المرضى النفسيون والعقليون في سوريا..مشاهد ماثلة لمأساة مستمرة
28 شباط (فبراير - فيفري)، 2017
انقضّت الطائرة الحربية على المنطقة كما لو أنها تستعد للقصف، وضربت الهدف فعلاً ودمّرت المبنى بشكلٍ شبه كامل فخرج جميع النزلاء وتبعثروا في الأراضي الزراعية المحيطة به.
أدّت هذه الغارة التي استهدفت مشفى “ابن خلدون” للأمراض العقلية الواقع في مدينة “دويرينة” بريف حلب الجنوبي الشرقي، إلى مقتل وفقدان عددٍ كبير من المرضى العقليين، الذين لم يكونوا بمنأى عن عمليات القصف التي استهدفت مدينة حلب منذ سيطرتِ المعارضة على أحياء فيها منتصف عام 2012.
يومها هرع مقاتلو المعارضة الذين تواجدوا هناك لإنقاذ من تبقّى من نزلاء في المشفى ونقلوهم إلى روضة أطفال قريبة في المنطقة ذاتها لتكون مركزاً مؤقّتاً.
من داخل المركز
في تلك المرحلة دخل المصوّر الصحافي مظفّر سلمان أوائل عام 2013 إلى المركز المؤقّت الذي تم نقل النزلاء المرضى إليه، وأجرى مقابلاتٍ معهم، ومن واقع معايشته لتلك اللحظات يتحدّث سلمان لـ “صدى الشام” ويقول: “لقد كان المركز يشبه روضة أطفال وكل ما عرفته أن فصائل المعارضة التي كانت تسيطر على المنطقة نقلت من بقي مِن المرضى إلى هذا المركز واضطروا إلى معالجتهم بما هو متاح من أدوية وخبرة في مجال الصحة العقلية”، وكان وقتها هناك تبرّعات للحصول على الأدوية لكنها لم تكن كافية وهو ما أدّى لتدهور حالة المرضى في المشفى.
وكان سلمان أجرى حواراً مصوراً مع أحد المرضى وتوفّي هذا المريض بعد حوالي ثلاثة أشهر من المقابلة، كما توفي معه معظم المرضى الذين كان عددهم حوالي 60 مريضاً، وذلك بسبب نوباتٍ قلبية نتيجة الضغط النفسي وقلّة الأدوية والرعاية الصحيّة، ويشير سلمان إلى أن هذا الرقم لا يشمل جميع المرضى الذين كانوا في المشفى الأساس قبل القصف، وذلك نظراً لأن كثيراً منهم هربوا بعد استهداف المشفى.
يوضح سلمان أن المركز كان مقسوماً إلى قسمين للنساء والرجال، ويضيف: “كان هناك صعوبة كبيرة في الحصول على الموافقة للتصوير داخل المركز حتى أنّها كانت أصعب من الحصول على موافقة تصوير الجبهات”.
في تلك الأثناء كان هناك عناصر من المعارضة داخل المشفى كانوا يرعون المرضى بالإمكانات والخبرة المتواضعة التي كانوا يملكونها في هذا الخصوص.
ويتابع سلمان: “كان هناك مرضى سافر ذووهم خارج البلاد وتركوهم في المصحّ لذلك فقد كانوا وحيدين داخل المركز ولا أحد يزورهم أو يعرف عنهم شيئاً”.
أما الصحفي محمد الرشو الذي كان مرافقاً لسلمان خلال جولته بالمشفى فيقول: “ظلّ اسم مشفى ابن خلدون مقترناً بقصص يكتنفها الغموض والطرافة لبشرٍ منبوذين، لقد كانت الدويرينة في أحيانٍ كثيرة عقاباً لهم لا علاجاً”.
و(الدويرينة) هي تعبير شعبي عند أهالي حلب يشير إلى الشخص الذي فقد عقله، وذلك نسبةً إلى قرية دويرينة بريف حلب التي يقع فيها مشفى ابن خلدون.
مريض: أريد حقّي من بشار!
امتدت زيارة مظفّر داخل المشفى لمدّة ساعةٍ كاملة، كان المرضى خلالها نائمين جميعاً ثم استيقظوا عندما دخل إليهم وهرعوا إليه يطلبون منه السجائر.
أحد المرضى تحدّث عن قصّته التي جسّد فيها ما آلت إليه حاله والضرر الذي لحق به من الحرب ما أدّى في نهاية المطاف إلى نقله للـ “دويرينة”.
بكلمات تتجاوز معانيها حبس الكلمات وتبدو عابقة بالرموز يقول المريض للكاميرا التي كانت توثق تلك اللحظات: “كان لديَّ 4 آلاف طير جمعتهم من بيروت وألمانيا واسطنبول وتركيا ودول أخرى وثمن كل واحدٍ منهم 50 ألف ليرة”.
كان الرجل -وفقاً لروايته- يربيهم ويطعمهم ويطيّرهم ويعمّر لهم ستارات بناء، ويحلف على كلامه: “أنا بكشّهم من الشام، بيجوني ع حلب لهون”، ثم أضاف: “كشيتهم ما رجعوا”، ويتحدّث مخاطباً المصوّر بالدكتور ويقول :”أريد تعويضاً عن طيوري، يسأله المصور ممن تريد التعويض؟ فيجيب المريض: “منهم من صار معهم ارتجاج ومنهم ماتوا ومنهم طفشوا”، ويتابع: “إذا رصاصة الروسية بتخلي الطير يندوخ فما بالك صاروخ كامل!”.
يعود ليسأله المصوّر ممن تريد التعويض؟ فيجيب المريض: “من بشار!.. بشار أحمد.. بشار الأسد.. بشار جميلة.. لا أدري لكنه بشار هو سبب كل ما حدث”.
دُفن الرجل دون أن يحصل على تعويضه من بشار الذي كان يقصده كما دُفن آلاف السوريين دون أن يعوضهم أحد.
خلال الخروج من المركز المؤقّت تجذب انتباهك لافتة وضعها عناصر الجيش الحر تقول: “ندعو المريض الحقيقي بشار الأسد لزيارة المشفى”.
ما بعد المركز
ذلك الواقع الذي يستعصي على الوصف لقسوته تحدث عنه الصحافي محمد الرشو: “قُتل من قتِل من المرضى الذين عاشواً كابوساً من الرعب مع فقدان الكهرباء والماء والمازوت والأدوية والطعام، وتخلي الأطباء والأهل عنهم واستخدام الجنود لهم كدروعٍ بشرية، ثم هرب من هرب منهم ليهيموا في شوارع حلب في مشهد سوريالي أنجزه الجميع بإتقان، ومن أصل 350 مريضاً و61 مريضة نقل 170، هم الذين تبقوا، إلى مقرٍ مؤقت بائس في حي هنانو”.
وخلال بحث “صدى الشام” تبيّن أن منطقة دويرينة شهدت عدّة تقلبات ميدانية حيث انسحبت منها المعارضة لفترة ودخلها تنظيم “داعش” ثم عاد للانسحاب منها وحاولت قوات النظام اقتحامها عدّة مرات.
في الجانب الآخر كان قد اكتفى النظام بتأسيس مركز لتوزيع الأدوية المجانية على المرضى النفسيين في حي الفرقان، حسبما ذكر طبيب نفسي مقيم في مدينة حلب.
وبعيداً عن حلب فقد أنشأت مؤسّسات المعارضة في مدينة اعزاز مركزاً للرعاية الصحية ليتم علاج المرضى النفسيين ورعايتهم وتأمين الأدوية لهم.
بالأرقام
في منتصف عام 2014، أوضحت “المحكمة الشرعية” في دمشق التابعة للنظام أن تعداد المرضى العقليين في سوريا منذ عام 2011 وحتى عام 2014 بلغ 3 آلاف، ما يقارب 1000 منهم في دمشق، و250 في حلب، 150 في حمص، 100 في درعا، 170 في دير الزور، 90 في القنيطرة، 140 في السويداء، 100 في اللاذقية و50 معاملة في إدلب، علماً أن هذه الأرقام لا تشمل المرضى العقليين الذين تبعثروا في الشوارع بعد استهداف المشافي ولا تشمل الآخرين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية.
وقال القاضي الشرعي الأول بدمشق التابع للنظام، محمود معراوي، حينها: “إن المحكمة الشرعية تستقبل يومياً ما يقارب معاملة واحدة للمجنون أو المعتوه”، لافتاً إلى أن الأرقام ارتفعت بين ما قبل وبعد “الأزمة”، موضحاً أن مجمل عدد “المجانين” وصل إلى 10 آلاف حالة منذ بدءِ “الأزمة” وحتى تاريخ التصريح منتصف 2014، ولا يشمل هذا الرقم الأشخاص الذين أصيبوا بفقدان الذاكرة.
وبحسب قانون الأحوال الشخصية السوري، فإن “المجنون هو فاقد الأهلية بالكامل، أي أن جميع تصرّفاته تُعتبر باطلة باعتباره معدوم الإرادة”.
وبيّن معراوي أن أي شي يبدر عنه لا يأخذ به القانون ولا سيما فيما يتعلّق بالبيع والشراء وأي شخص يتعامل مع المجنون أو المعتوه يتحمّل هو مسؤوليته بشكلٍ شخصي لأن تصرّفاته باطلة.
بين الإعاقة النفسية والاضطراب النفسي
في العاشر من شباط من العام الماضي، صرّح مدير مشفى ابن خلدون للأمراض العقلية في حلب بسام الحايك أن “نحو 50% من سكّان مدينة حلب معاقون نفسياً” لافتاً إلى أن “الحياة شبه معطّلة في حلب والإنسان لا يمارس أية نشاطات، إضافةً إلى أن الوضع النفسي أثّر كثيراً على أداء الوظائف الجنسية لدى كلا الجنسين”.
وأضاف الحايك أن “منظمة الصحة العالمية أكّدت في تقريرٍ سابقٍ لها أن 40% من السوريين يعيشون إعاقة نفسية”، مشيراً إلى أن حلب تتصدّر المدن السورية، وذلك لهول الصراع فيها، حسب تعبيره.
بدوره يعقّب الطبيب النفسي جلال نوفل على هذا التصريح بأن المعلومات التي تم الوصول إليها غير مستندة إلى منهجية حقيقية، مشدّداً على ضرورة التفريق بين الإعاقة النفسية والاضطراب النفسي.
وقال: “إن تقييم معظم الأرقام التي صدرت خلال سنوات الثورة تستند إلى تقييم غير دقيق”، لافتاً إلى أن هناك طريقتين لقياس آثار الأزمات، وتقوم الطريقة الأولى على فكرة أنه طالما أن هناك أزمة فإن هناك تبعات يجب دراستها، أما الطريقة الثانية فتقوم على افتراض أن أية أزمة تطوّر المجتمع الذي يعمل على تطوير نفسه كنوع من المناعة ضد الكوارث حوله، وأضاف: “نحن نتفاجأ بأن هناك الكثير من الناس لديهم القدرة على المقاومة للضغوط المحيطة وآثار الحرب ويحقّقون نجاحاً في حياتهم”.
وحول تعرّض المرضى في ريف حلب لجلطات بسبب نقص الأدوية، استبعد نوفل هذه الفرضية قائلاً: ” إن انقطاع الأدوية لا يوصل إلى الإصابة بالجلطة ثم الموت، وقد يكون سبب ذلك مستوى الضغط الكبير الذي يؤدّي لمشاكل وعائية قلبية ودماغية”، وتابع موضحاً أن هناك نقصاً في مراكز الرعاية الأولية التي يجب دمجها بمراكز الصحة العقلية، لافتاً إلى أن معظم المرضى لديهم مشاكل نفسية بسبب ما يحدث في البلاد ولا يستطيعون التحدّث عنها لأن هذه المراكز تدار من قبل نظام الأسد أو الفصائل وفي كلا الحالتين لا يستطيعون التعبير عن ذلك.
[sociallocker] صدى الشام[/sociallocker]