روسيا ترفع البطاقة الحمراء بوجه “حزب الله”


عندما اجتمعت كبرى فصائل الثورة السورية في العاصمة التركية “أنقرة” لاتخاذ قرار المشاركة من عدمه في مؤتمر “أستانا 1” قررت تلك الفصائل اختبار جدية وقدرة “موسكو” على تثبيت وقف إطلاق النار وقدرتها على لجم “الأسد” وميليشيات “إيران”، فوضعت شروطها الأربعة وربطت التجاوب معها بقرار المشاركة، وأمام هذا الاستعصاء اضطرت الدبلوماسية التركية حينها للزج برأس الاستخبارات التركية “هاكان فيدال” لنقل رسائل وضمانات غاية بالأهمية من الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى المجتمعين؛ إحداها كانت أن المشاركة بالمؤتمر ستؤدي لنتائج إيجابية وستُتوّج عدا عن تثبيت وقف إطلاق النار بإخراج إيران وتوابعها بما فيهم حزب الله من سوريا، وأن المباحثات والتفاهمات التركية الروسية تتلاقى عند إخراج كل القوى الأجنبية من سوريا.

تلك المؤشرات وإن كانت لا تظهر للعلن لكنها بالتأكيد تتوضح عبر الصراع المخفي بين “موسكو” و”طهران”، ولكن ولكي لا يُفهم الكلام في غير سياقه فعلينا أن نعلم أن هذا الصراع لم تكن غايته حماية الشعب السوري من إجرام عصابات “قاسم سليماني” والميليشيات التابعة له بما فيها “حزب الله”، بل هو صراع على من يمتلك النفوذ الأكبر في سوريا ومن يستطيع الإمساك برقبة “الأسد” أكثر والتحكم بمستقبله هل هي “طهران” أم “موسكو”؟

 

ميليشيات “حزب الله” وأمام عقدة ردّ الدَين لنظام الأسد الذي ساندها طيلة عقود من الزمن، وهو من ساهم بإخراج المقاومة الفلسطينية من جنوب لبنان والزج بها هناك بناءً على توافقات دولية، ونظام الأسد من حارب كل المكونات اللبنانية وقصفها من أجل عيون “حزب الله” بناء على تعليمات “الخميني” حينها، لذلك وجدنا مقاتلي الحزب وقناصتهم كانوا منذ اللحظات الأولى في شوارع دمشق وكل مواقع التظاهرات التي اندلعت ضد نظام الأسد، وليخرج علينا إعلام النظام ليتبرأ من حالات القتل وليتهم عصابات إرهابية أنها تقف وراء عمليات القتل بينما كانت عناصر استخباراته الخاصة تؤمن حماية المباني التي يتمركز فيها قناصة الحزب.

 

الانهيار في شعبية الحزب بعد تدخله في سوريا كان كارثياً، فالشعارات التضليلية والعناوين البراقة ومحاولة الضرب على الوتر الوطني المقاوم كلها بانت وانكشفت وسقطت تحت أقدام الرأي العام الداخلي في لبنان وفي الوطن العربي أيضاً، فدعمه لديكتاتورية “الأسد” وطاغية الشام لم يكن هناك ما يبررها ومعها ظهرت أجندته الطائفية المقيتة، وتجلت معها تبعيته المطلقة لإيران وأجندتها التخريبية في المنطقة بعيداً عن أي رابط عروبي أو حتى لبناني، وسياسة القتل والترهيب التي اتبعها “حزب الله” كانت واضحة للعيان سواءً كانت في المناطق ذات الأهمية اللوجيستية التي تمر منها قوافل إمداده عبر سوريا في القلمون أو في المناطق المحيطة بمطار دمشق الدولي والطرق المؤدية إلى معابره وأنفاقه اللاشرعية على الحدود اللبنانية – السورية. أما عن جرائمه بحق الشعب السوري أكان عبر القتل الممنهج بحق المدنيين (مجازر القصير، وكامل قرى القلمون) أو عبر العمليات العسكرية في وسط وشمالي سوريا، فالحزب يدرك تماماً أن جرائمه ولّدت حقداً في قلوب السوريين سيمتد لأجيال وأجيال وأن الثأر منه قادم ولو بعد حين.

الواضح أن “حزب الله” ومن خلفه “إيران” صاحبة القرار بالزج بمقاتليه في ساحات القتال السورية لم تكن تُدرك عواقب هذا التدخل أو لنقل أنها لم تكن تملك خياراً آخر أمام حتمية سقوط نظام “الأسد” على يد ثوار سوريا، وتبعات هذا التدخل لم تكن بحسبانهم أيضاً.

الكاتب غازي دحمان كتب بهذا الشأن يقول:

(لا شك أن حزب الله، لم يكن يخطر ببال قادته أن الحرب في سوريا ستمتد طوال هذه الفترة، ومن ثم وجد نفسه عالقاً في مستنقعها، وهذا الأمر أوجد أهدافاً جديدة له ودفعه إلى تطوير استراتيجياته في الحرب، لذا بات الحزب يعتمد استراتيجية وقائية بعيدة المدى تقوم على قاعدة أن الأكثرية في سوريا يجب أن ترتعب منا لعقود قادمة كما يجب أن تبقى مكبّلة ومحاصرة وضعيفة، لأن خروجها من هذه الوضعية مصدر خطر محتمل، من هنا جاءت فكرة ترحيل أكبر كم ممكن إلى شمالي سوريا – إدلب، ودفع أكبر عدد ممكن من الشباب إلى مغادرة سوريا نهائياً، وصناعة أعداء للأكثرية من صلبها عبر تجنيدهم في مليشيات مموّلة من إيران).

 

 

روسيا التي تقاتل في السماء وتراقب المستجدات على الأرض كانت لديها رؤية وتصِلها تقارير كل ما يدور ويحصل في الجبهات السورية إما عبر ضباط جيش “الأسد” المقربين من موسكو أو عبر غرف العمليات التي يتواجد بها الخبراء الروس أو عبر مركز التنصت الاستخباراتي الروسي الذي يراقب ويتجسس على كل الاتصالات في منطقة الشرق الأوسط والذي يتواجد في حي “القابون” قرب قيادة “الوحدات الخاصة”، ومع تزايد الدعم الجوي لطائرات “بوتين” التي أحالت أحياء حلب الشرقية ومحيطها إلى كتلة نارية ملتهبة، وألحقت بالمنطقة دماراً غير متوقع اقتربت مدينة حلب من السقوط بيد ميليشيات إيران و”حزب الله” وما تبقى من مخلفات ما يُسمى “جيش الأسد” فكان القرار الروسي بمنع دخول كل الميليشيات الشيعية إلى أحياء حلب الشرقية، وكلفت بذلك اللواء “زيد صالح” رئيس اللجنة الأمنية في حلب والمقرب من مقر قيادة الروس في “حميميم”، ودعمت وجوده وسيطرته عبر إدخال كتيبة الشرطة العسكرية الروسية (كتيبة الشرطة العسكرية هي تسمية خلبية وحقيقتها أنها لواء روسي مقاتل مُدرب على الاقتحام والمهام الخاصة كان على رأس القوة العسكرية التي اقتحمت واحتلت شبه جزيرة القرم وشارك بالقتال أيضاً في أوكرايينا)، وكان ثمن هذا القرار الروسي بإبعاد الميليشيات الشيعية عن أحياء “حلب” عشرات الاشتباكات بين الروس وميليشيات “إيران” قُتل فيها العشرات من الجانبين، لكن الجانب الروسي كان يُدرك أنه مهما تكن أثمان تلك الاشتباكات مع الميليشيات الشيعية فإنها لا تقارن بالجرائم التي سترتكبها تلك الميليشيات بحق “سنة” أهل حلب، وروسيا تُدرك أيضاً أن ارتدادات تلك الجرائم قانونياً ستطالها في يوم ما في المحاكم الدولية حتى لو انسحبت منها.

وعندما أراد حزب الله الانتقام من الروس قام بعملية اغتيال فاشلة للواء”زيد صالح” رئيس اللجنة الأمنية في حلب قرب كراجات جبلة بتاريخ الخامس من كانون الثاني بداية هذا العام بعد معلومات استخباراتية سرّبها لهم عملاؤهم من استخبارات “الأسد”، عملية الاغتيال فشلت بالوصول للواء “زيد” لكن ابنه الملازم “جعفر” وعشرات المدنيين السوريين ذهبوا ضحية هذا التفجير لحزب الله.

 

 

وفي محاولة لترتيب أوراقه في المناطق الحدودية في بلدات وقرى القلمون الغربي بالتحديد قام “حزب الله” بالدعوة لمفاوضات مع فصائل الجيش الحر في القلمون الغربي تقضي بانسحابه من المنطقة مقابل ترتيبات معينة منها عودة النازحين والمهجّرين السوريين من أبناء تلك المناطق من لبنان، لكن تلك المفاوضات (حتى الآن) لم يُكتب لها النجاح لأنها ترتبط بتغيّر الظروف الدولية وتتعلق بمدى الضغوط التي تُطالب “حزب الله” بالانسحاب من سوريا، وتتعلق أيضاً وبشكل رئيسٍ بتصاعد وتيرة وحدة تصريحات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” والتي تساءلت مؤخراً: ماذا تفعل إيران وأدواتها في سوريا والعراق؟

وأمام تخوف القيادة الروسية من هجمات أمريكية (محتملة) على حلفائها في سوريا بعد تصريحات الرئيس “ترامب”، وبناءً على تفاهمات “موسكو” مع “أنقرة” ومن قبلها التفاهمات “الروسية” مع “إسرائيل” والتي تتخوف هي الأخرى من ازدياد أو تعميق التواجد الإيراني وأتباعه على مقربة من حدودها مع سوريا، أمام ذلك اتخذ مركز عمليات “حميميم” قراراً بنشر كتيبة شرطة عسكرية في مواقع نفوذ حزب الله في القلمون ومحيط دمشق في خطوة تمهيدية قد تكون لملء فراغ انسحاب “حزب الله” من المنطقة، والمعلومات الواردة من تلك المواقع تقول إن كتيبة من القوات الروسية القادمة من اللاذقية قد انتشرت في ثكنة “النبي هابيل” الواقعة جنوب غربي “وادي بردى” وفي بلدة “مضايا” في ريف دمشق، ثم قامت بالتوسع في المنطقة ونشر عناصرها في مناطق كانت قد أدرجتها ميليشيات “حزب الله” اللبناني ضمن مناطق نفوذها، والمعلومات تقول أن الانتشار المكثف للشرطة العسكرية الروسية طال مناطق “وادي بردى” وطريق لبنان القديم حيث أقامت حاجزاً عسكرياً قرب منطقة “الهامة” بريف دمشق.

 

 

خروج ميليشيات “حزب الله” من سوريا إذا ما تم لن يكون بسبب تصريحات الرئيس الأمريكي “ترامب”، ولن يكون بسبب إرادة روسيا بالتفرد وحيدةً بقرار “الأسد” في سوريا، وليس فقط بسبب المأزق الذي لحق بحزب الله نتيجة ضغوط حاضنته الشعبية في الضاحية الجنوبية بشكل خاص وبباقي لبنان بشكل عام، بل زاد عليه الخلاف الذي برز مؤخراً بين قيادة “حزب الله” العسكرية والسياسية من جهة وبين الجنرال “قاسم سليماني” من جهة أخرى، المعلومات تقول أن علاقة “الحزب” مع “سليماني” تدهورت بشكل كبير بعد أن زادت تدخلاته بقرارات الحزب وبعملياته العسكرية، وقادة “حزب الله” لمسوا أن كلَّ همّ “سليماني” من خلال خطط وتراتيب قتال المعارك هو حماية الميليشيات الإيرانية ولو على حساب حياة مقاتلي الحزب وهذا ما أدى إلى انسحاب المقاتلين القدامى من ساحات المعارك والعودة إلى لبنان واستبدالهم بمقاتلين جدد لا يملكون خبرات قتالية إنما حاجتهم للرواتب دفعت بهم للقبول بتلك المهمة مما زاد من خسائر الحزب في سوريا وهذا الأمر أزعج “سليماني” الذي قطع عن ميليشيات “حزب الله” الرواتب في الأشهر الثلاثة الأخيرة.

أمام هذا التردّي بالعلاقات البينية بين ميليشيات إيران، وضمن مستجدات الواقع الدولي، ومع الرغبة الروسية بالاستحواذ على الساحة السورية يبدو أن روسيا رفعت “البطاقة الحمراء” بوجه حزب الله مطالبةً إياه بالخروج من الملعب السوري جارّاً وراءه أذيال الخيبة، لكن “نعيم قاسم” خرج من سراديب الضاحية ليقول: قرار خروج الحزب يُتخذ من قبلنا وبعد تثبيت حكم “الأسد”!

الشعب السوري لديه قناعة راسخة متجذرة بعمق تجذر جبل قاسيون، عاجلاً أم آجلاً ستنتصر إرادة الشعب على نظام ديكتاتوري فاشل، وسيخرج كل القتلة من سوريا، فتراب سوريا المقدس حرامٌ على عصابات حزب الله وإيران وروسيا.



صدى الشام