on
حين اكتشف العالم أن سورية مسلخ بشري وغرفة تعذيب
على الرغم من أن الاعتقال السياسي في سورية ليس جديداً، إذ ظلت السجون “عامرة” على مدار التاريخ الحديث، خصوصاً بعد ثمانينيات القرن الماضي، في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، إلا أن اندلاع الثورة السورية ربيع عام 2011، ضاعف مرات عدة عدد المعتقلين. وكان الاعتقال أحد أكثر الأسلحة تفضيلاً لدى النظام، لأن آثاره لا تطاول الشخص المعتقل فقط، بل عائلته أيضاً، فضلاً عن كونه وسيلة تحطيم للمجتمعات الثائرة وابتزازها مالياً، إضافة إلى ردع وترهيب المجتمع بأسره. وكان على السوريين أن يُقتلوا طيلة ست سنوات لكي يكتشف المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الأمير زيد بن رعد الحسين، أن سورية “أصبحت كلها غرفة تعذيب ومكاناً للرعب الوحشي والظلم المطلق”. كان على السوريين أن يُقتلوا لست سنوات لكي تكتشف منظمة العفو الدولية، الحريصة عادة على “دقة مصطلحاتها ومهنيتها”، أن في سورية مسلخاً بشرياً اسمه سحن صيدنايا العسكري، في انتظار اكتشافها “مسالخ” جديدة.
في هذا السياق، قدّرت مصادر عدة أن عدد المعتقلين في سورية يزيد عن 215 ألف معتقل، من دون احتساب من توفي منهم تحت التعذيب منذ بدء الثورة والمقدّر عددهم بعشرات الآلاف. وكانت أكبر عملية توثيق مصوّرة لهؤلاء الضحايا، كشفها مصور في الشرطة العسكرية السورية يدعى “قيصر” عام 2014، انشق وهرب خارج البلاد ومعه 55 ألف صورة لـ11 ألف ضحية تم تعذيبها في سجون النظام السوري حتى الموت.
دائماً ما تبدأ رحلة التعذيب بالنسبة للمعتقلين منذ لحظة اعتقال الشخص، فيتعرض للضرب المبرح، وصولاً إلى الفرع الأمني، حيث تكون بانتظاره “حفلة استقبال” من الضرب والشتائم بشكل منظم. وكثيراً ما يظلّ رهن الاعتقال مع التعرّض للضرب والحرمان من كل الحقوق طيلة أشهر، من دون أن يخضع للتحقيق أو الاستجواب. والكثير من المعتقلين ذوي البنية الضعيفة أو الذين يعانون من الأمراض يفارقون الحياة خلال هذه الفترة، إما بسبب الضرب المبرح أو الحرمان من الطعام، أو عدم تناول أدويتهم.
وقدّرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن “ستة أشخاص يموتون يومياً تحت التعذيب في المعتقلات النظامية أو غير النظامية في سورية”، مشيرةً إلى أن “هذا الرقم يمثل معدلاً وسطياً للمعتقلين الذين يموتون تحت التعذيب”.
وقد أحصت الشبكة السورية لحقوق الانسان 45 أسلوباً للتعذيب، اتّبعتها قوات النظام ضد المعتقلين أشهرها وضعية الشبح، ووضعية الدولاب، ووضعية بساط الريح، ووضعية التعليق، ووضعية التحطيم، ووضعية الكرسي الكهربائي، ووضعية الكرسي الألماني. وأكدت أن “المعتقلين يتعرضون لكل أشكال الضرب على الجسد بأدوات مثل العصي أو كابلات الكهرباء، إضافة إلى ما يعرف باسم الفلقة، والدوس على رأس المعتقل، فضلاً عن انتهاكات جنسية حيث يتعرض المعتقل/ة للاغتصاب من قبل قوات النظام”.
كما وثقت الشبكة 14 طريقة للتعذيب النفسي بحق المعتقلين، من أبرزها إجبار المعتقل على مشاهدة زميله يتعرض للاغتصاب، وتهديد المعتقل باغتصابه، وإجبار المعتقل على مشاهدة زملائه وهم يتعذبون أمامه أو وهم يموتون تحت التعذيب، ووضع المعتقل في زنزانة فيها شخص يحتضر، إلى جانب وضعه في زنزانة فيها شخص ميت.
بدورها نوّهت منظمة العفو الدولية في تقرير لها صدر أخيراً إلى “وجود عمليات إعدام منتظمة تقوم بها السلطات السورية، وتتم عن طريق عمليات شنق جماعية شملت خلال السنوات الخمس الماضية 13 ألف سجين داخل سجن صيدنايا قرب دمشق وحده”. وأضافت أن “التعذيب مثل الصعق الكهربائي والإعدام الوهمي، والتعريض للبرودة والحرارة لمدة ساعات أو أيام، والأوضاع المجهدة المؤلمة، كإرغام الضحية على الوقوف لفترات طويلة والتعليق مع قلب الرأس إلى أسفل، وتقييد الضحية وظهره إلى الحائط، لكنه لا يستطيع الاستناد إليه لأن هناك عمودا حديديا يبرز من الحائط ويلكز ظهره مسبباً له الألم. فضلاً عن انتزاع الأظافر، ونتف الشعر واللحية، واستخدام الأحماض لحرق الجلد، والعري لفترات طويلة والحرق بالسجائر والمواد المذيبة”.
البلاد عبارة عن عشرات السجون والمعتقلات التي بني الكثير منها خلال العقود الماضية. ومن أشهر السجون الرسمية سجن دمشق المركزي الكبير، الواقع في مدينة عدرا إلى الشمال الشرقي من العاصمة دمشق. وهناك أيضاً سجن عدرا المركزي للنساء، غير البعيد عن سجن الرجال. وتخضع المعتقلات لظروف مشابهة لسجن الرجال من ناحية الإهانة والضرب والتعذيب وحتى الاغتصاب، في حين تنعدم الرعاية الطبية رغم وجود نساء مسنات ومريضات أو حوامل. كما أن هناك سجن حلب المركزي الواقع إلى الشمال من مدينة حلب، بجانب مخيم للاجئين الفلسطينيين، وسجن حماة المركزي الذي اشتهر بإضرابات المعتقلين فيه، وسجن السويداء المركزي وسجن حمص المركزي.
ولعل الأكثر شهرة هو سجن صيدنايا العسكري في مدينة صيدنايا، على بعد 30 كيلومتراً شمال غربي دمشق، والذي افتتح في سبتمبر/أيلول 1987. ومنذ ذلك الوقت يستخدم لسجن المعتقلين السياسيين، والسجناء العسكريين القضائيين.
كان السجن يضم قبل اندلاع الثورة بين 1500 و2000 سجين، تحديداً المتهمين بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة والتيارات السلفية، لكن العدد زاد كثيراً بعد اندلاع الثورة. وبلغ عدد المعتقلين حالياً نحو 14 ألف معتقل، خضع معظمهم لمحاكمة صورية أمام محكمة الميدان العسكرية وتلقوا أحكاماً جائرة تتراوح بين الإعدام والسجن لمدة 15 عاماً. كما أن هناك نحو 8 آلاف معتقل بينهم نساء وأحداث، في أحد أجزاء مبنى معتقل صيدنايا: “السجن الأحمر”. وهناك أيضاً “السجن الأبيض”، الذي يضم حوالي 6 آلاف سجين بينهم حوالي 4 آلاف ضابط من جميع الرتب.
أما ما هو أسوأ من السجون فهي المعتقلات السرية التي تتبع الأجهزة الأمنية المختلفة في البلاد، وأهمها الاستخبارات الجوية، والاستخبارات العسكرية، والاستخبارات العامة (أمن الدولة)، والأمن السياسي. وأشد تلك الأجهزة قمعاً وأكثرها حساسية، هما جهازا الاستخبارات العسكرية والاستخبارات الجوية، بينما يعتبر جهاز الأمن السياسي أكثر الأجهزة انتشاراً وتغلغلاً بين صفوف الشعب. ولجميع هذه الفروع الأمنية صلاحية اعتقال المواطنين والتحقيق معهم وزجهم في معتقلاتها السرية أو أقبية مبانيها التي تضم عشرات آلاف المعتقلين، وقد قضى الآلاف منهم نتيجة التعذيب الوحشي.
ومن مراكز الاعتقال الهامة لأجهزة النظام الأمنية مطار المزة العسكري الذي يعتبر بمثابة رئة النظام في دمشق وريفها، ويضمّ بداخله فرقاً أمنية واستخباراتية متعددة، منها الاستخبارات الجوية والدفاع الجوي وسرية المهام الخاصة التابعة للاستخبارات الجوية. كما تظهر معطيات عدة انتشار العديد من السجون السرية في مناطق سيطرة قوات النظام ومليشياته التي يزج بها المعتقلين السوريين ويقضون فيها أوقاتاً طويلة من دون محاكمة، فضلاً عن مقتل الكثير منهم تحت التعذيب.
وعلى الرغم من أن قضية المعتقلين تكاد تمس كل عائلة في سورية تحديداً في البيئات الحاضنة للثورة، إلا أنها لا تحظى حتى الآن بالاهتمام الذي تستحق. ومنذ انطلاقة الثورة لم يفرج النظام إلا عمن يريد من المعتقلين والذين جرى غالباً اعتقالهم بشكل عشوائي لمجرد وجودهم في المكان الخطأ أو لصلتهم بقرابة ما مع أحد المطلوبين لدى النظام أو تقديمهم مساعدة ما طبية أو غذائية لأحد المطلوبين أو نتيجة تقارير كيدية. وتكاد تغيب تقريبا قضية المعتقلين عن أجندة المفاوضات بين وفدي النظام والمعارضة، باستثناء أحاديث عامة في بعض جولات التفاوض لم تسفر عن إطلاق سراح معتقل واحد حتى الآن.
وخلال مفاوضات جنيف الأخيرة، التقى مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية ستيفان دي ميستورا، عددا من النساء السوريات من ذوي المعتقلين، في لفتة رمزية إلى محنة المعتقلين. ولفت دي ميستورا إلى أن الجولة المقبلة من مفاوضات أستانة سوف يخصص جزء منها لبحث هذه القضية بناء على اقتراح من جانب وفد النظام، الذي يطالب بالكشف عن مصير مفقودين ومعتقلين من طرفه لدى فصائل المعارضة.
كما تؤكد فصائل المعارضة بشكل دائم استعدادها للقيام بعمليات تبادل للأسرى والمحتجزين، لكن النظام لا يبدي أي تجاوب، ويظهر عدم اكتراث بجنوده وضباطه الأسرى، خلافاً للأسرى الايرانيين أو التابعين للمليشيات أو جثث الجنود الروس الذين، يسارع إلى مبادلتهم فور وقوعهم في الأسر.
وعادة ما تشترط المعارضة حضورها لأي جلسة تفاوضية مع النظام أن يقوم الأخير بلفتات انسانية تتعلق بإطلاق سراح معتقلين ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة، لكنه لم يستجب لذلك أبداً. ما يشير إلى مدى حرص النظام على عدم التفريط بهذه “الورقة”، بهدف الإمعان في تدمير مجتمع المعارضة وبث الرعب في صفوفه، وجعله في حالة هلع مستمرة. وتفيد المعطيات بأن خوف الناس من التعرض للاعتقال، ومع ما يعنيه ذلك من مخاطر على حياة المعتقل، وما يسببه من معاناة هائلة لذويه، هو أحد أسلحة النظام في ضبط المجتمع ومعاقبة ما يعتقد أنها الحواضن الشعبية لمعارضيه، على الرغم من أن كثيرا من حالات الاعتقال تتم بشكل عشوائي ولأشخاص لا علاقة لهم بأي نشاط مناهض للنظام.
وكانت مجموعة من المنظمات السورية المختصة بشؤون توثيق الانتهاكات والمساءلة والعدالة الانتقالية في سورية وجهت مذكرة إلى الأطراف السورية المتفاوضة، وإلى دي ميستورا وفريقه، والدول الراعية للعملية التفاوضية، تحدد سبل حل أزمة المعتقلين في سورية، طالبت فيها بضرورة السماح بدخول مراقبين مستقلين وفتح باب الزيارات بشكل فوري للمعتقلات، مشيرة الى أن أيا من القوى المتفاوضة، أو الأمم المتحدة، أو المجموعة الدولية لدعم سورية لم تمارس أي ضغوط جدية بخصوص ملف المعتقلين.
صدى الشام