سارين..


في صندوق تحت الأرض بطابقين أو ثلاثة، وبمساحة لا تتجاوز المتر ونصف في كل الإتجاهات، ولدت طفلتي التي حملت اسم المجزرة..

الثقوب الخمسة أعلى الباب المعدني التي يدخل منها الهواء الرطب الثقيل لم تكن تكفي لأخيط لها من الضوء الخافت جدً صدرية مدرسية

أسندت رأسي إلى الجدار الإسمنتي الأيسر ذي النتوءات البارزة، وكأنما من صمم المنفردات هذه تعمّد أن يترك للسجين موتاً مترفاً، بأن يطرق رأسه بقوة ليسيل الدم حاراً، تطغى رائحته اللذيذة على روائح مياه الصرف الصحي التي يضخونها في المنفردة.

امتلأ وجهي… بالدم تذوقته بسبابة متخشبة مثل ريشة الرسم، ثم شرعت أرسم به وسط العتمة المطبقة أولى ملامح طفلتي… بدأت بفمها كي تبدأ الضحك مسرعاً..كانت ضحكتها هي العزاء الوحيد لي طيلة الأشهر الأربعة التالية، ثم رسمت ضفيرتين شقراوين حتى لا توصد  نافذة بوجه الشمس..فجأة تيقّظت حواسي، ودبّت الحياة في أطرافي الباردة، جلست القرفصاء كما لو أنني في محترفي أمارس طقوسي المعتادة بإنارة كاملة وموسيقا هادئة، والكثير من السجائر والنبيذ… لا شيء يقطع خلوتي..أكملت الرسم بالدماء التي بدأت تجفّ مسرعاً، فعدت ثانية لطرق رأسي الحليق بالجدار خلف ظهري، أغرف منه بالسبابة وأكمل الرسم حتى أصبحت الطفلة جاهزة للولادة..

ولكن كان عليّ أن أشتري لها سريراً وخزانة ثياب ومشطاً ومراًة وعلبة مكياج وبعض الرفوف لمكتبتها..يجب أن تولد لتصبح بعمر السادسة عشر، صبية حلوة تخزن حكايا والدها عن السجن الرهيب قبل أن يموت فيه وتموت معه الذاكرة والروايات الموجعة..غفوت

بعدما أصبت بالإجهاد والخدر ولكن مشبعاً بالعزيمة لأنجب هذه  الطفلة الحلم..

 

في الصباح التالي صحوت ثقيل الرأس مصاباً بصداع رهيب، أرتجف كما قط مذعور تحيط به كلاب جائعة، ثمة همس رقيق ينساب من الجدار “صباح الخير بابا..قهوتك جاهزة” وقبل أن أرتشف منه شيئاً باغتنا ركلٌ على الباب..الركل المعتاد والمصحوب بالشتائم، وضعت يدي على فمها مسرعاً “بابا لا تقولي شي لحتى يروح”، ومن أسفل الباب حيث فتحة صغيرة يتحكم بها السجان من الخارج، مدّ صحن الإفطار، وهو عبارة عن نصف بيضة مسلوقة  وكسرة خبز في أحسن الأحوال تكون يابسة، حيث لدي من الوقت دقيقة واحدة فقط لتناول الوجبة، بعدها يفتح السجان الباب ليسلط ضوء الكشاف في المنفردة، فإن وجد بقايا مخبأة أو غير متناولة، يشدني من رجلي إلى الخارج معصوب العينين مقيداً من الخلف، وينهال عليّ بأكثر من مئة جلدة، بشيء لا أعرف ماهيّته، ولكنه حين يرتطم على ظهري يحدث صوتاً مثل قرع عشوائي على طبل، ليقتلع معه بعضاً من جلدي والكثير من صراخي..وقد حدث هذا مرتين بعد ولادة ابنتي  بأسابيع عدة

…أنهيت الوجبة مسرعاً وعدت إلى إبنتي وقهوتها..نظرت إليها للمرة الأولى..كانت تشبه صوفي مارسو، ولكن بعينين  دمشقيتين، وتحدثنا كثيراً حتى باغتنا مجدداً هذا الركل المزعج….يااااااه لقد حان موعد وجبة العشاء، ثلاثة كتل صغيرة من الأرز أو البرغل المتحجر مع كسرة الخبز وكأس ماء، وهذه المرة أنهيت الوجبة بأسرع من المعتاد حتى أعود إلى إبنتي لنكمل أحاديثنا التي بدأتها بسيرتي الشخصية التي لم تعرفها منذ ولادتي وحتى ولادتها..إتفقنا أن أحكي لها كل يوم حكاية حتى تنام، لم أكن بارعاً مثل الجدات في تلاوة الحكايا، لذلك رحت أحدثها عن دمشق الأنثى التي سرق الوحش ثيابها وجعلها عارية حتى أصبحت وحشاً مثله، تنهش أحلام الناس وتغتالهم لمجرد أنهم زرعوا شتلة في السر أو كتبوا رسالة إلى القمر..

 

عاد الركل مجدداً، ولكنه هذه المرة لطقس الاستحمام الأسبوعي، والذي هو عبارة عن رشقتين بماء بارد في الصدر وفي الظهر، وما أن أدرت ظهري للسجان معصوباً ومقيداً حتى ثار جنونه، إذ رأى آثار الجراح في رأسي، وظن أنها محاولة إنتحار..حتى الإنتحار -وهو شبه مستحيل في المنفردة – يعدّ جرماً إذا تمّ بدون إذن السلطة، إذ توفر عليها فرصة التسلية والتشفي بقتل سجين جديد..عليك أن تموت على أيديهم بقرار منهم وتوقيت يختارونه هم لا أنت..وفي الاستجواب السريع لمعرفة سبب الجروح في رأسي، تكتّمت على كل شيء، وكان هذا سبباً إضافياً لينهال على جسدي 400  كبل مجاني، تخللها إغماءات لا أذكر عددها..وبعد هذه الحفلة العاصفة والدامية عدت إلى منفردتي، وما أن أسندت ظهري إلى الجدار حتى شعرت باًلاف الوخزات، كأنني أتدحرج في وادٍ من شوك..قامت إبنتي من سريرها لتضمد لي جراحي ،حاولت أن أحني ظهري ولم أستطع، لقد التصق لحمي بالجدار ومع ذلك أحنيته ببطئ، وكان صوت اللحم وهو يتقطع يثير فزعي… خفت أن تصاب إبنتي بالإغماء من هذا المشهد المفزع، ولكنها كانت أشجع مني على ما يبدو، إذا مررت يدها على ظهري وهي تشد من عزيمتي وتقول”لن يهزمنا هؤلاء يا أبي..لأننا أبناء البلد وهم شذّاذ”

مرت 103 يوماً في المنفردة..أخرجوني منها بالقوة وأنا أقاومهم كي أظلّ فيها..تعرضت مجدداً لتعذيب مجاني، ولم أستطع إخبارهم أن إبنتي هنا وأريد البقاء معها، كي أشهد حفل تخرجها وأدبك في عرسها حين أزوجها إلى شاب يحبّ سوريا أكثر منها، لطالما اًمنت بأنّ من يحب سوريا أكثر من أي شيء لن يكسر يوماً بقلب امرأة أو طفل أو عصفور..

عدت إلى الجناح وأنا كسير..صامت طوال الوقت.. أفكر بأن أحدث شغباً كي أعود إلى إبنتي..ولكن ربما يرمونني في منفردة أخرى، حيث لن يكون لي قدرة على إنجاب طفلة ثانية وأنا بعيد عن ابنتي الأولى..

بعد عام ونصف خرجت من السجن، وظل الكثير مني هناك، أتحيّن منذ العام 2006 أية معجزة لسقوط هذا النظام المجرم كي أتمكّن من زيارة ابنتي المعتقلة في ذلك الجدار الصغير..كانت إبنتي تدعى حينها “شام” ولكنها بعد عام 2013 حملت إسم مجزرة العصر “سارين”

حيث أخبرها كل يوم أن ترعى ضيوفها وتضمد جراحهم وتحكي لهم الكثير من الحكايات كي يصمدوا في وجه الجلاد الوضيع..

ولكن يبدو أنني تركت لها إرثاً ثقيلاً، إذ أحصت آلاف الأجساد الهزيلة التي تذهب إلى مصيرها المحتوم بالتصفية والإخفاء… يبدو أنها أصيبت بمرض ما غامض، فلم تعد ترسل لي الرسائل منذ تقرير أمنستي.



صدى الشام