سوريا وتركيا تخسران قامة ثقافية لا تتكرر


بحذرٍ وترقب مُبرّرين كنت أنتظر ردّه على اتصالٍ هاتفي للحصول على تصريح منه تعليقاً على إحدى التطورات السياسية. كان من الطبيعي أن تحضُر هذه الأحاسيس جرياً على عادة سائدة تدفعك للتوجس إذا ما أردت كسر الجليد مع إحدى الشخصيات الوازنة في عالم السياسة أو الثقافة، أو أي مجال آخر، خصوصاً إذا ما كانت هذه الشخصية ستقدم تصريحاً صحفياً نوعياً.

هذا ما خالجني قبل أن يبدأ الأستاذ عبد القادر عبد اللي حديثه يومها بصفته خبيراً بالشأن التركي، لكنه وما إن تكلّم حتى تبدد الوهم، واتضح تميزه بل واستثنائيته.

ذلك التواضع الملفت لقامة سوريّة تسبِقها إنجازاتها أينما حلّت، وإصرارٌ على التعاون لتسهيل مهمة الصحفي والكاتب والزميل والصديق، وكل من يحالفه الحظ بالتعامل مع عبد اللي.

هي تجربة شخصية واحدة، لكن إن سألنا من عرفوا عبد اللي عنه فسيروون ما يشابهها من انطباعات رسخت عنه، رغم تعدد التجارب وتباين مواقع أصحابها.

تزدحم الأوصاف عند الحديث عن الراحل عبد اللي، ويتداخل عنده الإنساني بالمهني والأدبي بالفني بالبحثي، لكن يبقى قربه من قلوب من عرفوه ومكانته التي لا تزول ثابتةً لا يدانيها تبدّل أو تغيير.

فجر يوم الخميس، الثاني من آذار الجاري، غيّب الموت فرداً من أسرة صدى الشام هو المترجم والتشكيلي السوري عبد القادر عبد اللي (1957-2017)، بعد صراع مع مرض السرطان.

أكثر من ثمانين كتاباً ترجمه من وإلى التركية، وعشرات الأبحاث والأعمال الدرامية والسينمائية المترجمة تركها عبد اللي خلفه، تجعل من يريد الكتابة عنه يَحار من أين يبدأ، ويبقى أفضل من يتحدث عن عبد اللي أصدقاؤه أو من عرفه وتمنى أن يكون له صديقاً، لتكون شهاداتهم وثيقة تضيق بمحتواها صفحات الجرائد بما تضمه من جزئيات مهنية غزيرة ومواقف إنسانية لا يخبو نبضها.

 

“نريد حقوق عبد اللي”

 

“سألته أخيراً رحمه الله، وأنا من يلازمه منذ نحو ربع قرن، لماذا لا تتقدم للمسابقات والمحافل الدولية، وأنت من لديه من نتاج يوصله للقمم دونما منافس…أجاب بما يمكن فهم شخصية هذه القامة السورية النادرة، يا عدنان تكريمي وقت كان حسيب كيالي يرسل لي عبر البريد، مقالاتي وقصصي من دبي، مذيلة بمدائح وإطراء، تكريمي وقت خصني عزيز نيسين بترجمة أعماله وخصني أورهان باموق بترجمة رواياته، فهل أسعى إلى أكثر من هكذا تكريم”.

يصوّر الصحافي والكاتب السوري عدنان عبد الرزاق بكلماته هذه جانباً من شخصية عبد اللي، لكنه لا يقف عند هذا الحد بل يصل إلى القول بأن : “أبو خيرو لم يكن دنيوياً للحد الذي ظلم نفسه وأهله ومحبيه، بل وترك الكثير من حقوقه، بسبب انصرافه إلى ما هو أكبر وأدوم وأكثر خلوداً”.

ويتساءل عبد الرزاق في مقالٍ له :”ماذا قدمت تركيا لعبد القادر عبد اللي، بعد كل الذي قدمه لها، إنْ عبر الترجمة أو نقل مواقفها للقراء العرب، أو حتى خلال تدريسه بجامعة غازي بأنقرة؟!. وربما الأهم، ماذا ستقدم لأسرته الصغيرة، إن قلنا إن الراحل نال حقوقه عبر شهرته وإبداعه وما أغنى به المكتبتين العربية والتركية”.

يَسوق عبد الرزاق هذا التساؤل عارضاً محطات من مسيرة عبد اللي الذي بدأ دراسته بكلية الفنون الجميلة بتركيا عام 1979 وحصل على الليسانس من جامعة “المعمار سنان” بأنقرة ومن ثم الماجستير عام 1985، ليبرز اسم عبد اللي بالوسط الثقافي السوري أولاً، بعد ترجمته قصص تركية عام 1985، وليلمع اسمه إثر ترجمة رواية “زوبك ” لـ”عزيز نيسين” عام 1989 لتساهم بشهرته ويرتبط اسمه باسم “نيسين” بعد أن ترجم له  “حكايات” عام 1991  لتتوالى الترجمات من وإلى التركية، وصولاً إلى روايات أورهان باموق، مروراً بترجمات لكتاب آخرين بينهم يشار كمال، وأورهان يشار، وفقير بايقورت، وطلحة أغورلو إل، وأجة تمل قوران، وأورهان ولي، وخلدون تنر.

بعد كل ذلك لم يكن مستغرباً أن ينبري عبد الرزاق للدعوة إلى إيفاء عبد اللي حقه هو وأسرته، بالاحتضان والرعاية والتجنيس، نظراً لما قدمه عبر ترجماته وأبحاثه ومقالاته، وليسأل: “هل ستلقى هذه القامة أبسط ما تستحق من الدولة التركية، وإن بعد وفاتها”، منوهاً بحقوق أسرة الراحل أيضاً، وهي -الأسرة- مما يعول عليها باستكمال مشروع عبد اللي، بعد أن ترك ضمن إرثه، أربعة أولاد جامعيين لا تحد أحلامهم وتطلعاتهم معوقات.

 

 

الترجمة كتحدٍّ

“تحمِل تجربة عبد اللي خصوصية بتفصايل قد يجهلها كثيرون، فبعد أن تخرّج من الجامعة عادّ إلى سوريا دون أي أعمال إبداعية، لكنّه نجح بشكلٍ سريع بالرسم وبات يمزج الأسلوب السوريالي بالواقعي بمنتهى الدقّة”. يعود بنا الأديب والكاتب السوري خطيب بدلة إلى البدايات، مشيراً إلى أن عملَ عبد اللي في مجال الترجمة كان تحدّياً، وعندما جاء إلى إدلب كان بجعبته عملان مترجمان، ويتابع بدلة: “عندما استشارني حول عمله بالترجمة قمت بتشجيعه، وقد استفاد من تجربته بسرعة وبدأ يترجم، وراحت أعماله تأخذ صدى في الوسط الثقافي العربي، ودائماً حينما يريد أي مثقف عربي أن يقرأ عملاً مترجماً ما يعرف أن هناك خمسة مترجمين فيدور السؤال ترجمة من؟ وحين يكون الجواب عبد القادر عبداللي يشترونها فوراً، وذلك لأن عبد القادر بدأ يحتل مركز صدارة في الترجمة من التركية لقدرته على اختيار أهم الأعمال”.

ويمضي بدلة في إيراد جوانب من حياة عبد اللي، قائلاً: “كان لديه طاقةً وجلَدٌ كبيران، ففي كل مرة يتّصل بي كنت أراه في المنزل يعمل لوقتٍ متأخّر من الليل”، ويتابع: “كان عبد اللي مضيافاً في بيوته في إدلب وأضنة ودمشق واسطنبول وأنقرة”.

 

 

عبداللي الإنسان

بالنسبة للكاتب السوري ميخائيل سعد فإن عبداللي أثّر في فهمه “لثقافة وتاريخ المجتمع التركي من خلال المسلسلات التي ترجمها”، ويضيف لـ “صدى الشام”: “بقيت في اسطنبول لأشهر وكنت أكتب عن الآثار العثمانية وعندما كنت أخطىء كان عبداللي يتدخّل فوراً ليصحّح، فبدأت أكتشف عمق معارفه التركية من خلال معلوماته التي كان يقدّمها بتواضع”.

ولا ينسى سعد أن يشير إلى دور المصادفة في التعرف على عبداللي “التقيت به في شارع الاستقلال باسطنبول وتكوّنت بيننا صداقة، وأدهشتني الكتب التي كنت أقرأها له”.

وعلى المستوى الشخصي يقول سعد: “كان رحيل عبداللي خسارة معنوية كبيرة لإنسانيته بالدرجة الأولى، ولتواضعه، ولأخلاقه الرفيعة”.

ويتابع: “لا أعرف كيف يمكن أن نكرمه، هل يكون ذلك بإطلاق اسمه على مشروع أو مؤسسة ثقافية سورية، أو سورية – تركية؟ أو يكون من خلال جمع وطبع مقالاته، وهي بالمئات، وإعادة نشر ترجماته؟ هناك الكثير الذي يمكن أن نفعله في هذا المجال”. ويختم سعد متمنياً أن يقوم أصدقاء عبداللي والجمعيات الثقافية بعملٍ يدعم أسرته الكبيرة التي كان يعيلها وحيداً.

 

الكرة في ملعب تركيا لتظهر وفاءها

 

 لم نكن لنرى أن عبداللي يمثل شخصية عابرة للثقافات بالاستناد إلى عمله في الترجمة وحسب، فتأثيره على مختلف المستويات يبدو جلياً، وما صديقه التركي المدرّس بجامعة غازي بأنقرة، د. محمد حقي وصوتشين، إلا مثال على ذلك.

لا يجد وصوتشين عند بدئه بالكلام عن عبداللي طريقة للتعبير أفضل من عبارة “في عقلي غرابة” وهي عنوان آخر ترجمات عبداللي لأورهان باموق.

ويقول: “تعرّفت على عبداللي في نوفمبر 2012، وشعرت بأني كسبت صديقاً جديداً رغم اختلاف العمر”، ويضيف: “كان قد غادر بلده حينها تاركاً وراءه حياته الفاخرة في دمشق وأعماله الفنية، ثم توغّل في الترجمة بتركيا، ورفض الكتابة في الصحف اليومية رغم أنّها تدر عليه الكثير من الأموال”.

ويتابع: “كان الجلوس مع عبداللي بمثابة عصف ذهني إذ يجري النقاش حول أحد مقالاته الأدبية”، ويلفت إلى أنه كان يلجأ إلى عبداللي لاستشارته في الترجمة لأنه كان صريحاً في تقييمه ولا يجامل.

ويرى وصوتشين أن أسلوب عبداللي في الترجمة يستحق أن يُدرّس بشكلٍ مستقل، معرباً عن أمله بأن تقوم أية أكاديمية عربية أو تركية بدراسته.

ويعتَبر أن عبداللي كان جسراً متيناً بين الأدبين التركي والعربي “لكن لا العرب ولا الأتراك اهتموا به حق الاهتمام”، ويختم وصوتشين بالقول: “الكرة الآن في ملعب تركيا لتظهر وفاءها لهذا المترجم لأدبها وثقافتها وذلك بمنح الجنسية لأسرته”.

 

أسئلة شغلت بال عبد اللي

“نحتاج إلى سنوات عديدة لكي تكون هناك جهود موازية لجهود عبد القادر، كما أنه ما يزال هناك جانب لدى عبداللي لم يحظ بالاهتمام بالكافي، والمتمثّل بعمق ترجماته للدراسات والكتب الحديثة والتي تقدم قراءة جديدة ومغايرة لتاريخ الدولة العثمانية”.

من واقع عمله البحثي يقدّم الكاتب والباحث السوري محمد تركي الربيعو رؤيته لتجربة عبداللي، ويقول: “ساهم عبداللي بتعريفنا بجهود المؤرخ التركي البر اورطايلي الذي يعد اليوم واحداً من أشهر علماء العثمانيات في تركيا والعالم، وأصبح لنا رؤية أكثر دقة حول موقف النخب العثمانية إزاء التحولات التي كان يشهدها القرن التاسع عشر”، مشيراً إلى أن عبداللي هو من كان يختار العناوين ويقترحها على دور النشر، ما يدل على أن هذه الترجمات كانت تعبر عن شواغل وهموم فكرية لدى عبد القادر ورغبة في التعريف بالإرث الثقافي لتركيا وإرثها التاريخي.

ويشير الربيعو إلى أنه “من ضمن الأسئلة التي كانت تشغل بال عبداللي هي الصورة والإسقاطات الخاطئة لتجربة حزب العدالة والتنمية في عيون العرب”، ولذلك كثيراً ما كان يفكر بترجمة بعض الدراسات والكتب التركية التي أعدها بعض السوسيولوجيين والمؤرخين الأتراك مؤخراً حول تاريخ العلاقة بين الإسلام والسياسة في تركيا الحديثة، وتجربة حزب العدالة والتنمية التركية في تراث اليمين المحافظ في تركيا، لافتاً إلى أنه لا تعبّر عن  تجربة إسلام سياسي مشابهة لتجربة الإسلام السياسي في بلداننا العربية.

وختم الربيعو: “من الأمور التي لا بد من ذكرها أيضاً، هو أن عبداللي لم يقتصر على الترجمة فحسب  بل إن مقالاته في السنوات الأخيرة حول تركيا كانت من أهم المقالات التي تكتب حول المشهد التركي وعلاقة هذا المشهد بالتحولات الجارية في المنطقة”.



صدى الشام