معارك دمشق تقلب الطاولة على “الأسد” وتعيده للمربع الأول


على مدار سنوات الثورة الست الماضية دأب نظام “الأسد” وحلفاؤه على العمل ميدانياً وإعلامياً للقول إن العاصمة آمنة وإن “عرين الأسد” محمي.

ميدانياً اندفعت كل ميليشيات القتل الأسدية والمرتزقة بمحاولة لوأد الحراك المسلح للمعارضة في محيط دمشق بدءاً من الغوطة الغربية في داريا وخان الشيح بالتحديد وصولاً للمعضمية وامتداداً لشمالي دمشق في الهامة والتل وقدسيا ووادي بردى. الحصار الذي استطاعت أن تقوم به تلك الميليشيات والقصف الجوي والمدفعي وتخاذل المجتمع الدولي عن تلك الجرائم ساهم بشكل كبير بدفع الفصائل والأهالي في معظم تلك المناطق إلى توقيع هدن الموت أو “المصالحات” كما يحب أن يرويها لنا “النظام” والتي سرعان ما كان ينقضها عندما تتوفر لديه القدرة على اجتياح تلك المناطق أو تشديد الحصار ومنع مقومات الحياة عنها، ومن ثم السعي لإجبار الفصائل مع ذويهم على نهج أحد خيارين: إما الخروج بالحافلات الخضراء إلى إدلب وممارسة التهجير القسري والتغيير الديموغرافي للسكان كما تطالب “إيران”، أو ترتيب أوضاعهم الأمنية مع أجهزة النظام ومنهم من أُجبر على العمل مع النظام وميليشياته.

تلك الإجراءات استطاع من خلالها نظام الأسد استعادة الغوطة الغربية ومعظم الريف الشمالي للعاصمة دمشق مع وادي بردى، وبقيت الجبهة الشمالية والشمالية الشرقية للعاصمة خنجراً مؤلماً في خاصرة “النظام”، تلك الجبهة المتمثلة بمدخل دمشق الشمالي في حي “جوبر” وأحياء “تشرين” و”القابون” و”برزة” إضافة إلى “الغوطة الشرقية”.

نظام “الأسد” وبعد استعادته للتوازن العسكري نوعاً ما في محيط العاصمة “دمشق” وريفها بعد التدخل “الروسي” أراد استكمال خطواته في قلب العاصمة من خلال السيطرة على أحياء برزة وتشرين والقابون والعمل على نقض الاتفاق الموقع مع تلك المناطق منذ حوالي ثلاثة أسابيع، وحاول دفعها للاستسلام أو التهجير كما يحصل الآن في حي “الوعر” الحمصي لكن الرد القاسي والمفاجئ الذي أبدته فصائل الثورة في تلك الأحياء وتكبيده الكثير من الخسائر البشرية والعسكرية أذهلت النظام ودفعته لوقف الهجوم نوعاً ما.

فصائل الثورة كانت على قناعة مطلقة أن هذا النظام وكل داعميه العراقيين والإيرانيين وحتى الروس لا يؤمنون ولو للحظة واحدة بخيار الحل السياسي، وأن الحل العسكري هو فقط ما يتواجد على كل طاولات مسؤولي تلك الميليشيات، وأن التظاهر بالتجاوب مع الحلول السياسية المطروحة في اجتماعات “أستانا” أو “جنيف” متعددة الأرقام هي عبارة عن خدع تكتيكية تمارسها قيادة “النظام”، وأن ما يسمى “وقف إطلاق النار” الذي ادعته روسيا وإيران والذي بقي حبراً على ورق ولم يجد طريقاً للتنفيذ بعد إصرار النظام وحلفائه على خرق هذا الاتفاق بكل ما يملكون من قدرات عسكرية ولوجيستية.

انطلاقاً من تلك القناعات كانت التحضيرات منذ ثلاثة أشهر لفتح ثلاث معارك بوقت واحد رداً على إسقاط المجتمع الدولي لمدينة حلب، وحددت ساعة الصفر منذ حوالي أسبوعين لإحدى تلك المعارك في مدخل دمشق الشمالي لكنها أُحبطت بعد تسرب تفاصيل العملية لغرف عمليات “الأسد”، قيل حينها إن ذلك تم عبر أحد الألوية التابعة للمعارضة والمرتبط باتفاق مصالحة وهدنة مع ميليشيات النظام لكنه نفى ذلك.

كما أحبطت معركة أخرى بعد معارك اضطر إليها الثوار ضد عصابة “جند الأقصى” في ريف إدلب وريف حماه.

 

صبيحة يوم “الأحد” ومع ذكرى بداية العام السابع لثورة الشعب السوري الحر فجرت كل فصائل الثورة السورية العاملة في الغوطة الشرقية وفي أحياء “جوبر” و”القابون” و”برزة” و”تشرين” وبدون استثناء الجبهات، وتقدمت بعد عمليتين استشهاديتين لتهز نقاط تمركز ميليشيات النظام وحلفائه العراقيين والإيرانيين ومن حزب الله ولتشتت تراتيب قتالهم وتدبّ الذعر والفوضى في صفوفهم، وليدخل بعدها بعض الانغماسيين ويوقعون أعداداً كبيرة من القتلى والإصابات والجرحى في صفوف تلك الميليشيات، ومن ثم تقدمت عناصر الاقتحام لبقية الفصائل الثورية لتسيطر على ست نقاط عسكرية مهمة كانت تسيطر عليها ميليشيات الأسد وحلفاؤها ما دفع بالطيران الأسدي للتدخل وبمحاولة يائسة لتثبيت الخطوط الدفاعية المنهارة، لكن معظم تلك الهجمات الجوية طالت مواقعه ومواقع حلفائه مما يؤكد حالة الفوضى والضياع التي حلت بقيادة وغرف عمليات وعناصر النظام، وهذا أيضاً ما دفع بـ”بوتين” إلى الزج بطائراته وقصف قلب العاصمة دمشق في محاولة لإنقاذ حليفه الأسد، ومنع الفصائل من التقدم في الأحياء الداخلية للعاصمة.

 

ولكي لا نعطي صورة غير واقعية لما حصل في تلك المعارك ولكي لا نعطي أحلاماً وردية ووصفاً عاطفياً بعيداً عن الواقع علينا أن نعلم أن تلك المنطقة تعتبر من أخطر المناطق التي يخشاها النظام ومن أكثر المناطق التي تحتوي قلاعاً عسكرية تتموضع فيها جل القدرات العسكرية لميليشيات الأسد وهي: الأكاديمية العسكرية العليا، قيادة الشرطة العسكرية، قيادة الوحدات الخاصة، مقر التجسس الروسي، مدرسة الشرطة، نادي ضباط الشرطة، فرع المخابرات الجوية في حرستا، رحبة المرسيدس، حامية كراجات العباسيين، القلعة العسكرية في ملعب العباسيين.

ويضاف إلى كل ما سبق قدرة حلفاء الأسد على الزج بقواتها المتواجدة في موقعين هما المقر “الزجاجي” الإيراني قرب مطار دمشق الدولي والقريب من السيدة زينب، ومقر “الشيباني” على الأوتوستراد الدولي بين دمشق وبيروت والذي تحتله قيادات حزب الله وحركة النجباء العراقية وبعض الإيرانيين.

المعارك التي قادها الثوار في الشارع الواصل ما بين الكراجات الجديدة وعقدة القابون وكراجات القابون (كراجات الهوب هوب) واضح أنها أرادت إفشال خطة النظام بأمرين:

الأول: هو منع ميليشيات الأسد من الاستفراد بأحياء “القابون وبرزة وتشرين” عبر فصلهما عن الغوطة الشرقية من خلال السيطرة على بساتين “برزة”، وأيضاً منع فصل حي “برزة” عن حيي “تشرين والقابون”.

أما الأمر الثاني: فهو منع فصل الأحياء الثلاثة السابقة عن حي “جوبر” وفصل حي “جوبر” أيضاً عن الغوطة الشرقية، ووصلها وبالتالي فك الحصار عن تلك الأحياء وربط مصيرها بشكل كامل من خلال قرار جماعي وجبهة عسكرية واحدة.

بالعودة إلى أهداف ومآلات تلك العملية فمن باب التحليل العسكري يمكن القول إنها حتى الآن وبغض النظر عن تطوراتها الميدانية سواءً كانت إيجابية أم سلبية فإنها استطاعت دحض ادعاءات النظام حول استقرار الوضع الأمني والعسكري للنظام داخل العاصمة، وأثبتت أن الثوار قادرون على استعادة المبادرة وفرض واقع ميداني جديد، والأمر الأهم أن المفاوض الآن في اجتماعات “أستانا” أو”جنيف” عسكرياً كان أم سياسياً أصبحت لديه ورقة قوة ميدانية فاعلة وورقة عسكرية ضاغطة، وأكدت أن هذا المفاوض ليس ضعيفاً وأنه غير مجبر على القبول بالفتات من الحلول السياسية التي يحاول المجتمع الدولي ونظام “الأسد” من تقديمها لوفود الثورة المفاوضة، إن كان عبر طرح ما يُسمى “حكومة وحدة وطنية” يقودها “الاسد” أو عبر الطرح الروسي بتشكيل ما يُسمى “المجلس العسكري المشترك” بين فصائل الثورة وميليشيات “النظام” تحت راية “الأسد” أيضاً للحرب على الإرهاب.

 

 

التطورات الميدانية العسكرية والنقاط العسكرية التي تمت السيطرة عليها والمناطق المحررة حافظ على سريتها الثوار حتى ساعة إعداد هذا المقال (مساء الأحد)، ولهم الحق بذلك كي لا يمنحوا طيران الأسد وغرف عملياته إمكانية تحديد مواقع الثوار ونقاط تحصنياتهم خصوصاً بعد حالة الفوضى والبلبلة التي وقعت بها ميليشياته، و حتى الآن لا نستطيع تحديد التطورات المستقبلية للمعركة القائمة أو القدرة على الثبات والمتابعة نظراً لعدم قدرتنا على تحديد ما يمكن أن يزج به النظام وحلفاؤه في تلك المعارك، وما يمكن أن يحدث من ضغوط دولية على فصائل المعارضة لوقف العمليات العسكرية في العاصمة كما اعتدنا عليها خلال سنوات الثورة في محاولة لترك تفاصيل مصير دمشق لما يمكن أن ينتج من حلول سياسية بعيداً عن أي حل عسكري.

لكن عندما يقوم النظام بإغلاق عدة شوارع في قلب العاصمة، ويمنع التجول في أماكن أخرى منها، ويقطع الكهرباء والإنترنت والاتصالات عن دمشق، وينشر دبابات وعناصر الفرقة الرابعة “حرس جمهوري” والتي يقودها العميد “ماهر الأسد” شقيق رئيس النظام فهذا يعني أن العطب وصل لمفاصل حساسة في جسد هذا النظام المهترئ، وأنه أصبح يستشعر أنه بخطر كبير، وأن القوة الوهمية التي يدعيها تكشفت خصوصاً بعد دعوات محمومة من جهات عربية محسوبة على النظام حاولت القول إن الأسد حسم المعركة في سوريا وأنه يجب دعوته للقمة العربية التي ستقام في عمان “الأردن” نهاية الشهر الحالي.

 

 

المعركة انطلقت، أين تتوقف، أين تصل، ما هي ارتداداتها العسكرية، وما هي انعكاساتها السياسية؟ بالتأكيد لا يمكن الإجابة عن كل تلك الأسئلة الآن، ولا يمكن التنبؤ بها، لكن ما يمكن معرفته وقوله إن تلك المعركة غيّرت وقلبت بعض ما كان يعتقده النظام من أنه سيطر على العاصمة، وإن الاستقرار القسري والإجرامي الذي تمارسه ميليشياته قد أمّن له استمرار السيطرة، لكن الوقائع الآن تقول غير ذلك، وتؤكد أن جذوة الثورة لم تنطفئ ولن تتوقف، وأن دماء الثورة قادرة على التجدد وقادرة بمقاتليها على تغيير التكتيكات وأساليب القتال وبما يتناسب مع تطورات الموقف القتالي.

دمشق عاصمة الأمويين ستبقى لأهلها، ستبقى أموية، وستبقى عربية.



صدى الشام