” الخطابة” ظاهرة قديمة تحييها ظروف الحرب والهجرة


في منتصف القرن الماضي كانت القابلة القانونية أو ما يعرف بـ الداية، في كل حي، تقوم بما يشبه دور “الراعي الرسمي” لجميع حالات الخطوبة والزواج، فأية فتاةٍ كانت ترغب بالزواج، كانت تحاول إظهار جمالها أمام القابلة، والعكس صحيح بالنسبة للرجال الذين يلجؤون إليها أيضاً عند رغبتهم بالزواج، لذلك جرت العادة أن تكون هي الوسيط في جميع حالات الخطوبة وصولاً إلى عقد القران.

لكن وبعد التحولات الاجتماعية التي شهدها المجتمع السوري، بات بإمكان الشاب البحث بنفسه عن نصفه الآخر، والتعرّف عليها وربّما مصادقتها لفترة قبل أن يتم الزواج، غير أن هذا الوضع الذي يبدو اعتيادياً على مستوى العالم ككل شابَهُ انعطافة سوريّة عن سكة التغيير السائدة والتي تسير قدماً نحو الاستغناء عن الوساطة.

والحال أننا ومع الظروف غير الطبيعية التي مرت على سوريا في السنوات الست الماضية شهدنا عودة “الخطّابة” بحلّة جديدة فرضتها شروط الحرب والتباعد الاجتماعي وقلّة أعداد الشباب في سوريا، وهو ما أنعش عمل القابلة في ظل تفاقم أزمة “العنوسة”.

 

السفر

أم نبيل التي تعيش في العاصمة دمشق هي واحدة من نساء قلائل تفرّغن للعمل كميسّرة لأمور الخطبة بين السوريين والسوريات، لكنها لم تكن لتلجأ لهذا العمل لو أنها لم تفقد مصدر رزقها الأساسي.

تقول المرأة الخمسينية لـ “صدى الشام”: “إن تباعد المسافات وسفر عدد كبير من السوريين إلى خارج البلاد كان أحد أبرز الأسباب التي دفعتها للعمل في هذه المهنة”، غير أنها ترفض أن تسمّي هذا الأمر عملاً أو مهنة قائلةً: “إن هذه التسمية تجعل الناس يظنّون أنني سمسارة وأنا لست كذلك، وكل ما في الأمر أنني تطوّعت لتسهيل عمليات الخطوة مقابل إكرامية” حسب تعبيرها.

وقد تمّ على يده أم نبيل وبجهودها 21 حالة خطوبة منذ مطلع عام 2016 الماضي، تزوّج منهم 13 حالة وشهدت الحالات الـ 8 الباقية انفصالاً.

وتوضحّ أنه بات من الصعب التواصل بين الكثير من السوريين، فمنهم من نزح ومنهم ولجأ خارج البلاد، إضافةً إلى أن استمرار عملية الزواج ضروريٌ جداً، وتتابع: “لديّ الكثير من المعارف في المجتمع النسائي السوري، ومن خلالهن أتمكّن من التوسط في عددٍ كبير من حالات الخطوبة والزواج”، لكنّها توضّح أنها لا تتدخّل بعد أن تتم الخطوبة، فهي تأخذ إكراميتها وتنسحب بعد أن تخلي مسؤوليتها من العريس والعروس.

 

 

هاجس العريس اللقطة

قبل أشهر أفادت مصادر قضائية في حكومة النظام بأن نسبة الإناث ارتفعت لتبلغ أكثر من 60% من المجتمع السوري، وهي نسبة لم تستند إلى إحصائيات، وإنما هي عبارة عن تقديراتٍ تقريبية، أما الأكثر دقّة فهو الإحصائية اليتيمة التي قامت بها إحدى الإذاعات الهولندية في عام 2014، والتي كشفت أن نسبة العنوسة في سوريا ارتفعت بنسبة 70% مقارنةً بنسبتها قبل اندلاع الثورة والحرب التي أشعلها النظام، لتحل في المرتبة الثانية بعد لبنان على المستوى العربي.

وعلى هذا الأساس توضّح أم نبيل أنه بات لدى الشابات السوريات “هاجس غير معلن لاقتناص العريس في زحمة الهجرة والسحب للخدمة العسكرية التي يواجهها الشباب السوريون حالياً” حسب قولها.

وتبيّن أنها تركّز بشكل كبير على عروض الزواج من الشباب الذين لديهم مقدرة مادية كافية وجاهزية للزواج، وتحاول أن تجمعهم مع العرائس المناسبات ليتم الزواج مضيفةً: “هذا أقل ما يُمكن أن نفعله حالياً وإلّا فإن مجتمعنا سيواجه تفكّكاً كبيراً”.

 

“خطّابة” إلكترونية!

لم يكن انتشار الخطابات في الواقع وحسب، وإنما في العالم الافتراضي على صفحات الإنترنت أيضاً ولا سيما موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، وتتعرض هذه الظاهرة لانتقادات كونها لا تتيح التعارف بين الزوجين بما يؤسس لحياتهما المشتركة لاحقاً، خصوصاً وأنه يشاع حدوث حالات غش وخداع بالإضافة إلى أنها تلغي مراحل وخطوات ضرورية في طريق الزواج سواء كانت تتم من خلال الأسرة أو بدونها.

ويركز الباحثون الاجتماعيون عموماً على أن خطورة هذا النوع من الزواج تتمثل في قصر مدة المعرفة، وعدم التلاقي إلا من خلال شاشات الحواسيب وخاصة إذا كانت الزوجة ليست من نفس البلد، ما يعزز فرص حدوث خيبة أمل من أحد الطرفين تجاه الآخر في لقائهما الفعلي الأول ذلك أن نتائج ومآلات هذا النوع من الزواج تتوقف أولاً وأخيراً على مدى التطابق بين الافتراضي والواقعي.

وإن كانت الظاهرة تعتبر وليدة الظروف المستجدة بالنسبة للسوريين بشكل عام لكنها على المستوى العربي برزت في أوساط عدة سابقاً، خصوصاً في المجتمعات التي تمنع الاختلاط بين الرجل والمرأة.

لكن على المستوى السوري راحت تتسع دائرة عمل خطّابات “فيسبوك” تدريجياً مستفيداتٍ من وضع غير عادي يعيشه من تشتتوا في بلدان مترامية وأصبحت خيارات الارتباط بالنسبة لهم معقدة وتصطدم بتناقضات لا تنتهي، وبناء على ذلك صرنا نشاهد انتشار أسماء من قبيل “أم أحمد – خطابة للسوريين في تركيا” و”خطابة للسوريين في ألمانيا”.
ومع أن هذه الصفحات لم تسلم من التعليقات الساخرة على هذا الأسلوب المبتذل من الوساطة إلا انها حقّقت الكثير من المتابعة بين السوريين، وبالتالي فإن استمرار هذه الصفحات بتقديم عروض لمواصفات شابات وشباب ساعين للزواج يؤكّد بما لا يدع مجالاً للشك أن ثمّ إقبالًا على الزواج عن طريق هذه الصفحات، وإن كان التعليق والمحتوى المعلن على المنشورات لا يدل نهائياً إلّا على حالة السخرية فقط.

ولعلَّ من أبرز ما ساعد في انتشار هذه الصفحات هو أن فيسبوك يسهّل الوصول بين السوريين المنتشرين في معظم أصقاع الأرض، بين لاجئين ومقيمين على حدٍ سواء.

بين الرفض والقبول

بعيداً عن شيوع الحالة الافتراضية في عمل “الخطّابة” مؤخراً فإنه لا يمكن أن ننكر دورها وانتشارها في المجتمع السوري وإنْ بدرجات مختلفة بين منطقة وأخرى. واليوم تلاقي هذه الطريقة قبولاً من جانب بعضهم، ولا سيما من الأشخاص الذين لا يركّزون على ضرورة وجود علاقة حب قبل الزواج، حتى لو كان ذلك عبر فيسبوك، من وجهة نظرهم.

ويقول أنس، وهو شاب من مدينة حلب لـ “صدى الشام”: “سواء وجدت هذه الخطابة أم لم توجد، فأنا بكل الأحوال سأقوم بخطبة أية فتاة ترى والدتي أنها مناسبة، ولذلك فإنني لا أجد مانعاً في الزواج عن طريق خطّابة طالما أن الفتاة محقّقة للمعايير التي أتخيلها لإكمال حياتي معها”، لكنه يشدّد على أنه في بعض الأحيان فإن الخطّابة تسعى لكسب المزيد من الأموال وبالتالي تقوم بتوريط الشاب أو الفتاة بالشريك غير المناسب لذلك فمن الضروري أن تكون للشخص نظرته الخاصة في حال أقدم على الزواج بهذا الأسلوب.

أما رهام، وهي طالبة جامعة بدمشق، فترى أن نسبة كبيرة من الأشخاص الذين يهزؤون من صفحة الخطّابات على مواقع التواصل الاجتماعي ربّما يلجؤون لها في السر، مضيفةً: “هناك عشرات آلاف الشباب السوريين في الدول الأوروبية الذين يبحثون عن شريكة لحياتهم، والتي غالباً لا يصادفونها خلال عيشهم هناك، وبالتالي فإن الحل الأبرز يكون باللجوء إلى الخطّابات”، وتعتبر رهام أنها “فكرة لا بأس بها”، موضحةً أنها هي شخصياً من النوع الذي يحب المغامرة وخوض علاقة مع شخص تكتشفه بدلاً من أن تكون على معرفة به مسبقاً.

 

لكن ليندا 24 عاماً ترى المسألة من زاوية أخرى تتعلق بالمخاطر والمحاذير التي ينبغي الأخذ بها تداركاً لأية ورطة لاحقة، و تقول لـ “صدى الشام”: “ماذا لو كان الشخص الذي عرض استعداده للزواج عبر الخطّابة سيئاً ولا يُمكن العيش معه”، مضيفةً أن النتيجة ستكون حتماً وخيمة، وتوضح أنه مهما كانت ظروف السوريين صعبةً فإنها لن تصل إلى درجة اللجوء إلى خطّابة لتؤمّن لهم شريك حياتهم.

وتتابع: “لا يعني كلامي أنني أشترط أن تأتي حالة الزواج نتيجة لسنوات من الحب لكن من الممكن البحث عن شريك الحياة عن طريق أناس تعرفهم وليس خطّابة تسعى إلى كسب المال”.

“لا يُمكن أن تغامر بالزواج عبر هذه الطريقة” بهذه الكلمات يعبر شابٌ آخر يعيش في العاصمة دمشق عن وجهة نظره تجاه هذه المسألة الشائكة، ويضيف أنه من الممكن شراء الألبسة من الوسطاء أو استئجار منزل أو شراء هاتف محمول وغيرها من الأشياء، لكن الأمر عندما يصل للزواج فمن المؤكّد أنه لا يُمكن المغامرة به بتاتاً، مُرجعاً السبب إلى أن الزواج هو حياة كاملة ستعيشها طويلاً مع شخص ولا يمكن المخاطرة بها.



صدى الشام