“الخوذ البيضاء” بين الواقع والتوثيق: شهادة تلفزيونية


لا يختلف المضمون العام للحملة الصحافية الإعلامية، متنوّعة الأشكال، على “الخوذ البيضاء” (2016)، الوثائقي البريطاني الجديد لأورلاندو فون آينسيدل (1980)، عن النصّ الاتهامي، الذي يروِّجه النظام السوري الأسدي، مباشرة، أو عبر وسائل تابعة له ولحلفائه.

فالمضمون يرتكز، كما النصّ، على مسعى جدّي إلى تشويه صورة متطوّعين في منظّمة مدنيّة، تعمل على إسعاف الناس وإنقاذهم (أو محاولة إسعافهم وإنقاذهم، على الأقلّ)، في ظلّ حربٍ تدميرية يخوضها النظام الأسديّ وحليفاه، إيران وروسيا، ضد بلدٍ وشعبٍ. ذلك أنّ النظام يخشى كشف صورة واقعية عن جُرمه وبطشه اليوميين، أو عن جرم حليفيه وبطشهما؛ بينما تعمل منظّمة “الخوذ البيضاء”، الحاملة اسماً آخر هو “الدفاع المدني السوري”، في مجالٍ إنسانيّ بحت، يمتلك قدرةً كبيرة على فضح الجريمة، أو فضح بعض جوانبها، من خلال هذا العمل الإنسانيّ نفسه.

اتّهامٌ لا يُخفي واقعاً

أما الحملة الصحافية الإعلامية، على المنظّمة والفيلم معاً ـ التي تبدأ منذ عام 2013، تاريخ تأسيس المنظّمة، ومنذ بثّ الفيلم الوثائقيّ على شاشة الشبكة الأميركية “نتفلكس”، في 16 سبتمبر/أيلول 2016 ـ فمنطلقةٌ من اتهام رسمي للمنظّمة، يقول بأنّ مؤسِّسَها “ضابطُ استخباراتٍ بريطاني”، بحسب بشار الجعفريّ، مندوب النظام السوري في مجلس الأمن. يضيف الاتّهام “الجعفريّ ـ الأسديّ”، أيضاً، أنّ طبيباً من المنظّمة، التي يصف المتطوّعين فيها بالـ “زعران”، “يُطلِق صاروخاً ضد طائرة”، متغاضياً كلّياً (إذا كان هذا الاتهام صحيحاً) عمّا تفعله الطائرة في مناطق مدنية، وإن تكمن “الحجة الرسمية” بوجود إرهابيين أصوليين، منتشرين في أصقاعٍ عديدة في سورية، خارج سيطرة النظام الأسديّ وحليفيه.

هذا كلّه حاصلٌ خارج الإطار السينمائيّ، المتعلّق بالفيلم نفسه أولاً، وبجائزة “أوسكار” أفضل فيلم وثائقيّ قصير ثانياً، الحاصل عليها في الحفلة الـ 89، في 26 فبراير/شباط 2017. والقول بالإطار السينمائيّ يعني القراءة النقدية للفيلم بحدّ ذاته، في حين أن الحملات تستعر بعد الفوز، إذ يجد مدّعو كتابة نقدية، ومدّعو صحافة وإعلام، في الجائزة، استكمالاً للجانب السياسي الأمني الاستخباراتيّ للمنظّمة، بحسب أقوال “جماعة” النظام الأسديّ، التي “تؤكّد” (!) وجود “مؤامرة صهيونية ـ أميركية ـ غربية” على سورية الأسد، عبر المنظّمة، كما عبر الفيلم والجائزة معاً، وعبر غيرها من الوسائل.

في المقابل، وبعيداً عن اتّهامات أسدية للمنظّمة، لن يكون سهلاً التغاضي، كلّياً، عن المحرّك السياسي لجوائز ممنوحة لأفلامٍ أخرى، في الحفلة نفسها، التي تُنظّمها “أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها”. فاللحظة مرهونة لتجاذبٍ حادٍّ بين هوليوود والإدارة الأميركية الجديدة، برئاسة دونالد ترامب. والتوتر الحاصل في مناطق عديدة في العالم تضع كثيرين أمام تحدّ أخلاقي، يتفوّق ـ غالباً ـ على كلّ شيء آخر. في حين أن أفلاماً عديدة تنال جوائز “أوسكار” في فئات مختلفة، لن يكون منصفاً القول بأحقيّتها بها، لأن بعضها مهمومٌ بمسائل متعلّقة بالسود (تعويضاً عن التغييب الكامل لهم في حفلة العام الفائت)، مع فقدانها شيئاً من سينمائيتها المطلوبة؛ وبعضها الآخر مرتبطٌ بدولٍ، يهاجمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويمنع مواطنيها من الدخول إلى الأراضي الأميركية، كأن ينال “البائع”، للإيراني أصغر فرهادي، “أوسكار” أفضل فيلم أجنبي، رغم كونه أقلّ من المعتاد السينمائيّ، الذي تتضمّنه أفلامٌ سابقة له، تُبهر مشاهدين مهتمّين بالسينما، وبصناعتها.

رغم هذا كلّه، سيبقى السؤال المطروح حول مدى أحقية “الخوذ البيضاء” بنيل تلك الجائزة منزّهاً عن مواقف متشنّجة يتّخذها كثيرون، في وضع دولي استثنائيّ، يتمثل بانشقاقٍ خطر بين معسكرين لا ثالث لهما؛ وسيبقى بعيداً عن تضليلٍ يُمارَس ضدّ وقائع يومية تحصل في سورية (هناك جريمة يرتكبها نظامٌ حاكمٌ ضد بلدٍ وشعب)؛ وسيبقى أميناً لجوهر السينما وعلاقتها بالجوائز؛ وسيبقى ملتزماً موقفاً أخلاقيّاً وإنسانيّاً وثقافيّاً ضد آلة القتل الأسديّ الوحشيّ، التي يستخدمها نظامٌ يتحصّن ببطشٍ عسكري لا حدود له، وبتحالفاتٍ دولية (إيران وروسيا) تسانده في السياسة والفعل الجُرميّ بشكلٍ مباشر، وبتواطؤ غربي، يتمثّل بإعلاء شأن المصالح على الوقائع الإنسانية.


بين السينما والتوثيق

أي أن سؤال السينما يترافق والالتزام الذاتيّ، من دون أن يُخفي الثاني كلّ قراءة نقدية سليمة وهادئة للفيلم، بعيداً عن تلك الحملة المسعورة، التي يُشارك فيها مدّعو مهنةٍ، في الكتابة والصحافة والإعلام والثقافة والفنون. والقراءة النقدية لـ “الخوذ البيضاء” تتناول شكله السينمائيّ، وكيفية اشتغال أورلاندو فون آينسيدل في مقاربة الحكاية، والمضامين التي تُقدّمها 3 شخصيات أساسية، لـ 3 متطوّعين في المنظّمة، يُشكّلون الخيط الفني ـ الدرامي للفيلم، الذي يبني عليهم صورته وحكايته وفضاءه الإنسانيّ.

وإذْ يحتفل كثيرون بالفيلم، وبفوزه بـ “أوسكار” أفضل وثائقيّ قصير، بشكلٍ مُبالغٍ به أحياناً (وهذا يُشبه، إلى حدّ ما، الحملة المُضادة له، على مستوى حدّة الكتابة، الإيجابية والسلبية معاً)؛ فإن “الخوذ البيضاء” يبقى شريطاً توثيقيّاً، مشغولاً بحرفية مهنية تلفزيونية واضحة، ومصنوعاً بنَفَسٍ ترويجيّ لمنظّمة، يواجه المتطوّعون فيها تحدّيات خطرة، بهدف ممارسة عمل إنسانيّ بحت. أي أن التقنيةَ التوثيقية التلفزيونية أساسيةٌ، باعتمادها توليفاً يجمع اللقطات المُصوَّرة إما في لحظات التعرّض لقصفٍ وتدمير، وإما داخل الغرف التي يُقيم فيها المتطوّعون، وإما في مكانٍ ما في جنوب تركيا، حيث يخضع هؤلاء لتدريبات عملية على آليات الإنقاذ الميدانيّ وأساليبه.

والتقنية التوثيقية التلفزيونية تُقدِّم حقائق ووقائع يجمعها كثيرون، محاولين إيصالها إلى العالم، إما بإثباتات موثّقة بالكتابة أو الصورة أو الشهادات، وإما بأشرطةٍ أو أفلامٍ تنقل ما يحصل. وهذا، بحدّ ذاته، ضروريّ ومطلوبٌ، وإنْ لن يؤدّي عملٌ كهذا إلى تحريك أنظمة ودول فاعلة في القرار الدولي، بهدف وقف “حمام الدم” السوري، المفتوح على الاحتمالات كلّها، لانشغال هذه الأنظمة والدول بمصالحها الخاصّة.

أما الشخصيات الـ 3، فهي: خالد فرح (بنّاء سابق)، وأبو عمر (حدّاد سابق)، ومحمد فرح (خيّاط سابق). يعترف الأخير بانضمامه السابق إلى تنظيم مسلّح في صفوف المعارضة، قائلاً إن سبب ذلك كامنٌ في قصف النظام للمدنيين، أو بالأحرى “لأن الحملة كلّها للنظام كانت على المدنيين”. يقول بانتباهٍ ذاتيّ لاحق إلى أهمية مسألة جوهرية، بالنسبة إليه: “أن يكون عملي إنسانياً، أحسن من أن يكون مُسلّحاً. أن أنقذ أرواحاً أحسن من أن أقتل أرواحاً”. فهل يدعو كلامٌ كهذا إلى اتّهاماتٍ تُساق ضد أناسٍ لا يزالون، رغم المصاعب والمخاطر، يتمسّكون بأمل خلاصٍ يسعون إليه؟ خالد وأبو عمر ومحمد يقولون بالأمل، وينظرون إلى المقبل من الأيام بتفاؤلٍ ما، من دون أن يتغاضوا عن الموت الذي يلاحقهم ويحاصرهم، والذي يُلاحق المدنيين ويحاصرهم. فهل تفاؤلهم وتمسّكهم بأملٍ ما دليلٌ على اتّهامٍ بتبعيتهم لأجهزة استخباراتية أمنية؟ أم أن التزامهم الديني الواضح (إنهم مسلمون عاديون)، وممارستهم طقوساً دينية عادية، انعكاسٌ لانضمامهم إلى جماعات أصولية إرهابية جهادية؟

وقائع ومعطيات

لن يخرج “الخوذ البيضاء” (40 دقيقة) على تقنية الريبورتاج التلفزيوني، المشغول بحرفية مهنية واضحة. فهو، في سرده حكاية “الدفاع المدنيّ السوريّ”، يرسم ملامح حالة وواقع، يتمثّلان بوحشية القصف والمعارك (“داعش على الأرض، والطيران الروسي في الجوّ”، يقول أحدهم)، وينعكسان بعمل المتطوّعين في ظلّ وضع مأسوي للغاية. والوضع، رغم قسوته ومأسويته، لن يُقلِّل من قناعةٍ ذاتية للمتطوّعين بأهمية ما يفعلون: “هذا واجبي، بغضّ النظر عن كلّ شيء آخر”، يقول أبو عمر، فيؤكّد خالد فرح هذا بقوله: “هذه وظيفتي. هذا عملي”.
لكن اللقطات والمشاهد كلّها (خالد الخطيب، أحد المتطوّعين، يُصوّر لقطات عديدة لعمليات الإنقاذ، التي يقوم بها زملاؤه بُعيد لحظات من القصف. وبفضله، يتسنّى للبريطاني آينسيدل تحقيق الفيلم) تمزج بين أقوالٍ مباشرة للشخصيات الأساسية، وبعض عمليات الإنقاذ تلك، وجزء من التدريبات الميدانية لمتطوّعين عديدين. أما المعلومات، فتوضع بين لقطات ومشاهد مختلفة، لتبيان أحوالٍ يومية، ومعطيات تأريخية متعلّقة بالمنظّمة والمتطوّعين فيها، وبنتائج الفعل الجُرميّ للنظام، وحليفه الروسيّ تحديداً.

فالفيلم يذكر معلومات عديدة، عن الوضع وعن المنظّمة: “بعد 5 أعوام من الحرب، أكثر من 400 ألف سوري قُتلوا، ومليون شخص تركوا منازلهم (قسرياً)”، مثلٌ أول. “تستجيب فرق “الخوذ البيضاء” لعشرات الغارات الجوية كلّ يوم”، مثلٌ ثانٍ. “منذ عام 2013، قُتل أكثر من 130 متطوّعاً من “الخوذ البيضاء”، وخلال الفترة نفسها، تمّ إنقاذ أكثر من 58 ألف حياة”، مثلٌ ثالث. “عام 2013، تمّ تأسيس “الخوذ البيضاء”، المعروفة أيضاً باسم “الدفاع المدنيّ السوريّ”، وهي تضمّ 2900 مدني يعملون في 120 مركزاً في مدن مختلفة”، مثلٌ رابعٌ.

معلومات ومعطيات تؤكّد بعض المؤكّد: هناك جريمة تحصل ضد المدنيين، وهناك مدنيون يجتهدون في محاولاتٍ دؤوبة لإنقاذهم وإسعافهم قدر المستطاع. معلومات ومعطيات يوثّقها “الخوذ البيضاء” لأورلاندو فون آينسيدل، في شريطٍ توثيقيّ يعترف بواقعٍ وحقائق، ويتمتّع بشرعية بصرية تلفزيونية في كشف فظائع، وفي منح المتطوّعين المدنيين شيئاً من تحيّة يستحقونها، ومن أرشفةٍ لعملٍ يقومون به بقناعة بحتة، يُفترض به (العمل) أن يؤرشَف ويُبَثّ في أصقاع العالم كلّه.

أما الباقي، فسيبقى مجرّد هوامش جانبية، لن تُفيد الوثائقيّ التلفزيونيّ بشيء.



صدى الشام