لغم منبج … هل يكون شرارة حرب؟


عندما تحدثنا عن معارك مدينة “الباب” ومركزية المدينة في الحرب الدائرة في الشمال السوري بين تنظيم “داعش” وفصائل “الجيش الحر” المنضوية في عملية “درع الفرات” ودخول ميليشيات “الأسد” على الخط بمحاولة للسيطرة على المدينة وسبق “الجيش الحر” إليها، عندها كنا نعتقد أنها المدينة الأكثر أهمية في الجغرافية السورية، لكن كل تلك التطلعات والآمال تغيرت وتبخرت مع الوصول إلى مشارف مدينة “منبج” كجزء من هدف لفصائل الجيش الحر يقضي باستكمال تحرير الشمال السوري ضمن الخطط العسكرية لعملية “درع الفرات” الطامحة لتشكيل مساحة جغرافية تمتد من “جرابلس” إلى “إعزاز” شمالاً على الحدود التركية وحتى جنوبي مدينتي “منبج” و”الباب” كي تُقام عليها المنطقة الآمنة، وبنفس الوقت تهيئ الظروف الموضوعية والعسكرية لمتابعة المهمة باتجاه المعركة المركزية في الحرب على الإرهاب والمتمثلة بتحرير مدينة “الرقة”.

 

حساب الحقل لم يطابق حسابات البيدر

كما يقول المثل الشعبي: “حساب الحقل لم يطابق حسابات البيدر”، وكل الحسابات التي كانت في الأذهان وعلى خرائط غرفة عملية “حوار كلس” المدعومة من الجيش التركي لم تتوقع تلك التطورات المتسارعة التي فجّرها إعلان ما يسمى “مجلس منبج العسكري” اتفاقه مع نظام الأسد على تسليم المناطق الغربية وحتى مدينة “منبج” لمليشيات الأسد وبمساعٍ روسية، ولتدخل بعدها قافلة إغاثة في ظاهرها مساعدات إنسانية وفي مضمونها عربات وأسلحة مع ترسيخ وجود روسي رمزي في المدينة.

الجانب الأمريكي الذي اندفع هو أيضاً ليتمركز في “سد تشرين” ويدفع بطليعة من استشارييه وبعض عناصر استطلاعه إلى المشارف الشمالية الغربية للمدينة أخذ دور المراقب وبنفس الوقت أرسل إشارة مرمزة لأنقرة أنه يتواجد في المنطقة وأنه لم يتخلَّ بعد عن حليفه “قسد”، ومع الدخول الروسي لـ”منبج” وبدلاً من امتعاض أمريكي من تحالف حلفائه في قوات سورية الديموقراطية مع غريمه الروسي وجدنا أن وزارة الدفاع الأمريكية تورد خبر الدخول الروسي بمظلة إغاثية بشكل اعتيادي وليمرَّ الأمر مرور الكرام، مما يدلل على توافق ما بين “موسكو” وواشنطن” على قطع الطريق أمام “الجيش الحر” باتجاه مدينة “منبج”.

القراءة العسكرية لخارطة مسرح الأعمال القتالية المحيطة بمدينة “منبج” مع المستجدات التي طرأت خلال الأيام القليلة الماضية تقول:

– إننا أمام أربع قوى عسكرية (قوات سورية الديموقراطية، الجيش الحر، ميليشيات الأسد، تنظيم داعش) وجميعها تملك من القدرات القتالية والتكنيك العالي من الخبرات والقدرات والإمكانيات ما يؤهل كل طرف لأن يكون قادراً على حسم المعركة.

2- إن ثلاث قوى من أصل أربع تملك تغطية جوية وقدرات استطلاعية (باستثناء تنظيم داعش) قادرة على أن تكون لها قدرة الحسم في المعارك إذا ما اندلعت الحرب بين بعض أو كل القوى المتواجدة في محيط وعلى تخوم المدينة.

3- إن مسرح الأعمال القتالية ذو الطبيعة السهلية تعطي للطيران ساحة كبيرة من المناورة والقدرة على تحديد وضرب الأهداف مما يؤمن تقدم قواته الحليفة نحو الأمام وتحقيق السيطرة الميدانية.

لكن الصراع المتفجر بين كل تلك القوى المتنافرة عسكرياً وسياسياً يجعل من الدخول بالمعركة وكأنه عبور حقل ألغام متفجر قد يطيح بكل الخطط العسكرية وبالتالي أصبحت المعركة هناك هي معركة تخضع لتوافقات سياسية أكثر مما تعتمد على موازين القوى العسكرية.

في هوامش التحركات العسكرية التي تحصل والبعيدة عن مضمار الاصطدام يبقى نظام الأسد هو من يتقدم نحو الشرق والشمال الشرقي بعملية عسكرية غايتها تحسين شروط التموضع والوصول لأهداف ذات بعد اقتصادي، فالتقدم نحو شرقي “دير حافر” غايته الوصول إلى “محطة المياه” الموجود ببلدة “الخفسة” والتي تغذي كامل مدينة “حلب” وريفها والتي يسيطر عليها تنظيم “داعش” حتى الآن ويقطع مياهها عن سكان “حلب”.

أيضاً ميليشيات النظام تسعى من خلال هذا التقدم للسيطرة على التلال الحاكمة التي تعطيها مزايا عسكرية كاشفة وراصدة لكل المنطقة وكانت قد بدأتها بالسيطرة على تلة “زعرايا” لكن يبقى الهدف الأكبر في تلك المنطقة والتي تسعى لها تلك الميليشيات هو الوصول إلى “سد تشرين” الذي يغذي بالكهرباء كامل مدينة وريف “حلب” مع بعض مدن وأرياف الساحل السوري.

 

صراعات أم توافقات ما قبل معركة الرقة

المتتبع للأحداث في الشمال السوري يدرك تماماً أن موضوع “منبج” لا يتعلق بحجمها ولا برمزيتها بل يتعلق بجغرافيتها وبهوية القوى المسيطرة عليها، فروسيا الباحثة عن مكان وموقع في تحالفات التحضير للمعركة التي تتحضر لها “واشنطن” في الحرب على الإرهاب في معقل إمارة “أبو بكر البغدادي” بمدينة “الرقة” تدرك أن قوات سورية الديموقراطية غير قادرة بشكل منفرد على حسم المعركة حتى مع تغطية جوية من التحالف الدولي، وأن الزج بقوات “النخبة” لرئيس الائتلاف الأسبق “أحمد الجربا” وبعض الفصائل العشائرية لن يكون ذا وزن عسكري ولن يستطيع تغيير موازين القوى، وروسيا تدرك أن “الجيش الحر” والجهود التركية هي القوة التي يمكن أن تشكل فارقاً في معارك الحرب على الإرهاب، لكن تركيا لا يمكن أن تقبل بالقتال إلى جانب ميليشيات “قسد” التي تعتبرها إرهابية، وأمام هذا الواقع وبغية فرض وجود ميليشيات “الأسد” كشريك تفرضه الضرورات العسكرية كان لا بدّ لموسكو من خلق حزام جغرافي يُبعد الجيش الحر والجيش التركي ويغلق كل المنافذ التي يمكن أن تعبر من خلالها تلك القوات نحو مدينة “الرقة”.

العزل الجغرافي الذي مارسته موسكو ضد الفصائل العاملة ضمن عملية “درع الفرات” برز من خلال قطع الطريق جنوبي مدينة “الباب” ومنع الجيش الحر من متابعة مطاردة تنظيم “داعش” باتجاه “دير حافر”، وعندما توجه الجيش الحر شرقاً باتجاه مدينة “منبج” بقصد الوصول إلى الضفة الشرقية لنهر “الفرات” في “سد تشرين” ما وراء المدينة والذي يبعد حوالي 80 كم عن مدينة الرقة وجدنا موسكو تٌسارع لعقد صفقة مع ميليشيات “صالح مسلم” وتقف حاجزاً مرة أخرى في طريق تقدم الجيش الحر شرقاً وكذلك جنوباً عبر تمدد ميليشيات “الأسد” و”إيران” باتجاه بلدة “الخفسة” وبالتالي حصار الجيش الحر في القطاع الشمالي ومنعه من أي تقدم باتجاه “الرقة”.

 

توافقات السياسة تحسم المعركة

المنطق العسكري أمام شبكة التعقيدات الواقعة في الشمال السوري يقول: إن حنكة السياسيين المنغمسين في الملف السوري هي وحدها القادرة على سحب فتيل اللغم القابل للانفجار ونسف المنطقة واندلاع حروب قد تتخطى الإقليم، وإن زيارة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لموسكو الخميس القادم قد تكون أولى منصات الحوار السياسي لإيجاد حل قد يكون بديلاً عن أي صدام عسكري قد لا تُحمد عقباه، الرئيس “أردوغان” يذهب إلى موسكو وفي حقيبته ورقة طيار الميغ 23 الذي أسقط الثوار طائرته على الحدود السورية – التركية لكنه قفز بمظلته وهبط داخل الأراضي التركية في ولاية “هاتاي” والذي عثرت عليه السلطات التركية بعد تسع ساعات من البحث المتواصل، وطاولة موسكو بين “بوتين” و”أردوغان” سيوضع عليها مصير الطيار ومصير رجل الاستخبارات التركية الذي قام بخطف العقيد السوري المنشق “حسين هرموش” وقام بتسليمه لنظام الأسد قبل أن يفر من سجنه ويلحق به، وسيكون على الطاولة أيضاً مصير مدينة “منبج”.

الحشود والتحضيرات العسكرية على الحدود السورية – التركية وفي محيط مدينة “منبج” خلال الأسبوع الفائت والتي شملت لواء دبابات ومدرعات وعربات عسكرية ثقيلة إضافة إلى الزج بكوماندوس بحري تركي في الداخل السوري تقول إن الجيش الحر ومن خلفه تركيا مصممون على الدخول إلى مدينة “منبج”، لكن نبرة الصوت التركية انخفضت مع قرب زيارة “أردوغان” لموسكو، وكانت تصريحات رئيس الوزراء التركي “يلدريم” أيضاً مفاجئة في مغزاها إن صدقَ نقل تلك التصريحات إعلامياً، “يلدريم” قال وحسب ما نُقل عنه: إنه لا يمانع من دخول جيش الأسد إلى مدينة “منبج”، هذا الأمر يؤكد أن الدول ليست جمعيات خيرية وأنها تتصرف وفق مصالحها والتي قد لا تنسجم مع تطلعات وأهداف الثورة السورية وجناحها العسكري المتمثل بالجيش الحر، وبالتالي نحن أمام مفترق طرق قد يُنهي عملية “درع الفرات” ويترك للجيش الحر مطلق الصلاحية بمتابعة المهمة منفرداً وتلك هي رغبة قادة الفصائل المطروحة حتى الآن.

 

“منبج” اللغم الذي قد يطيح بالجميع، وقد يؤدي انفجار هذا اللغم إلى اندلاع صدامات قد تبعثر كل التوافقات الهشة التي تتحكم بمصير الشمال السوري والتي تحاول أن تهيئ بيئة مقبولة لمفاوضات عبثية غير مجدية بنظر معظم السوريين.

إن تخلت تركيا (وهو أمر مستبعد) عن “منبج” فليست أول دولة تخذل الشعب السوري، وإن مُنع الجيش الحر من متابعة المهمة ومن رعاية إقليمية أو دولية فهو مؤشر لا يبشر بالخير، فتوافقات تلك المرحلة تعكس بالضرورة طبيعة الحل القادم في سوريا.

مستجدات الموقف متسارعة وقراءتها تحتاج لكثير من الرؤية الموضوعية والتعمق بطبيعة القرارات العسكرية والسياسية التي تخرج عن عواصم القرار بالشأن السوري لكن الجيش الحر يبقى معقل أمل السوريين ومصدر تحقيق أحلامهم في طرد كل عصابات القتل من سوريا.

“بوغدانوف” نائب وزير الخارجية الروسي وعبر صحيفة “الحياة” أرسل رسالة مفادها أن التقسيم هو البديل في حال فشل المفاوضات، وأن ميليشيات “إيران” وتوابعها لن تخرج قبل إيجاد تسوية وحل في سوريا، أي بما معناه أن الشعب السوري أمام أحد خيارين وفق المفهوم الروسي: إما القبول بالأسد أو تقسيم سوريا، وأن ضغط القاتل الإيراني وعبر ميليشياته لن يرفع عن كاهل السوريين.

هذا الكلام يُصرف سورياً بمزيد من القتل والإجرام الأسدي والروسي والإيراني لكن الشعب السوري الذي ثار على قاتل وديكتاتور لا يمكن أن يعود إلى ما كان عليه، ولا يمكن تجاوز تضحيات مئات آلاف الشهداء والمعتقلين ولا يمكن التسامح مع من هجّر الملايين أو تسبب بعذابات وآلام الجرحى والمصابين.

 

رسالة الشعب السوري

بتفاوض أو بغيره فالشعب السوري ماضٍ بطريقه، ولن يعود إلا بما خرج من أجله، والباحث عن حلول دائمة تستطيع وقف القتال عليه أن يُدرك أن رحيل “الأسد” هو أدنى مطلب يمكن أن يوافق عليه أهل الثورة، ومن قاتل لست سنوات ما زال لديه القدرة على البقاء سنوات وسنوات، وحرب الاستنزاف ستكون هي بداية الطريق.

لا تراجع، لا تسامح، لا مساومات. فهل يُدرك من يدعم “الأسد” هذا الكلام؟



صدى الشام