مناسبات النقد الفني


متى نقوم بكتابة النقد وإظهار سلبيات العمل الفني؟ أو ما الذي يدفعنا إلى كتابة رأينا السلبي تجاه معرض ما وبجرأة؟ ربما يبدو السؤال غريباً، فمن الطبيعي لمن يتناول في كتابته حدثاً فنياً أن يكتب ما له وما عليه، ولكن من يتابع مسيرة الكتابة في الشأن التشكيلي، سورياً وعربياً إلى حد كبير، يدرك أن السؤال بحاجة للتمعّن فيه قليلاً.
فقد جرت العادة على كتابة انطباعات عن المعارض، تشيد بالفنان وتستذكر تطوّر تجربته ومرجعيته الفنية أو الفكرية أو ربما السياسية. لكن من النادر أن نجد نقداً سلبياً واضحاً للفنان أو للمنتج الفني، لا سيما إن كان هذا الفنان قد حقق حضوراً متميّزاً في المشهد التشكيلي.
وبالطبع، لا نقصد أن النقد القاسي مطلوب لذاته، بل لأننا في بعض الحالات نكون بحاجة إلى قول رأي جريء مبني على العلم والدراية، يصبّ في مصلحة الفنان وتقويم عمله أولاً وأخيراً، أو ربما يصبّ في نهيه أو إيقافه، هو وغيره، عن المضي في طريق مستهلك أو عقيم. ولطالما رغب الفنان هو نفسه بوجود نقاد قادرين على قراءة فنّه بطريقة جادة وصحيحة، تساعده في اكتشاف مكمن الضعف في عمله.

لكن هذه المسألة صعبة التحقق على ما يبدو، بسبب نقص النقاد المؤهلين علمياً في هذا المجال، من جهة، وبسبب علاقات الصداقة التي تربط ما بين الكتاب والفنانين والتي تستدعي أحياناً التحفظ في الكتابة من جهة أخرى. ويمكننا القول أيضاً إن الخلاف الفكري أو السياسي أو حتى الشخصي بين الكاتب والفنان يمكن أن يلعب دوراً في التحريض على الكتابة!
في الحقيقة، لفت انتباهنا خلال الفترة الماضية مقالتان لم نعهد مثلهما الكثير في أسلوب النقد الذي وصل حداً جارحاً. تتعلق كلاهما، بمحض الصدفة، بالفنان المعروف يوسف عبدلكي (1951)، فهو كاتب المقالة الأولى وهو موضوع الثانية. وفي كلتا المقالتين، يحرص الكاتبان على ألا يمر المعرض، موضوع المقالة، مرور الكرام من دون مراجعة نقدية، ويجد كل منهما حجته أو دافعه في الكتابة، فماذا نستخلص من استعراضنا لكلتيهما؟
كتب عبدلكي (السفير الثقافي، 6 شباط/ فبراير 2009) مقالةً بعنوان “الفنان خالد الساعي يذهب إلى الحج والناس راجعة!”، يتناول فيه بنقد لاذعٍ معرضاً أقامه هذا الفنان “الحروفي” في “المركز الثقافي الفرنسي” في دمشق آنذاك.
بدأ عبدلكي مقالته بالإشارة إلى “الموات النقدي” في البلاد (وهي حالة عربية) ليصبح “تغطيات صحافية متسرّعة لا تملك رؤية، ولا تحوز القدرة على إثارة حوار!” ويأخذ من معرض الفنان خالد الساعي نموذجاً لغياب النقد الذي سمح باستمرار إنتاج أعمال يجدها ركيكة تحت اسم النهل من التراث أو بالتحديد باسم التيار الحروفي.
فعبدلكي الناقد لا يجد “أي مبرّر للوحة حروفية اليوم” إلا إذا تجاوزت معايير رفيعة المستوى رسخها أعلام التيار مثل محمود حمّاد أو شاكر حسن آل سعيد. وهذا غير متوفر لدى الساعي الذي، بحسب عبدلكي، “يلعب على “إبهار العين الجاهلة” ولا يشي جو أعماله العام بما هو “شخصي وعميق”.

لكن عبدلكي يقدّم لهذا بلمحة عن بدايات التيار الحروفي الذي جاء في “سياق العلاقة الشائكة مع الغرب بما تحمله أحياناً كثيرة من ميل للانغلاق على الذات، وتمترس خلف جوهر قومي ـ ديني في مواجهة الغزو!” وكيف انتشر هذا التيار بسبب “هواجس حضارية مشروعة” وأيضاً لأنه يتوافق مع منظومتنا الذهنية “المناوئة للتصوير والتشخيص”.
ليخلص في النهاية إلى تحديد سبب عودة هذا التيار حالياً، بعد أفوله في نهاية السبعينيات، مُركّزاً على وجود سوق خليجي كريم له وكذلك بسبب ترويج بعض المؤسسات الغربية ذات النظرة الاستشراقية الضيقة له.
أما عنوان المقالة التي كتبها المعماري السوري حكمت شطا (القدس العربي، عدد 18 شباط) عن معرض عبدلكي الذي افتتح في كانون الأول/ديسمبر 2016 فهو “تبدلات يوسف عبدلكي و”عاريات دمشق””.
يبدأ شطا نقده اللاذع لعبدلكي قبل أن يُنهي جملته الأولى: “أجساد بلا ابتكار، تبدو نمطية ومكرّرة، […] وكأن شيئاً من الاستسهال طغا على ذلك النتاج الفني، بحيث بدا المعرض، […] وكأنه ذروة لتراجع ما ظهرت بوادره مع عودته لدمشق. فالمعرض بحسب شطا “فيه الكثير من الرسم والقليل من الفكر”.
كما يتأسف الكاتب على “غياب الشحنة السياسية والطاقة الثورية الكامنة في أعماله الحفرية” التي جعلت منه رمزاً للفنان الملتزم وقدوة للشباب. ويرى شطا أن هذا الغياب يتزامن مع رخاء مادي عرفه الفنان في هذه السنوات بسبب نشاط سوق الفن في “الشرق الأوسط”، واضعاً إياه في “مسار الفن التجاري”.
من موقع المتابعين، نعلم أن عبدلكي يكتب بشكل متقطع، ومعظم ما يكتبه يصبّ في مواضيع فنية محلية عامة من خلال بعض الأحداث أو النماذج المحرّضة أو تلك التي يراها تشذ عن المألوف، أو ردوداً في بعض الأحيان على مسائل تخصّه. أما بالنسبة لشطا فهي المرة الأولى التي نقرأ له مقالةً بخصوص الفن التشكيلي.
كل النقاط التي تكلم عنها عبدلكي أو شطا، هي نقاط قابلة للنقاش وربما كثير منها ما يحتمل الصواب. لكن السؤال الذي يهمنا هو بخصوص المقالة الثانية، فلو لم يعرض عبدلكي أعماله هذه في دمشق وعرضها في باريس، هل كان شطا – صاحب سينوغرافيا معرض عبدلكي في خان أسعد باشا في ربيع 2005 – سيستل قلمه ليكتب عن التراجع الفني والفكري للفنان؟
الرد بـ “نعم” هو احتمال وارد، لكن بناءً عن اللغط “السياسي” الذي حصل قبل وخلال وبعد معرض “عاريات”، يمكننا أن نقول “لا” أيضاً من دون تردّد.



صدى الشام