتها مصير الأسد، وما إذا كان يستطيع ترشيح نفسه للانتخابات التي تعقب المرحلة الانتقالية أم لا.
والمُلاحظ هنا هو أن اجتماع فيينا، وإن كان قد اعتمد على بيان جنيف 1، باعتباره قاعدة سياسية وقانونية للحل في سورية، إلا أنه حاد عنه من ناحية شكل هيئة الحكم، إذ حصل في أوج التخلي الأميركي عن المعارضة السورية لصالح الرؤية الروسية والإيرانية في الحل. فبعدما أكدت وثيقة جنيف على تشكيل “هيئة حكم انتقالية” ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، دعا بيان فيينا إلى “تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية”. وهو ما فتح باب الاجتهاد بأن جزءاً من الصلاحيات سيبقى لرئيس النظام وفق ما يرى أنصار الأخير.
وجاء في بيان فيينا 2 الصادر في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، أن “أعضاء المجموعة الدولية لدعم سورية أكدوا دعمهم للعملية الانتقالية وفق ما ورد في بيان جنيف 2012 وإطلاق عملية سياسية، من شأنها، في غضون ستة أشهر، إقامة حكم ذي مصداقية وشامل وغير طائفي، ووضع جدول زمني لصياغة جديدة للدستور. وعقد انتخابات حرة ونزيهة وفقاً للدستور الجديد في غضون 18 شهراً. ويجب أن تجرى هذه الانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، وفقاً لأعلى المعايير الدولية للشفافية والمساءلة، وذلك بمشاركة جميع السوريين، بما في ذلك سوريو الشتات”.
والمرجع الأخير لعملية التسوية هو قرار مجلس الأمن 2254 الصادر بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الأول 2015، والذي انبثق من وحي بياني فيينا 1 وفيينا 2، وجاء فيه أن “دعوة الأمين العام للأمم المتحدة ممثلي النظام والمعارضة السوريين للمشاركة في مفاوضات رسمية بشأن مسار الانتقال السياسي، على أن تبدأ تلك المفاوضات مطلع يناير/كانون الثاني 2016 بهدف التوصل إلى تسوية سياسية دائمة”.
وأعرب البيان عن “دعم مجلس الأمن للمسار السياسي السوري تحت إشراف الأمم المتحدة لتشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، تشمل الجميع على ألا تكون طائفية، واعتماد مسار صوغ دستور جديد لسورية في غضون ستة أشهر”. وجدد القرار دعم مجلس الأمن إجراء انتخابات حرة ونزيهة على أساس الدستور الجديد في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة.
بالتالي فإن التبدل مستمر في صيغ التعبير عن طبيعة ومضمون المرحلة الانتقالية، عبر استخدام مصطلحات مختلفة قابلة للتفسير في أكثر من اتجاه. وبينما تتمسك المعارضة بمرجعية جنيف 1، والتي أقرّت تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات كاملة، فإن روسيا تحاول وفق بعض التسريبات الواردة من جنيف، تسويق خارطة طريق أخرى، تقوم على تشكيل “حكومة وحدة وطنية” تشبه ما يرد عادة في خطابات النظام، أي “حكومة يقودها بشار الأسد بمشاركة من بعض قوى المعارضة”. ويتناغم مع موقف إيران، والتي طرحت خطة من أربع نقاط في مارس/ آذار 2014، تشمل وقف إطلاق نار فورياً، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وضمان حقوق الأقليات، وتنظيم انتخابات رئاسية.
وتبقى مسألة الدستور التي ترفض المعارضة مناقشتها في هذه المرحلة، ورفضت تسلم مسودة دستور أعدته روسيا خلال مفاوضات أستانة الشهر الماضي. وأكد وفد المعارضة الذي اجتمع في الرياض قبل مؤتمر جنيف الحالي على أن مسألة إعداد الدستور يجب أن تكون في مرحلة لاحقة، أي بعد تأسيس الحكم الانتقالي.
وكشفت المعطيات الواردة من جنيف أن “المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا يسعى لإيجاد صيغة مشتركة توفق بين مطالب روسيا وإيران ومقتضيات القرار الأممي 2254، ليطرحها للنقاش مع الأطراف المعنية”. ولفتت إلى أن “دي ميستورا يعمل حالياً مع 3 لجان بشكل متزامن تتناول الحكم الانتقالي، وإعداد الدستور، والانتخابات، إلا أنه بذلك يخالف القرار الأممي القاضي بأن صياغة الدستور هي من اختصاص هيئة الحكم الانتقالي”.
صدى الشام