العربية في كردستان العراق: ليس للغة الضاد من يحميها


تمتاز اللغة العربية بمكانة تأسيسية في الهوية الثقافية الكردية. لذلك ينفتح البحث في تاريخها في كردستان العراق على أثر الثقافة الكردية في الثقافة العربية. ولا يقتصر الأمر على الدور التحديثي للعلماء الكرد في النحو العربي. كالنودهي (1753 – 1838 م) والمفتي الزهاوي والد الشاعر، جميل صدقي الزهاوي، والداهية المتصوف البيتوشي صاحب كتاب (كفاية المُعاني في حروف المَعاني) الذي كان التعرف على نتاجه البديع إحدى أهم ثمرات هذا المقال وأسماء أخرى ليس المجال ممكناً لذكرها. بل يمتد الأثر التفاعلي للثقافتين إلى ظهور شخصيات تثاقفية غير ملتزمة بأية حدود إثنية في تمثلها الهوياتي الحضاري، كشخصية معروف الرصافي ـ صاحب الرسالة المحمدية ـ الكردي الذي تزخر سيرته بمتغيرات فكرية كثيرة، تجسدت في علاقته الناقدة للملك فيصل وخلافه مع الزهاوي حول فكرة الهوية الإثنية. قبل ذلك بعقود جاء التصوف الكردي ببذخ لغوي وتفرد لا يقاربه لغوياً أي تصوف آخر.

الكردية بين العربية والفارسية

الشاعر نالي (الملا خضر أحمد الميكائيلي (1800 ـ 1856م) كتب قصائده بلغة غيرية إن جاز التعبير. كل بيت شعري يتضمن على عبارات كردية وفارسية وعربية وتركية. ما جعل ترجمته نظماً إلى لغة أخرى أمراً محالاً، وترجمته نثراً خسارة للعبه اللغوي وللأيقاعات التي ينتجها بجمل مركبة من عبارات مترادفة صوتياً، كاستخدامه كلمة ندم العربية والتي يجزِّئها إلى مقطعين/ نَ دَم/ بالكردي للحديث عن الشفاه والزمن والندم بكلمة واحدة مكررة ثلاث مرات. كذلك الأمر مع مولانا المولوي (1806ـ 1882)، وسيد البلاغة الشاعر الأكثر تفلسفاً محوي (1831-1906م) اللذين كانا كغيرهما من متصوفة الكرد يكتبون بلغة مركبة من لغات. وقد امتازت علاقتهم باللغة العربية بكونها اللغة الوحيدة التي تدفقت في لغتهم التعبيرية كلغة غير مقتحمة. الدين كمشترك روحي ومصدر بلاغي وفقهي جعل العربية مألوفة التصور. بينما ظلَّت علاقتهم باللغة الفارسية الأقرب إلى اللغة الكردية علاقة يتضمنها الإكراه. وقد بات استخدام اللغة الكردية في كردستان إيران قضية سياسية بعد قرار رضا شاه بهلوي بمنع استخدام اللغات غير الفارسية. والأسوأ كانت العلاقة مع اللغة التركية التي ظلت لغة إقصاء لأنتربولوجيا الآخر. ولم تتحول، حتى اللحظة، إلى لغة منزهة عرقياً، بل وإنما باتت مؤسسة عرقية دستورياً وثقافوياً.

كانت بغداد في الفترة الملكية وخلال فترة حكم عبدالكريم قاسم، قبلة ثقافية كردية. إذاعة بغداد /القسم الكردي والإصدارات الكردية التي كانت تصدر فيها باللغتين العربية والكردية وتنشر في المدن الكردية. جعلت المكان البغدادي مرتعاً لتفاعل جوهري بين اللغتين وعبرهما تأسست مكتبة كردية عربية عبر أساتذة وشعراء كرد. كرائد الحداثة الشعرية، عبدالله كوران، الذي عمل أستاذاً للأدب الكردي في جامعة بغداد. والمؤرخ مظهر أحمد ومحمد أمين زكي وغيرهم كثير من الذين جعلوا المكان الكردي منفتحاً على الفضاء الثقافي العربي ممثلاً ببغداد والبصرة. وعلى إثر ذلك ظهر مثقفون كرد كتبوا بالعربية وترجمت أعمالهم إلى الكردية كتجربة بلند الحيدري ومسعود محمد ومحي الدين زنكنة ومعظم نتاج العلامة مصطفى زلمي.

لا صدام بين العربية والكرد

لم تحارب الدولة العراقية اللغة الكردية في كردستان العراق، بل يحسب لها أيضاً أنه في بداية السبعينات باتت اللغة الكردية تدرس في المدارس العربية في الموصل وبعقوبة. لذلك ظلت اللغة العربية في كردستان العراق لغة رسمية دون أن تكون ممثلة لنظام قسري. الأمر الذي حفظ لها مكانة ثقافية داخل الوجدان الكردي بكردستان العراق. ليس لدى جيل ما قبل الانتفاضة الكردية 1991 حساسية قومية أو سياسية من اللغة العربية. ولم تتحول إلى قضية إشكالية بين أطراف المعارضة العراقية أيام صدام حسين. بينما ظهر في المقابل خلاف جوهري بين الحركة الكردية المعارضة في إيران وموقف حزب “توده” الإيراني المعارض الذي ظلَّ مؤيداً لقرار الشاه رضا بهلوي بمنع اللغات غير الفارسية.

استمرت المدارس العربية في كردستان العراق حتى بعد تحررها من النظام البعثي 1991. مدرسة الجواهري في السليمانية ومدارس أخرى قائمة إلى اليوم. واستمر الاهتمام بالنشر باللغة العربية في إصدارات متعددة كمجلة گلاويژ العربي ومجلة سردم العربي ومجلة گولان وجريدة التآخي وجريدة الاتحاد وغيرها من المطبوعات الأخرى التي حاولت أن تجسر العلاقة بين الثقافتين العربية والكردية. رغم محدودية التوزيع وعدم وجود خبرة تسويقية داخل المؤسسات الثقافية. وظلت المناهج الجامعية في كليات العلوم الإنسانية في جامعتي صلاح الدين والسليمانية باللغة العربية مع تقديم المحاضرات باللغة الكردية. وعلى الرغم من تحرر العراق من حكم صدام حسين إلا أنَّ العودة إلى بغداد كأفق ثقافي ومدار هوياتي تفاعلي لم تحدث. انقطع جيل ما بعد الانتفاضة الكردية عن المناطق العربية في العراق ولم تكن هناك سبل اتصال باللغة العربية إلا ما ندر. التكنولوجية الحديثة دخلت كردستان بعد 2003. والعربية التي دخلت معها كانت في البداية عبر المسلسلات السورية وأخيراً عبر الأغاني العربية المعولمة فنياً، والتي هي أسوأ مدخل للغة العربية بما يمكن أن تتضمنه قيمياً إلى مجالات غير عربية. ثم جاءت المسلسلات التركية الكارثية على جميع الصُّعد. فاكتملت بهرجة الحداثة المزيفة.

بدأت ماكينة الاستهلاك في المجتمع الكردي المُعولم سلباً في تطبيع الجيل الكردي الجديد بختم السوق المعاصرة. شهوات جديدة وحاجات مسبقة الصنع، حطمت المجتمع الكردي وجعلته نسخة عن مجتمعات الكولاج السريع. ومن بين الخيارات المتاحة حالياً هو التحول إلى اللغة الإنكليزية ضمن حدود استخداماتها اليومية. حتى أن كثيراً من صفحات “فيسبوك” الكردية لدى الجيل الشاب تسطر تعابيرها بالإنكليزية وليس بالكردية. يعكس هذا الموقف إحساساً بالدونية أكثر منه نزعة للارتماء في لغة الحضارة الاستهلاكية المعولمة. وعندما يتجاوز شخص ما لغته الأم فكيف سيكون مصير اللغة العربية إذن. كما أن حجم المحتوى العربي على الإنترنيت ضئيل. ما يجعل الكثير يلجأ إلى اللغة الإنكليزية نظراً لضخامة وحداثة وتنوع المواضيع التي يمكن اعتمادها.

تيار شعبوي

حاولت بعض المقالات التي تناولت موضوع اللغة العربية في كردستان العراق أن تضع مكانة ومصير العربية في سياق من الكراهية السطحية التي يمكن تقديمها بدون حجة اللغة. لكن هذه المقالات حتى على مستوى بنية المقال جاءت متناقضة ومزيفة. لم يتراجع الاهتمام باللغة العربية نتيجة وجود تيار شعبوي مناهض للغة العربية في كردستان. فالتيارات الشعبوية التي تحاول أن تغلف تجمعها المرضي بشعارات مزيفة موجودة في كل مجتمع. لكنها في كردستان هشة وغير قادرة على الترويج لكراهيتها للآخر. بل ثمة موقف رسمي كردي عمل على الحفاظ على اللغة العربية في المناهج التعليمية وفي المؤسسات الإعلامية. حتى أن مهرجان گلاويژ الثقافي ومنذ انطلاقته قبل 21 عاماً جاء بثلاث لغات هي الكردية والعربية والفارسية. أما محاولات البعث المتكررة لعوربة صراعه ضد الكرد فقد باءت بالفشل. إذ لا يوجد في كامل أرشيف النضال الكردي ولا كلمة واحدة ضد العرب. بناءً على ما تقدم فإن عزوف الجيل الكردي الجديد عن تعلم العربية وتداولها له أسباب مركبة. عولمة المجتمع الكردي وغياب البرامج الثقافية العربية. لا توجد استثمارات عربية في مجال الثقافة العربية. لا جامعات وافدة إلى كردستان ولا مؤسسات ثقافية مستقلة وقادرة على تبادل الرأسمال الثقافي خارج إطار الهبات الحزبية.

لغوياً لم تؤسس العولمة لبرج بابل معاصر، بل ثمة إزاحة واقتحام شبه كولينيالي للغة واحدة في مواجهة بقية اللغات. والاقتصاد العابر للحدود يهندس المجتمعات غير المحصنة ثقافياً بقوالب سلوكية مبوبة. لذلك نتلمس في كردستان نزعة تغريب سطحية ضمن قيم متناقضة. إلى جانب نموذجين عربيين هما دبي وبيروت. دبي كفنتازية معمارية، وبيروت التي حضرت إلى كردستان بمطاعمها التي تقدم طعاماً غربياً وصالونات التجميل التي تستلهم هيفاء وهبي ونانسي عجرم.

العرب غائبون

أشار، مرة، بول فيريللو إلى الملحق الذي أرفقته أميركا باتفاقية الفحم التي وقعتها مع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فقرة صغيرة سمحت لأميركا بتقديم مخيلتها الهوليوودية في الصالات الأوروبية. توقف الفحم كمصدر طاقة واستمرت الأفلام الأميركية ببرمجة ثقافتها في البيوت الأوروبية. لذلك استنفرت فرنسا من عودة أميركا إلى منظمة “يونسكو” سنة 2003. فقضية الاستثمار في اللغة والثقافة هي مشروع مستقبلي لا أسهم شرقية فيه. الصين خصصت المليارات لهذا الغرض. والعالم الغربي الفرنكفوني والأنجلوساكسوني في صدام مستمر.

كردستان العراق أضعف من أن تقارن بالمقاربة الآنفة. لكنها تعرضت لنفس الشيء. المسلسلات التركية التي اقتحمت البيوت الكردية وأصبحت جزءاً من قضايا الطلاق في المحاكم الكردية. باتت أيضاً مؤثرة على عملية الاستهلاك وتفضيل البضائع التركية والسياحة إلى الأماكن التي تصور فيها هذه المسلسلات والتي تستمر عملية سردها إلى سنة كاملة. فافتتحت المدارس التركية والمطاعم والماركيتات التركية. بينما لا تجد أي حضور للثقافة العربية إلا ما تقدمه أساساً مؤسسات كردية. العرب غائبون. ويقتصر حضورهم على معرض أربيل الدولي للكتاب وعلى مشاركة بعض الأسماء في فعاليات ثقافية كردية.

حتى حضور الثقافة العربية في المكتبة الكردية متروك لجهود فردية انبرى لها بعض المثقفين الكرد. كتجربة الشاعرعبدالله البرزنجي الذي قام لوحده بترجمة سلسلة من الشعراء العرب إلى اللغة الكردية. نذكر منهم محمود درويش وعباس بيضون ومحمد الماغوط وسنية صالح ورفعت سلام ومحمد آدم. إلى جانب ترجمات كثيرة لكنها تبقى فردية. قصارى القول. لا يوجد برنامج ثقافي عربي مترجم إلى مؤسسات فاعلة داخل كردستان العراق. الجسر موجود لكنه ممدود من طرف واحد فقط. أما العرض التقريري عن عدد المدارس العربية ولافتات الشوارع المكتوبة بالعربي فهو مجرد تورية لحقيقة غياب الفعل الثقافي العربي داخل المجال الكردي المقتحم بالاستهلاك.



صدى الشام