فنان الغرافيتي “عزيز الأسمر”.. الانتماء للفن والثورة


 

كثيرون يَرَون في الحرب موتاً لكل شيء لكن يبقى للسوريين وجهة نظر مختلفة في ذلك، هذا ما أثبته فنانون أبدعوا ونشروا الجمال حتى على الجدران من خلال ما يعرف بفن الـ”غرافيتي”، هذا الفن الذي وإن كان شائعاً في العديد من دول العالم لكنه في سوريا لم يفرض وجوده بشكل كبير لاعتبارات عديدة، ولعل أبرز ما يميز هذا الفن هو استخدامه لأدوات معينة كالبخاخ، وتميزه بكونه أسلوباً للتعبير الحر، ومع أنه فيما سبق كان يعدّ أفعالاً مخالفة للقوانين واعتداءً على ممتلكات الآخرين، لكنه شق طريقه مع الوقت شكلاً إبداعياً لا يستطيع أحد تجاهله، وفي سوريا وضمن ظروف البلاد وأحداثها كان بصمةً جمالية وطريقة لإبراز المواهب وإيصال رسائل أصحابها كما هو الحال مع الفنان الإدلبي “عزيز الأسمر” الذي يمثل نموذجاً سوريًّا يستحق التوقف عنده مطولاً، وهو الذي سبق وعمِلَ في دار للنشر ببيروت لمدة 20 عاماً ثم عاد إلى بلده ومدينته بنش، قبل عام ونصف.

 

 صداقة مع الجدران

ما يلفت النظر في تجربة “الأسمر” ليس وجوده وعمله في ريف إدلب بل أنه أيضاً فرد من عائلة مولعة بالفن على اختلاف أشكاله سواء الرسم أو التخطيط أو الموسيقى، بدءًا من الأب مرورًا بالأخوال والإخوة، وصولًا إلى “عزيز” نفسه.

يقول “الأسمر” لـ صدى الشام “إن فنانين عدة فضلوا السفر من سوريا عند اندلاع ثورتها وآخرين بقوا داخلها دون أن يسخرّوا شيئاً من أعمالهم الفنية خدمةً للثورة معتبرين ذلك دون جدوى”، لكن بالنسبة لـ” عزيز” فإن عودته إلى سوريا كانت من هذا الباب، فقد آمن بثورتها، ولأن ثورات العالم تشهد مختلف المظاهر فهو على يقين أنه من خلال رسمه على الجدران وإيصاله رسالة معينة للعالم يكون قد أدى واجبه.

وبَيْن “الأسمر” والأسقف والجدران هنالك صداقة وطيدة، فعندما بدأ عمله شعر بأنه لمس وجهها وأحسّ بوجعها فرسم عليها أفكارًا من وحي الواقع السوري التي يضجّ به العالم.

 

 

بين القبول والرفض

بما أن محافظة إدلب باتت من أكثر المدن المستهدفة من قبل طائرات نظام الأسد وحلفائه وتعيش أوضاعًا اجتماعية واقتصادية متردية فقد واجه “الأسمر” صعوبات كثيرة وتوجهت إليه أصابع اتهام بأنه “لا مُبالٍ” كونه مازال مولعًا بالرسم.

لكن لـ لأسمر رأيًا آخر إذ يقول: “إن علاقة العشق التي تربطني مع الأطفال مفتاحها السمايلات وسبونج بوب التي نرسمها سويةً على الجدران فيجدون بذلك متعة ونافذة يرمون عبرها ضغوطات الحرب لترتاح نفوسهم المتعبة، وذلك ما جعلني سعيداً بتقبّل البعض لعملي كما أنني أتفهم امتعاض فئة أخرى، وبالتالي فإني أستمرّ بزرع البسمة على الوجوه”.

مدارس كثيرة دخلها “الأسمر” في الأراضي الخارجة عن سيطرة نظام الأسد كريفي حلب الجنوبي وإدلب الشمالي مؤخرًا، ووضع لمسته فيها مستبدلاً العبارات العسكرية المبخوخة على جدرانها بعبارات تربوية ورسومات كرتونية تلامس قلب التلاميذ وتطورهم علميًا، هذا عدا عن رسوماته على جدران المعاهد والروضات وتخطيطه لشواهد القبور.

 

 

وقائع متباينة أصبحت تطبع المشهد السوري سواء على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو التربوي، وهنا كان لا بد للأسمر أن ينوع رسوماته على الجدران، لكنه أبدى اهتمامًا خاصًا باللوحات ذات الطابع السياسي والإنساني، وآخر أعماله في هذا المجال كان حول الخبر الأكثر انتشارًا في العالم قبل أيام قليلة ألا وهو فوز الفيلم الوثائقي القصير “الخوذ البيضاء” بجائزة الأوسكار، ليكتب عبارة (وجهك للإنقاذ وظهرك للجوائز) على رسمة زيّنت أحد الجدران ظهر فيها رجال الدفاع المدني وهم يرفعون الأنقاض عن جسد طفل قصفت الطائرات منزله، متناسين جائزة الأوسكار خلفهم.

ومن رسوماته الإنسانية تلك التي تخّلد حادثة الطفل “عبد الباسط” الذي فقد أطرافه إثر غارة جوية من الطيران الحربي الروسي، والذي نادى أباه “بابا شيلني” ليبلغ صدى الحادثة أرجاء العالم، أمام ذلك قرّر “الأسمر” أن يعيد  تشكيل هذا المشهد الأليم ليعبر عن موت الضمير العالمي الذي حرم عبد الباسط ومئات الآلاف من أطفال سوريا حقهم في حاضرهم إضافة لضياع مستقبلهم.

 

 

بأقل وقت وبأدوات بسيطة

ما يميز أعمال “الأسمر” أيضاً أن جميعها الصغيرة منها والكبيرة، البسيطة والمعقدة تم رسمها خلال فترة زمنية وسطية لا تتجاوز ساعة ونصف ومن خلال أدوات بعضها من مستهلكات المطبخ المنزلي، وهنالك الأسفنج وإطارات النوافذ إضافة إلى الطلاء الزيتي والمائي بألوانه المختلفة فضلاً عن استخدام البخاخات.

“عزيز الأسمر تعال عحارتنا، يامرحبًا عزيز بحارتنا” عبارات تجد أطفال مدينة بنش يرددونها مخاطبين فناناً لطالما كان صديقاً لهم يرافقهم بين الأزقة والأحياء وباحات مدارسهم وساحات الأسواق ويرسم لوحاته برفقتهم ويهَبهم وقتًا للمرح ونقش ما يحبونه من أشكال تخطر ببالهم.



صدى الشام