الزبداني.. تفاصيل حياة داخل “السجن الكبير”


لست بحاجة إلى سيارة أو أية وسيلة نقل للتجول داخل الجيب الصغير الذي يسيطر عليه الثوار في مدينة الزبداني بريف دمشق.

1 كم مربع هي كامل المساحة وسط المدينة حيث يعيش قلة قليلة من المقاتلين وبعض النشطاء المدنيين حياة أشبه بحياة الاعتقال لكن بشكل غير رسمي.

يحاول 500 شخص عالقون في المدينة التأقلم مع ظروف خاصة بكل ما للكلمة من معنى، أساليب جديدة في التواصل، والتعود على ألوان محددة من الأطعمة، الحياة التي نجهل تفاصيلها والتي تبدأ يومياً مع إشراقة شمس الصباح حتى غروبها وحلول الليل.

قد يشكل الباقون في الزبداني مادة لخبر عابر هنا أو هناك أو محوراً للتغطيات الإعلامية وفق الموجة السائدة، لكن وسواء كانت أخبارهم علامة على الصمود أو على لا إنسانية النظام فإن قلةً قليلة بالمحصلة من تكترث لحيثيات ويوميات المحاصرين وشجونهم، هناك حيث المكان يكاد يكون أشبه بسجن كبير لمن في داخله مهما اختلفت صفاتهم وأدوارهم.

 

معركة على أسوار الزبداني

في شهر تموز 2015 قاد النظام مستعيناً بميليشيا حزب الله اللبناني هجوماً عنيفاً على مدينة الزبداني كان الهدف منه هو تحقيق انتصار سريع يمحو الآثار السلبية خصوصاً على الصعيد المعنوي لسقوط إدلب في يد المعارضة.

جرت معارك عنيفة و شرسة على أسوار المدينة، وطال أمد المعارك نتيجة استبسال مقاتلي الزبداني ووقوفهم في وجه مقاتلي حزب الله الذي سقط له قرابة 150 قتيلاً، بالإضافة للقتلى من عناصر قوات النظام.

بعد ثلاثة أشهر وتحديداً في 20 أيلول توصل ثوار المدينة مع الطرف الآخر إلى اتفاقية تربط بين الزبداني ومضايا بمصير مشترك مع قريتين في شمالي البلاد سكانهما مرتبطون بشكل شبه كامل بإيران هما كفريا والفوعة.

ومنذ تلك الفترة حوصر مقاتلون من أبناء الزبداني في بقعة صغيرة وسط المدينة وتحيط بهم عشرات النقاط العسكرية من كافة الاتجاهات.

 

آخر رواء” !

شارك الشاب “فراس” في معارك الزبداني ليُحاصَر مع رفاق السلاح نتيجة لتمدد قوات النظام والحزب في معظم أراضي المنطقة، ويعيش “فراس” كبقية زملائه من المقاتلين -الذين يرابطون على نقاط داخلية تحاذي الأخرى الخارجية لقوات النظام- حياة عسكرية بعيداً عن مقومات الحياة الطبيعية، لكن وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي يمر بها المحاصرون فإن “الجو آخر رواء” على حد تعبير “فراس”.

شاب آخر ينشط في مجال الإعلام داخل الزبداني ويدعى “أبو رائد” تحدث عن شعور مماثل، حيث يعتبر السجن الذي يعيش فيه حسب وصفه مدرسةً صغيرة على شكل معتقل، ربما كانت سعادة “أبو رائد” بسبب تفكيره المتواصل بهذه المدرسة التي “تصقل الإنسان و تربّيه و تهيئُهُ لفعل الخير” على حد قوله.

من جانبه لا يخفي “عامر برهان” شعوره بالفخر الكبير نتيجة عمله الحالي والسابق كمسعف للجرحى الذين يسقطون كأوراق الخريف على أرض الزبداني نتيجة القصف والقنص المتواصل.

يقول عامر: “أشعر أنني أؤدي عملاً غاية في الأهمية.. هذا ما يخفف عني الضيق النفسي الذي أعاني منه هنا”.

يعمل عامر برهان رئيساً للهيئة الطبية في مدينة الزبداني، وهو يقول عن نفسه أنه كان أول مسعف في تاريخ الثورة السورية منذ بداية الثورة في 2011 “كنت أسعف الجرحى بسيارتي الخاصة قبل إنشاء الدفاع المدني بفترة طويلة”.

 

 

بكاء على الأطلال

تفيد المعلومات المتوفرة بأن المساحة القليلة التي يسيطر عليها الثوار مدمّرة بالكامل عدا بعض البيوت والملاجئ التي بقيت سالمة، وتبلغ نسبة الدمار قرابة 85 بالمائة بسبب مئات البراميل المتفجرة والقذائف و الصواريخ التي انهالت على المدينة خلال المعارك وما تزال.

“كيفما تجولنا في المدينة نشعر بالحرقة لأن البلد تهدمت، لا يوجد حائط يستند على آخر، الذكريات كلها أبيدت .. لا يوجد مسجد ولا مدرسة ولا مئذنة قائمة أبداً” يقول عامر برهان.

بين هذه الكمية الهائلة من الركام تمكن المحاصرون من العثور على بيوت مقبولة و ملاجئ تحت الأرض للاختباء في حال بدأ القصف.

ويضيف “عامر برهان” أن الطابق الموجود فوق الشقة التي يسكنها مهدم وبلا سقف، و منذ فترة ليست بالقصيرة يداوم الرجل على الوقوف على سطح إحدى البنايات ليرى منزله المحتل المليء بالدشم والسواتر، حينها يحترق قلبه وفقاً لتعبيره: “غصة كبيرة أشعر بها عندما أرى البيت الذي بنيته بعرق جبيني محتلاً من قبل عناصر الجيش ولا يمكنني عمل أي شيء حيال ذلك”.

 

 

مصدر وحيد للطعام

منذ توقيع اتفاقية المدن الأربعة تدخل قوافل المساعدات المقدمة من الأمم المتحدة إلى الزبداني لكن على فترات متباعدة جداً، و تعتبر هذه القوافل المصدر الوحيد لـ 500 محاصر داخل المنطقة، ويطهو المحاصرون طعامهم المؤلف من الرز والعدس والبرغل والزيت النباتي على الحطب. يقول “أبو رائد” إنهم يستعملون الحطب الناتج عن دمار المنازل، مؤكداً أنه قليل ولكنه المصدر الوحيد للحصول على النار للطبخ والتدفئة خلال الشتاء.

“نستيقظ على بصيص أمل جديد ربما ينقذنا، نستعجل دائماً في تجهيز طعام الإفطار وتأمين احتياجاتنا خوفاً من القصف، الفطور يكون سريعاً لأنه في حال حدث قصف من مدفعية النظام نسرع للاختباء داخل الملاجئ، حتى اللقمة لا نهنأ بتناولها كباقي الناس، كلما زرعنا بعض البقوليات والخضراوات للحصول على شيء من احتياجاتنا للأكل التقطتها طائرة الاستطلاع لتقصفها بجرات الغاز أو البراميل المتفجرة وليباد مصدر طعامنا الوحيد” بهذه الكلمات لخّص عامر برهان معاناتهم اليومية للحصول على الطعام.

وبالنسبة لـ “فراس” الذي بدا راضياً عن حياته التي قُدرت له، فقد لفتَ إلى عدم الاكتفاء من المواد الغذائية التي تدخلها الأمم المتحدة والتي لا تكفي سوى لشهر واحد وهي لا تصلهم إلا كل عدة أشهر، و يقول مشيراً إلى حجم المعاناة التي يعيشونها في حال تأخرت القوافل “نستعيض عنها بالتهام الحشائش وأوراق الشجر والبقوليات”.

أما عامر برهان فهو يشرح حالته النفسية عشية دخول المواد الإغاثية “أكثر يوم تسوء حالتي فيه هو يوم إدخال المساعدات الأممية، لماذا؟ لأننا بشر لدينا كرامة.. نحنا “شبعانين” في بيوت أهالينا.. أشعر بالقهر في الحقيقة”، ويختم برهان وهو يحاول إمساك نفسه عن البكاء “نحن لسنا شحاذين”.

 

فراغ قاتل

يعيش المحاصرون في الزبداني عاطلين عن العمل فعلياً، لكن المقاتلين يرابطون على جبهات القتال الهادئة منذ أشهر طويلة بينما يتسلى غير المقاتلين بزراعات صغيرة ترفدهم ببعض الخضراوات الطازجة وتقتل ساعات من وقتهم الرتيب.

“بنطبخ عالحطب وبنزور بعض وبنسهر وبنضحك وكل شي.. بس نحنا بسجن” يقول “أبو رائد” مشيراً إلى حالة الفراغ التي لا تفارق الجميع.

بالنسبة لـ “برهان” فهو يلخص معاناته بقوله “ما يقتلنا أننا نعيش في فراغ كامل، لا يوجد شيء نعمله هنا سوى التسلي بزرع مساحات صغيرة جداً، نهاري أقضيه في الزيارات أذهب إلى بيت صديقي الذي يردّ لي الزيارة وهكذا، الحياة صعبة جداً جداً.. لا أستطيع وصف ما نحن فيه داخل البقعة التي نتواجد عليها، أتحدث إليك وحالتي النفسية متعبة جداً، الحالة النفسية للموجودين داخل المنطقة صفر، نحن ننتظر الموت بأية لحظة”.

“أبو رائد” تحدث عن الحالة التي تساوره كل فترة بين اليأس والأمل قائلاً “إذا بدي اعتبر حالي بسجن بدي موت طقيق لذلك أنا بعتبره رحمة إلنا، أحياناً بضوج لكن برجع للأمل وحسن الظن بالله فبتتلاشى أسوار السجن، شو عم يصبرني ؟ أنو الله ما بضيعنا، وحبي لهذه الأرض”.

 

وجاء الليل

عندما يأتي الليل يبادر المحاصرون إلى تشغيل مولدات الكهرباء لمدة ساعتين وذلك لشحن المدخرات التي يستخدمونها في شحن الهواتف النقالة وللإضاءة، خلال الساعتين يستمع معظم المحاصرين إلى الأخبار وبعد انقطاع الكهرباء يأتي دور الإنترنت عبر الهاتف المحمول حيث يتواصل الجميع مع أهاليهم باستخدام هذه الوسيلة الوحيدة.

بعض المحاصرين يتحدث إلى زوجته وأولاده المحاصرين في بلدة مضايا القريبة، بينما يهاتف آخرون أقاربهم في بلدان ومناطق أخرى فلا يوجد في الزبداني أي طفل او امرأة أو حتى رجل مسن.

 

 

المستقبل؟

يتمنى كل من برهان و فراس وأبو رائد سماع بشائر النصر وهم مرابطون في الزبداني، ومع أن الجميع اتفقوا على إمكانية حصول سيناريو داريا وغيرها من تهجير نحو الشمال السوري إلا أنهم أبدوا عدم الارتياح حيال هذه الخطوة في حال حصولها، “نتمنى أن نبقى صامدين في الزبداني وأن يأتي النصر ونحن ما نزال مرابطين على جبهاتها محافظين على مواقعنا لكن في الواقع يوجد ضمن اتفاقية المدن الأربعة بند لتهجيرنا إلى إدلب. أتصور أنه في حال فك الحصار عن كفريا والفوعة سيكون مصيرنا التهجير إلى الشمال كباقي المدن التي سبقتنا” هكذا يقول عامر برهان، ويتابع “رغم كل الحصار والمآسي التي نعيشها نتمنى أن نبقى هنا لأن الوطن أغلى مما نتصور”.

أما أبو رائد فيؤكد “حبي لهذه الأرض لا يجعلني أتصور أنني سأخرج منها أو أنني سأتركها، ولكن الخيرة فيما اختاره الله”، و يختم بالقول “احتمال الخروج وارد كتير”.

 



صدى الشام