الحاجة أمّ “ابتكارات” الشباب السوري للتهرّب من الخدمة العسكرية


لم يترك النظام وسيلة للالتفاف على خيارات الشباب السوري وزجّهم في صفوف قواته إلا وابتدعها، وعلى هذا الأساس أنشأ قوى وميليشيات متعددة وتحت مسمّيات مختلفة لترغيب السوريين بميزات معينة، لكنه لم يكن ليلجأ لتلك الطرق لولا أن الجسم العسكري، الذي يفترض أن يكون رئيسًا في عملياته، عانى من التفكك وحالات الفرار والانشقاقات عدا عن الخسائر البشرية الكبيرة.

وفي المقابل لم تلقَ محاولات النظام لاستقطاب المتطوعين في ميليشياته أصداءً طيبة إلا ممن وجد نفسه مضطراً تحت وطأة الظروف المعيشية، أو من أراد خوض تجربة “التعفيش” قاصداً، أما البقية ممن هم مطلوبون للخدمة الإلزامية فلم يوفروا من جانبهم طريقة إلا وجربوها هرباً من “العسكرية”، وبات هناك طيف واسع من الخيارات والأساليب التي تطورت مع الوقت في محاولة من أصحابها للتكيف مع الواقع في الداخل السوري والتخلف عن السّوق حتى إشعار آخر.

ومن خلال سلسلة لقاءاتٍ مع شبّانٍ سوريين تمكّنوا من التهرب من الخدمة الإلزامية وثّقت “صدى الشام” أبرز الطرق التي استخدموها والتي كانت ناجعة إلى حدٍّ بعيد، واستطاعوا من خلالها إبعاد هذا الخطر عنهم.

 

 جامعيون لأطول فترة ممكنة

ما أن تُنهي دراستك الثانوية حتى تكون بحكم المطلوب للخدمة في جيش النظام، لذلك فإن إنهاء الدراسة هو قرار غير إيجابي للكثير من الطلاب في هذه الفترة، على ما يشرح أحمد، وهو طالب في السنة الثالثة في كلية الآداب بجامعة دمشق.

ويوضح أحمد لـ “صدى الشام”: “أن معظم الطلاب باتوا يستغلّون فكرة الرسوب لأكبر عددٍ ممكنٍ من السنوات، وذلك لكسب مزيد من التأجيلات للخدمة العسكرية” مشيراً إلى أنه شخصياً يتعمد الرسوب مرّة في كل سنة، وذلك بهدف البقاء في الجامعة أطول وقتٍ ممكن، ويعلّل هذا الإجراء بأملٍ داخله أن ينتهي الصراع قبل أن يُنهي دراسته، قائلاً: “أشعر بالندم في بعض الأحيان عندما أجد أصدقائي تخرّجوا وأكملوا دراساتٍ عليا أو دخلوا سوق العمل وبعضهم من سافر، ولكن لا بأس، يبقى هذا الخيار أهون بكثير من المخاطرة وإنهاء الدراسة والذهاب للخدمة”.

لكن هذه العملية غالباً ما تكون محفوفة بالكثير من المخاطر، أبرزها أن يتعثّر الطالب في دراسته وبالتالي يرسب مرّتين في السنة الواحدة وهو ما يجعله وفق قانون وزارة التعليم العالي “مستنفذاً في دراسته الجامعية” الأمر الذي يجعله مطلوباً للخدمة حتى قبل إنهاء دراسته.

 

دراسات وهمية

في حال استنفذ الطالب معظم السنوات المتاحة أمامه واضطر في نهاية الأمر للتخرّج من الجامعة، فإن ذلك لا يعني أن الأمر قد انتهى، إذ أن الآفاق واسعة للحصول على تأجيل جديد.

وتبدأ هذه الآفاق من الدراسات العليا المجّانية منها والمأجورة، وبحسب ما جمعت “صدى الشام” من معلومات فإن صاحب أي تخصّص جامعي بإمكانه بعد التخرّج أن يدرس الماجستير في تخصّصه الذي يمنحه تأجيل 4 سنوات مع الرسوب، أو دبلوم التأهيل التربوي المتاح لجميع التخصّصات والذي يعطي تأجيلاً لمدّة عامين، ويُضاف إليها مجموعة من دراسات الماجستير التي لا تقدّم أية فائدة علمية وإنما توفر التأجيل عبر دفع المال، ومنها “ماجستير التنمية الإدارية” في معهد التنمية الإدارية، وماجستير التراث الشعبي التابع لقسم علم الاجتماع، وماجستير الدراسات السكّانية التابع لمعهد البحوث السكّانية في البرامكة، وماجستير الإدارة السياحية التابع لمراكز خاصّة مرخّصة من وزارة الصحّة التابعة لحكومة النظام.

وتضع المراكز آنفة الذكر إعلاناً صريحاً في شوارع العاصمة تدعو فيه الطلّاب الذين لا يملكون تأجيلاً دراسياً أن يسجّلوا فيها مقابل 100 ألف ليرة سنوياً، غير أن هذه المراكز قد لا يتم قبولها في بعض الأحيان في شعبة التجنيد، على ما يشرح حسام، وهو اسم مستعار لخريج جامعي بدمشق قام بالتسجيل في أحد المعاهد الخاصّة، وبعد حصوله على وثيقة من المعهد رفضتها شعبة التجنيد.

ويلفت حسام إلى أن الوثيقة ذاتها تم قبولها من صديقه بعد أن رُفضت من قبله، لذلك فإن الأمر “يعتمد على مزاج موظّف التجنيد”.

وتأتي الجامعة الافتراضية كخيارٍ أخير لأي طالب استنفذ كل فرصه في التسجيل، فيلجأ إليها كونها مضمونة وتابعة لوزارة التعليم العالي.

 

 

السفر أسرع الوسائل

على الرغم من حدوث الكثير من المستجدّات فيما يتعلق بالسفر بالنسبة للسوريين الهاربين من الخدمة العسكرية، وأبرزها فرض تركيا تأشيرة دخول، والاتفاق التركي الأوروبي الخاص بوقف تدفّق المهاجرين، وغيرها من التغيرات، إلّا أن هناك عدداً من الأبواب ما زالت مفتوحة، وأبرزها عمل كفالة في لبنان والمكوث هناك، كما فعل عصام وصديقته وهما خريجان من جامعة تشرين في اللاذقية، بعد أن تعثّر حصوله على تأجيلٍ جديد.

يقول عصام لـ “صدى الشام”: “إن الأمر كلّفه حوالي 400 دولار بين دفع المبلغ للكفيل ورسوم الكفالة، لكنه تمكّن في نهاية المطاف من الدخول إلى لبنان بشكلٍ قانوني وإبعاد خطر السوق للخدمة عنه”، ويضيف: “صحيح أن الوضع في لبنان ليس جيّداً بوجهٍ عام بسبب الظروف الاقتصادية السيئة وتصاعد وتيرة الخطاب العنصري ضد السوريين إلّا أنّه في نهاية المطاف أفضل من الخدمة في جيش النظام”.

وعلى غرار لبنان بإمكان السوريين السفر إلى السودان، حيث يجدون هناك بعض التسهيلات للدراسة والعمل وغيرها من أمور الحياة، ويُضاف إليها ماليزيا التي تعتبر من أفضل الدول التي لا تفرض أية تأشيرة على السوريين.

 

تأجيل مهلة سفر

بدأ العمل بهذا النوع من التأجيلات في منتصف عام 2013، وكان وسيلةً جديدة من نظام الأسد لتحصيل مزيدٍ من الأموال من جيوب السوريين، ولا سيما أنه يكلّف 300 دولار أمريكي.

ويُعطى هذا التأجيل لمدّة 9 أشهر ولمرّتين في حياة الشخص الواحد، لكن النظام قلّصها لتصبح مرّةً واحدة في حياة الشخص.

مراد “اسم مستعار” هو واحد ممن استخدموا هذه الطريقة، يقول لـ “صدى الشام”: إنها أفادته في إتاحتها متّسعاً من الوقت ليتمكّن من إيجاد حلٍّ نهائي للخدمة والسفر خارج سوريا دون الحاجة إلى سماسرة.

أما عبد الرزّاق فقد تمكّن من جهته من تحصيل قبولٍ جامعي خلال فترة مهلة السفر، وحصل بموجبها على وثيقة تأجيل نظامية.

 

 

الهروب إلى المناطق المحرّرة

يلجأ إلى هذا الخيار الشبّان الذين لا يرغبون في مغادرة سوريا، لكنّه ليس بالأمر السهل، ولا سيما لمن انتهت تأجيلاتهم العسكرية، فالوصول إلى المناطق المحرّرة أمر غاية في الصعوبة، كون حواجز النظام منتشرة على الطرقات إلى تلك المناطق.

لكن هذه المعوقات لم تمنع “أحمد حبّو” من الوصول ريف حلب الغربي، بعد أن دفع مبلغ 1500 دولار أمريكي لعنصر في ميليشيا الدفاع الوطني التابعة للنظام.

يقول حبّو لـ “صدى الشام” إنه تعرّف إلى العنصر عبر وسيط من أحد أصدقائه واتفقا على المبلغ في أحد مقاهي العاصمة على أن يتم تسليم المبلغ بعد أن يعبرا آخر حواجز النظام، ويضيف: “بالفعل فقد مكّنني من عبور أكثر من 28 حاجزاً عسكرياً دون أن أتعرض لأي سؤال، وأعطيته المبلغ كاملاً”.

وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من الإعلانات من قبل أشخاص محسوبين على النظام ليوصلوا المطلوبين إلى المناطق المحررة مقابل مبالغ مادية باهظة.

 

 

السماسرة والواسطات

تُعتبر هاتان الطريقتان حلاً أخيراً لمن فشل في الهروب من الخدمة باستخدام جميع الطرق السابقة، ومن جانبهم يبقى لدى ضبّاط شعب التجنيد “ترحيب” بتأجيل الشبّان بالواسطات، أو حتى عبر التزوير، ولكن مقابل مبالغ فلكية لا تقل عن 2000 دولار أمريكي.

“أبو العبد” شخصية مشهورة بين طلّاب جامعة دمشق، ويُعتبر من أبرز السماسرة الذين لهم سلطات واسعة مع ضبّاط النظام.

وبحسب طلّاب في المدينة الجامعية بدمشق، فإن أبو عبدو يتردّد بشكلٍ شبه يومي إلى المدينة لجمع بيانات عن الطلّاب ومعرفة الراغبين منهم بالتأجيل عبر معارفه من الضبّاط.

يقول طالب في المدينة رفض الكشف عن هويته لـ “صدى الشام”: “إن هذا الرجل يحصل على مقابل مادي لقاء جمْع الطالب مع الضابط بغض النظر عمّا إذا كانا سيتفقان أم لا”، مشيراً إلى أنه في حالاتٍ نادرة لا يتم الاتفاق، لكن الطالب عموماً يكون مضطراً لدفع الأموال التي يريدها الضابط، ولا سيما عند اكتشاف أمره أمامه وهو الذي يستطيع اعتقاله وسوقه إلى الخدمة في أية لحظة.

ويشير الطالب، بناءً على تجارب أصدقائه، أن التأجيل بالواسطة أمر سهل ولا يتطلّب من الضابط سوى منحه تأجيلاً وإبعاد اسمه من سجلّات المطلوبين لعامٍ كامل.

 

تزوير التأجيل

تعد هذه الطريقة محاولة يائسة لمن فَقَدَ الأمل تماماً ولا يملك أية واسطة أو معارف، وفشل في الهروب بالطرق الأخرى، فيقوم بالتزوير في مسعى لإبعاد الخطر عنه، وقد تنجح هذه الطريقة في بعض الأحيان وقد تفشل في أحيانٍ كثيرة، وذلك بسبب امتلاك النظام تقنيّاتٍ ووسائل حديثة لكشف التزوير، لكن غالباً ما يلجأ إليها الأشخاص كمحاولة شبه فاشلة عندما يوقنون أنهم لا يستطيعون الهروب من الخدمة العسكرية.



صدى الشام