Written by
MICRO SYRIA ميكروسيريا
on
on
العيش مع الإعاقة.. الرغبة بالحياة
بقلم سونيا العلي.
(ريف إدلب)، يجلس الطفل محمد الخديجة (9 سنوات) من قرية البرج بريف معر ة النعمان الشرقي على كرسيه المتحرّك أمام باب منزله ليراقب أقرانه وهم يمرحون ويتنقلون من مكان لآخر. لقد كان محمد فيما مضى مثلهم يملأ الأرض حركة ولعباً حتى أصابته شظية غادرة جرّاء قصف طائرات النظام، فاستوطنت عموده الفقري وأعاقت حركته وأعجزته عجزاً تاماً . الطفل محمد ليس وحيداً في هذه المعاناة، إذ تزداد أعداد الجرحى والمصابين يوماً بعد يوم في سوريا نتيجة تصاعد أعمال العنف واشتداد المعارك، ولا تزال الحرب تلقي بآثارها السلبية عليهم ويحاول المصابون عبثاً مسابقة الزمن للتخفيف من آثار الإعاقة القاسية . تفاقم المعاناة الطبية والنفسية لمصابي الحرب والد الطفل محمد (46عاماً) الذي يعمل مزارعاً، يتحدث عن معاناة ولده بقوله: “العلاج الطبيعي أو الفيزيائي قد يسهم بحلّ الجزء الأكبر من مشكلة ولدي بحسب طبيبه، ولكن ارتفاع تكاليف علاجه وعدم وجود هيئات تتكفل بنفقاته حال دون مقدرته على المشي حتى الآن، إضافة إلى ندرة مراكز المعالجة وبعدها عن قريتنا الصغير ة النائية (البرج) حتى مدارس القرية رفضت استقبال ولدي لأنها غير مهيأة لذوي الإعاقة”. الطبيب مازن الشيخ (41عاماً، أخصائي عظمية) من معرة النعمان، يتحدث عن المعاناة الطبية للجرحى، قائلاً: “مع تردّي أحوال القطاع الطبي في المناطق المحرّرة لا يجد المصابون الأدوية الضرورية واللازمة لهم، كما تعاني المراكز الطبية من النقص الحاد في الكوادر المتخصّصة والمستلزمات المتطوّرة مما يحرم بعض المصابين من الشفاء ويفاقم سوء حالهم، فهناك إصابات بسيطة تتأزم ويستحيل شفاؤها لعدم تلقي العلاج المناسب، وتنقسم هذه الإعاقات إلى بتر الأطراف والتشوّهات الخطرة والشلل وتعطل الوظائف الحيوية والإصابات الدماغية”. ويؤكد الطبيب أنّ عشرات المراكز الصحية تأسّست في الشمال السوري للتخفيف من معاناة المصابين وتقديم المعالجة الفيزيائية لهم، ولكن المشكلة تكمن في توقف المنظمات عن دعم هذه المراكز بعد انتهاء العقد المبرم. مثال ذلك، جمعية الشهداء في مدينة سرمين التي أسست عام 2015 مشروعاً لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة، كانت الأولوية فيه للمصابين بإعاقات حركية كونهم بحاجة لمستلزمات صحية، إذ كانت تمنح بطاقة نصف شهرية لكلّ مستفيد إلا أنّ عمل الجمعية توقف في أواخر عام 2016 بسبب انتهاء العقد. عادل الحلبي (21عاماً/ طالب في معهد البارة لإعداد المدرسين) من قرية حاس تعرّض لشظية صغيرة في رأسه انتهت به للعمى، قصد إحدى المشافي الميدانية في إدلب دون أن يتمكن الأطباء من استخراجها لعدم وجود أطباء مختصين في هذا المجال وأجهزة متطورة، لذلك اضطر للسفر إلى تركيا ليجد نفسه قد تأخر في العلاج، ولذلك لن يكون لديه أمل في الشفاء لرؤية نور الحياة من جديد ليعود عادل إلى سوريا، وتظل آلامه ومعاناته حبيسة جدران غرفته المظلمة، مع حلمه الذي يراوده كل يوم وهو أن تسير حياته بشكل طبيعي، ويعود مبصراً كما كان . لكن الأخطر من الإعاقة هو عدم تقبّل المصاب لمشكلته الجسدية التي ينتج عنها أمراض سوء التكيّف فهو مضطر للاعتماد على الآخرين، وهي أكبر صعوبة في حياته، تشعره بالنقص والقلق والاكتئاب وذلك سينعكس عليه سلوكياً من عدوانية وانطواء وبناء صورة سلبية عن نفسه . علياء العوض ( 27عاماً ) من قرية تلمنس في ريف إدلب فقدت قدميها نتيجة تعرّض المشفى الميداني الذي كانت تعمل ممرضة فيه للقصف من طيران النظام ما أدى إلى إصابتها بإعاقة دائمة، تتحدث لحكاية ما انحكت، عن معاناتها قائلة: “حياتي أصبحت مجموعة من العقبات والحرمان الحركي وتزداد الإحباطات التي تعبّر عن حالتي النفسية يوماً بعد يوم، فمن خلال تجربتي مع الإعاقة أشعر بأنّ حياتي أصبحت شبه منتهية لأنني أم مسؤولة عن رعاية أربعة أبناء لكنني لم أعد أستطيع أن أقدّم لهم ما تقدّمه الأم الطبيعية، كما أتألم لرؤية زوجي يتململ من وضعي ونظراته لي لم تعد حنونة كما كانت “. صعوبة تركيب الأطراف الصناعية للمصابين ماجد الحسن (34عاماً) من مدينة إدلب يعمل كفني أطراف صناعية، يتحدث قائلاً: “يجد المصابون صعوبة في الحصول على الأطراف الصناعية نتيجة الكلف المرتفعة التي تتراوح بين 500 – 1200 دولار أمريكي، أمّا الأنواع الجيدة منها كالأطراف الذكية فهي تكلف عادة 20-60 ألف دولار ما يجعلها حلماً بعيد المنال للكثيرين”. محمد (25عاماً) كان مقاتلاً في الجيش الحر، وهو أحد المبتورين من معرّة النعمان حصل على رجل اصطناعية بعد عناء ومحاولات وطول انتظار من إحدى الجمعيات الخيرية المحلية، لكنه لم يستطع التأقلم معها ليتفاجأ بعد فترة بأنّها ليست من النوعية الجيدة بل مصنوعة بأسلوب بدائي، فهو بالكاد يستطيع التحرّك بها دون أن يتمكن من المشي أو الوقوف بمفرده، لذلك ونتيجة لقلّة الخيارات المتاحة أمامه قرّر السفر بحثاً عن العلاج الطبي من خلال الحصول على طرف من النوعية الجيدة أو تعديل طرفه ليتناسب معه في الحركة والتنقل . أما أبو رزوق (اسم مستعار/ 39عاماً ) من معرة النعمان، والذي كان يعمل في تصليح السيارات قبل الإصابة، فقد كان ضحية النزاعات والخلافات بين الفصائل، وعن ذلك يقول: “يلعب تشتّت الفصائل الثورية دوراً في زيادة أعداد مصابي الحرب في إدلب وريفها بعد أن انتشرت الأسلحة بشكل كبير بين الناس وبات استخدامها في جميع المناسبات، إضافة إلى اقتتال الفصائل وانشغالها بتصفية الحسابات فيما بينها ليكون ضحايا اقتتالهم في كثير من الأحيان هم المدنيون كما حصل معي، إذ فقدت يدي اليمنى نتيجة انفجار عبوة ناسفة تستهدف سيارة لأحد الفصائل”. ويتابع أبو رزوق بألم، قائلاً: “انهارت حياتي وانقلبت رأساً على عقب، فقدت عملي في تصليح السيارت وأصبحت أعيش على هامش الحياة منتظراً ما يقدّم لي من مساعدات لا تسمن ولا تغني من جوع، كما أنّ الألم لم يمسّ حياتي الشخصية فحسب بل امتد إلى أسرتي التي تشاركني المعاناة والحرمان، ناهيك عن أن حالتي المادية المتردية لا تسمح بتركيب طرف صناعي”. بالإرادة والتصميم ..تجاوز الألم الإنسان السليم عاجز من دون إرادة والعاجز يتجاوز محنته بإرادته، هذا ما آمن به أبو سامي (اسم مستعار/ 32عاماً ) من قرية كفرومة، فهو كان يعمل معلماً في إحدى مدارس القرية قبل أن تتسبّب قذيفة اخترقت سقف منزله ببتر ساقه من فوق الركبة، فـ “الرغبة في الحياة وحاجة أولادي لي أنستني الإعاقة فأدركت أنّ علي التعامل مع وضع جديد يجب الالتزام به جبراً أو طوعاً، كما علمت أنّ التأقلم مع الإعاقة هي أول خطوة لغرس الإرادة واستمرار الحياة، لذا قرّرت أن أعمل كمرصد لتنبيه الناس إلى خطر الطيران لأخذ الحيطة والحذر حتى لا يصيبهم ما أصابني، ورغم أنّني بحاجة لركبة متطورة تساعدني على الانتقال من مكان لآخر، ونتيجة عدم توفر ذلك أستخدم كرسياً متحرّكاً يدوياً وأعاني من ثقل وزنه وصعوبة حركته ولكن يجب استمرار الحياة على الرغم من مرارتها”. هيئة لرعاية مصابي الحرب في إدلب تأسست الهيئة في شهر أذار 2015 من قبل مجموعة من المحامين والأطباء بدعم غير ثابت من أشخاص وجمعيات خيرية، لتعنى بمساعدة مصابي الحرب وتحاول توثيق الإصابات الحربية ومساعدتهم في الحصول على علاج وتأمين أطراف لحالات البتر كما تعمل على تأمين عمل لهم، حيث قسمت الهيئة عملها إلى قطاعات لإفادة أكبر عدد ممكن من الجرحى والمعاقين. رئيس الهيئة، المحامي محمد النبهان (37 عاماً)، يتحدث لحكاية ما انحكت: “الجانب الطبي من أولى اهتماماتنا، ويتولى متابعة علاج المصابين وتأمين الأدوية الضرورية وأطراف للمبتورين منهم، من خلال توقيع عقود مع عدّة منظمات تقوم بتأمين الأطراف وتركيبها للمصاب مثل جمعية القلوب الرحيمة (جمعية خيرية إغاثية تعمل في المجال الطبي لخدمة الشعب السوري المتضرّر من الحرب) كما يقوم الفريق الطبي التابع للهيئة المؤلف من عدد من الأطباء بزيارات ميدانية للمشافي لمتابعة حصول المصابين على العلاج، أما القطاع النفسي فيهتم بالتأهيل النفسي للمصابين بالاعتماد على الاختصاصيين النفسيين”. وعن الصعوبات يقول النبهان “قلّة الإمكانات المادية تجعل عدد المصابين الذين تصل إليهم خدماتنا متواضعاً أمام الأعداد الكبيرة للمصابين جرّاء الحرب، حيث قمنا بتوثيق 1000 مصاب في مدينة معرة النعمان وحدها، أما في ريف إدلب الغربي فقد وثقنا نحو 2100 حالة إعاقة، في حين وصل العدد في مدينة إدلب وريفها إلى 7000 حالة”. لا يزال الاهتمام بمصابي الحرب هو الأضعف أمام الكوارث الأخرى التي يتعرّض لها السوريون، رغم أنّ الإعاقة كارثة على الصعيد الإنساني، فهي تحرم المصاب من ممارسة حياته الطبيعية ليعيش حالات احتضاره كل يوم، وتظلّ هذه الفئة بحاجة إلى دعم طبي ونفسي وفتح مراكز تدريبية متخصّصة ومهيّأة لذوي الإعاقة لاستقبالهم ودعمهم ورعايتهم وتأمين فرص عمل تمكنهم من الاعتمادعلى ذاتهم وتؤمن لهم متطلبات الحياة الكريمة ليتمكنوا من مواجهة إعاقتهم بصبر وثبات. (الصورة الرئيسية: ماهر (ست سنوات) من مدينة جرجناز، أصيب بشظية أدت إلى بتر قدمه. تصوير سونيا العلي بتاريخ 12 مارس 2017)المصدر