فيما يسود التطرف العالم، وتتعالى أصوات المتطرفين من كل حدب وصوب، بأفعال وردود أفعال، يصطدم المسلمون بتوجه الكثير من الشباب “المسلم” نحو الانصراف عن الدين، لدرجة الإلحاد في أحيان عدة، ودون سابق إنذار في أغلب الأحيان، وإذ كنت لا أملك أرقامًا دقيقة أو إحصائيات عن الموضوع، إلا أني غير متفاجئ مما أسمع وأقرأ، سيما ممن تصلني رسائلهم وهم في طريقهم للإلحاد.
فالقفزة التكنولوجية التي نعيشها جعلت من السهولة بمكان الاطلاع على كم هائل من المعلومات بكبسة زر، معلومات كانت حكرًا على المختصين فقط، أو من ادعوا ذلك، حيث كان بإمكانهم تزوير الحقائق كما يشاؤون نظرا لصعوبة التأكد من صحتها، وترافق هذا التطور بخيبات أمل من واقع مرير تعيشه شعوبنا، سيما مع وجود أسئلة كثيرة دون إجابات تشفي غليل من يشعر بالخذلان، سواء ممن رأى ممارسات مدعي الإسلام من حركات سياسية، أو ممن رأى الظلم يأكل الأخضر واليابس، وقد رسخ في ذهنه أن الله مسؤول عن كل ما يحصل، فبهت من هول الصدمة، وإن كانت أجوبة الشيوخ والفقهاء ترضي الأجيال على مر العصور، فاليوم لم يعد من المقنع أن تقول لمن فقد عائلته في حرب طاحنة أن هناك حكمة مخفية في فقدهم، وعليك القبول بما اختاره الله، كما لا يمكنك القول لمن لجأ إلى أوروبا ووجد من شعوبها كل التعاطف أن هؤلاء في النار، والأمثلة لا تنتهي، فنحن قد ورثنا منظومة متكاملة من الأكاذيب قيل لنا إنها “الإسلام”، وهي لا تمت للإسلام كما أنزل على محمد (ص) بصلة، وإنما هي صناعة بدأت تنحرف عنه رويدًا رويدًا ابتداءً بوفاة الرسول مرورًا بالعصر الأموي لتتبلور بالشكل الذي هي عليه الآن في العصر العباسي، وأغلق باب الاجتهاد، وفتح باب القياس على أحكام وضعها أموات –مشكورين- لعصرهم، وهم لا يعلمون أن من سيأتي بعدهم بما يزيد عن ألف عام من السذاجة ليتوقف عند آرائهم، لا بل ليقدس تلك الآراء وينسى الكتاب الأصلي الذي أرسله الله وحمله رسوله، في رسالة أراد الله أن تكون الخاتم بين الرسالات السماوية، وأعلن فيها أهلية الإنسانية لتشرع لنفسها، مستنيرة بمرجعية أخلاقية تطابق كل الناس من طوكيو إلى لوس انجلوس، على مر العصور وحتى قيام الساعة، فالبوذي يبر والديه، والهندوسي والمسلم والمجوسي والملحد أيضًا، وكل أولئك يتفقون على إدانة القتل، والسرقة والغش وشهادة الزور والفاحشة، وكل يختار صلته بالله بالطريقة التي يراها، فمنهم من يقطعها ومنهم من يقيمها، والله تعالى جعل الفصل بينهم بيده دون غيره يوم القيامة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17).
وإن كان الله تعالى قد ذم بعضًا من أهل الكتاب لأنهم حرفوا ما جاءهم من كلام الله عن مواضعه {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ –} (النساء 46)، فما فعله فقهاؤنا والمفسرون لا يخرج أبدًا عن مسمى “التحريف”، فهم جعلوا من القانون المدني الذي وضعه النبي كتفاعل أول للرسالة المحمدية مع الواقع، جعلوا منه دينًا، وزادوا عليه ما احتاجوا له سواء لخدمة الحكام والسلاطين، أو خدمة لأهواء العقلية الذكورية التي ترى في المرأة متاعًا لا أكثر، فتقولوا على الله ورسوله، وصنعوا من محمد شخصية أسطورية، وأضافوا عليها صفات خارقة، وكرسوا مفهوم الجبرية، فأصبح الإنسان بنظرهم مسيرًا لا مخيرًا، والله تعالى قد كتب عليه منذ الأزل أن يرتكب ما يرتكبه، وأن يحصل له ما يحصل، عدا عن خرافات تركت الدين يهوي عند أول صدام مع العلم، وكأنهما خطان متوازيان مهما امتدا لا يلتقيان، في حين أن دراسة نص التنزيل الحكيم الإلهي بطريقة علمية دقيقة تودي بنا إلى نتائج مختلفة تمامًا، نصل من خلالها إلى الله الرحيم الذي يخاطب الناس جميعًا مؤمنهم وكافرهم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر 53) وتتساوى عنده الأنثى مع الذكر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13) ولكل أجره وفق عمله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت 46) مع كامل الحرية في الإيمان والكفر {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29)، فالدين يأتيه الإنسان طواعية دونما أي شكل من أشكال الإكراه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256)، و{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99).
أما ما يصيبنا فهو من صنع أيدينا {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى 30) ومن ضمن القوانين الموضوعية التي قررها الله لهذا الكون {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد 22) ولنكون جديرين بالاستخلاف على الأرض علينا أن نسخر ما عليها لخدمتنا بحيث نستطيع القضاء بمصائرنا، وهذا لا يتأتى إلا بالمعرفة والعلم لا بالدعاء والاستكانة، فالله لا يعين الكسالى ولا المتقاعسين {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة 105) ولا من يضع عقله جانبًا {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج 46).
ورسولنا عظيم وعلى خلق عظيم، قام بمهمته ببلاغ التنزيل الحكيم كما أوحي له على أكمل وجه، وما كان له أن يضيف محرمًا إلى ما حرمه الله، ولا أن يلغي بندًا منها، ولم يفعل، واستطاع بما أوتي من نبوة أن يحدث قفزة نوعية في مجتمعه، فأقام دولة تعددية وشرع لمجتمعه بما يتناسب مع ظروفه المرحلية، وترك لنا أن نتأسى به ونجتهد لعصرنا وفق ظروفنا وأرضيتنا المعرفية، وهو بشر مثلنا، فلا نقوله ما لم يقل، ولا نسبغ عليه ما ليس فيه، مما يسيء له ولنا.
خلاصة القول أن من يطلع على الإسلام كما جاء في التنزيل الحكيم يجد فيه ما يجعله يعيد النظر قبل الاتجاه إلى الإلحاد، ويجد خالقًا رحيمًا لا يضيع لديه عمل صالح ولو كان مثقال ذرة.