مفاوضات جنيف بين الرعاية الروسية الحصرية وتصعيد النظام


انتهت الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف بين وفد المعارضة السورية ونظام الأسد، بإعلانٍ من أربع نقاط يحدد جدول أعمال الجولة الخامسة التي تُعقد هذا الشهر ـ آذار ـ  ويسبقها اجتماع “مُكمل” في أستانا، وسط تطورات ميدانية متسارعة تتمّم أيضاً التطورات السياسية وتفسّرها إلى حد ما.

وشهد اليوم التالي لانتهاء المفاوضات تصعيداً عسكرياً لافتاً من جانب قوات النظام التي قصفت جواً وبالمدفعية والصواريخ مناطق عدة في ريف دمشق خاصة القابون وبرزة وحرستا، وكذلك مناطق في إدلب إضافةً إلى درعا وحي الوعر الحمصي، في محاولة منها كما يبدو للإطاحة بنتائج مؤتمر جنيف وقطع الطريق على الجولات المقبلة، وذلك بعد أن قبِلت على مضض جدول أعمال المفاوضات الذي تضمن لأول مرّة بحثَ مسألة الانتقال السياسي.

وجاء تصعيد النظام تحدّياً للهدنة التي أعلنتها روسيا عقب انتهاء المفاوضات والتي سمّتها فترة “صمت” تمتد لخمسة أيام بهدف تهيئة الأجواء للمفاوضات المقبلة التي حددت الجولة الرابعة جدول أعمالها .

وخلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد في نهاية المفاوضات، أجملَ المبعوث الدولي ستيفان دي ميستوار هذه المفاوضات بقوله أنها كانت” بالغة الصعوبة لكنها بنّاءة” خصوصاً في أيامها الأخيرة والتي أثمرت عن الخروج بجدول زمني واضح يمكن تلخيصه بما يلي:

– إقامة حكم غير طائفي يضمّ الجميع، مع الأمل في الاتفاق على ذلك خلال ستة أشهر.

– وضع جدول زمني لمسودة دستور جديد، مع الأمل في أن يتحقق ذلك في ستة أشهر.

– إجراء انتخابات حرة ونزيهة بعد وضع دستور، وذلك خلال 18 شهراً، تحت إشراف الأمم المتحدة، وتشمل جميع السوريين داخل البلاد وخارجها.

– والنقطة الرابعة التي طلب إضافتها وفد النظام هي وضع استراتيجية لمكافحة الإرهاب والحوكمة الأمنية وبناء إجراءات للثقة متوسطة الأمد.

وقال المبعوث الدولي إن هذه النقاط الأربع ستتم مناقشتها بشكل متواز بحيث لا يتم الإعلان عن الاتفاق على شيء إذا لم يتم الاتفاق على كل شيء، موضحاً أن السلة الأخيرة ستتناول “استراتيجية مكافحة الإرهاب”، في حين أن مفاوضات أستانا ستركز على عمليات مكافحة المنظمات الإرهابية وهي تشمل بحسب الأمم المتحدة “النصرة وداعش فقط”.

ورأى بعض المراقبين أن موافقة وفد المعارضة على إضافة النقطة الأخيرة، بينما أرادت هي التركيز على عملية الانتقال السياسي وفق بيان جنيف للعام 2012 قبل الانتقال إلى بند مكافحة الإرهاب والذي تريده أن يتضمن أيضاً مكافحة إرهاب النظام وميليشياته، هذه النقطة لا تعني بالضرورة تراجعاً في موقف المعارضة التي تقول إنها لا تخشى من طرح موضوع مكافحة الإرهاب خاصة أن كثيراً من القرارات الدولية أدانت النظام بارتكاب انتهاكات تصل إلى جرائم الحرب، وهو ما يندرج في إطار “إرهاب الدولة”، ورأت المعارضة أن وفد النظام يريد من خلال التركيز على هذا الموضوع حرف أجندة المفاوضات والتشويش على البند الأهم وهو عملية الانتقال السياسي وحسب.

 

وتسعى المعارضة لأن يكون لعملية الانتقال السياسي الأولوية في الجولة المقبلة حيث ستواصل وفق مصادرها المشاورات مع المبعوث الدولي وفريقه حتى انعقاد الجولة المقبلة بغية التوافق على البنود الأخرى المتعلقة بعملية الانتقال السياسي مثل الإجراءات الدستورية التي ترافق هذه العملية والمتضمنة في القرار 2254.

وإذ يؤكد دي ميستورا أن مساري “أستانا” و”جنيف” يُكملان ويعززان بعضهما بعضاً، حيث تركز الجهود المبذولة في أستانا على وقف النار، وتدابير بناء الثقة قصيرة الأجل ومكافحة الارهاب، فترى المعارضة أن ضبط الأوضاع على الأرض المرتبط باجتماعات أستانا لا يبدو فعالاً، وبناءً على التجارب السابقة فإن ما يتم اتخاذه من قرارات في أستانا لا يجري عادةً احترامه على الأرض من جانب النظام وروسيا.

وبشأن قضية المعتقلين في سجون النظام والذين تقدر معطيات مختلفة أن عددهم يزيد عن 200 ألف، فقد تم تجاهلها تقريباً في مفاوضات جنيف، باستثناء لقاء جمع دي ميستورا مع نساء من ذوي المعتقلين، لكن المبعوث الدولي قال في تصريحاته الختامية إنه سمع اقتراحات من الحكومة السورية تتعلق بمبادلة المعتقلين، وأن هذا الأمر يمكن أن يناقش في أستانا التي تعقد في 14 الشهر الجاري.

وقبل ختام المفاوضات، وزع المبعوث الدولي اقتراحات جديدة على الطرفين المتفاوضين تتضمن 12 مادة مثل التأكيد على سيادة سوريا، وعدم جواز التنازل عن أي جزء من أراضيها، وأن سوريا ستكون “دولة ديموقراطية وغير طائفية”. وضرورة “الحفاظ على القوات المسلحة قوية وموحدة لتحمي الحدود الوطنية وتحفظ شعبها من التهديدات الخارجية، وفقاً للدستور، وعلى أجهزة استخبارات وأمن تركز على صيانة الأمن الوطني وتتصرف وفقاً للقانون”.

 

وورد في الوثيقة عبارة أن الدولة السورية هي “دولة ملتزمة بالحفاظ على الوحدة الوطنية، والتمثيل العادل للمكونات المحلية، وممارسة الإدارة الذاتية على مستوى البلاد والمنطقة والمستوى المحلي”، ولا تشرح الوثيقة ما هو المقصود بعبارة “المكونات المحلية”، فيما استخدمت عبارة “الإدارة الذاتية على المستوى المحلي”، بدلًا من عبارة “الإدارة الذاتية”، وهو ما يتناسب مع مطالب بعض القوى الكردية بشأن الحكم الذاتي.

ورأى المسؤول الإعلامي في وفد المعارضة أحمد رمضان أن الوفد استطاع في الجولة الأولى من جنيف 4 تثبيت موضوع الانتقال السياسي بالتعاون مع الأمم المتحدة مشيراً إلى أن وفد النظام ظل إلى ما قبل اليوم الأخير من المفاوضات يرفض التطرق لهذا الموضوع، ولم يغير موقفه إلا بعد ضغوط روسية كبيرة، وبعد أن هدده دي ميستورا بالخروج إلى العلن وتحميله مسؤولية فشل الاجتماع.

ورأى رمضان أن النظام لا يستطيع التملص من التزاماته إلا إذا وفّر له الروس الغطاء المطلوب، لافتاً إلى أن هناك مشكلة في الموقف الروسي حيث تصدر عن موسكو مواقف متناقضة لا يمكن البناء عليها، “لكن الجانب الروسي كان محرَجاً من فشل جولة التفاوض في جنيف باعتبار أنه كان اللاعب الوحيد حيث غاب الجانب الأميركي، ذلك أن فشل جنيف يعني فشل أستانا، لذلك رأينا أن نائب وزير الخارجية الروسي جينادي غاتيلوف أعلن بنفسه موافقة النظام على الانتقال السياسي قبل أن يعلن النظام ذلك”، حسب قوله.

 

ميدانياً، واصل النظام تكتيكاته الرامية إلى تثبيت أكبر ما يمكن من الحقائق الجديدة على الأرض التي تساعد في تحسين موقفه التفاوضي من جهة، وتستهدف “استفزاز” المعارضة ودفعها إلى الانسحاب من المفاوضات من جهة أخرى، كما حصل في جولات سابقة.

وصعّدت قوات النظام خلال جولة المفاوضات من قصفها لعموم مناطق المعارضة خاصة في الغوطة بريف دمشق والوعر بحمص إضافة إلى ريف حلب ودرعا. ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مقتل 413 شخصاً في سوريا بعد مرور أسبوع على بدء مفاوضات جنيف، 88% منهم قتلتهم قوات نظام الأسد والقوات الروسية.

ومما له دلالته، ويشير إلى الضغوط التي تمارسها القوى المختلفة على بعضها بعضاً ميدانياً، أن المفاوضات بدأت بسيطرة قوات “درع الفرات” التي تدعمها تركيا على مدينة الباب في ريف حلب الشمالي الشرقي، وتخللها سيطرة قوات النظام على مدينة تدمر، لتنتهي باتفاق رعته روسيا بين الوحدات الكردية وقوات النظام، تتسلم بموجبه الأخيرة العديد من القرى في غربي منبج، لتكون بمثابة سد في وجه قوات درع الفرات التي تسعى للسيطرة على منبج من الوحدات الكردية.

ومع بدء روسيا وقوات من النظام بالوصول إلى منبج، يتجه الوضع هناك إلى مزيد من التعقيد، ويضع تركيا أمام خيارات صعبة، حيث تتصارع إرادات مجموعة من القوى المحلية والدولية وفي مقدمتها تركيا ونظام الأسد بالإضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا.

 

 

وهذا التطور يضع تركيا في موقف صعب، ويهدد سبل التفاهم مع روسيا التي من الواضح أنها اختارت وضع ثقلها لصالح محور النظام – الوحدات الكردية بغية تحجيم دور تركيا في تلك المنطقة ومنع تمددها جنوبي مدينة الباب بعد أغلقت قوات النظام الطريق في وجهها هناك، فضلاً عن منع تقدمها أيضاً باتجاه منبج عبر وضع قوات النظام مجدداً في مواجهتها، وبهذا لا يبقى أمام تركيا سوى خيار مواصلة الضغط على الولايات المتحدة لإقناعها بالضغط على القوات الكردية للانسحاب من منبج بناءً على اتفاق سابق بين الجانبين، أو القبول بالأمر الواقع الجديد، والبحث عن “تعويض” في جبهة أخرى مثل مناطق ريف حلب الغربي حيث ما زالت الوحدات الكردية تسيطر على العديد من المناطق هناك أبرزها تل رفعت.

وتشير مصادر محلية إلى أن القرى التي انسحبت منها  قوات سورية الديمقراطية “قسد” في غربي منبج تصل إلى أكثر من 15 قرية وتشمل المساحة الممتدة من مدينة منبج إلى بلدة العريمة، ما يجعل قوات درع الفرات في مواجهة قوات النظام، وليس الوحدات الكردية.



صدى الشام