دخان الجبهات المشتعلة يحجب الرؤية في جنيف


عندما يخرج نائب وزير الخارجية الروسي “بوغدانوف” وهناك خمس جبهات مشتعلة ويقول: “اتفاق وقف إطلاق النار ما زال صامداً”، فالتصريح بالتأكيد يعكس أمنيات ومخاوف باتت روسيا تستشعرها بعد الحالة العسكرية المتردية التي وصلت إليها عقب تورطها وانغماسها في الرمال السورية المتحركة.

وليست روسيا فقط من تعيش هذا المأزق بل من قبلها عاشه نظام الأسد وكل ميليشيات إيران وحزب الله التي تدخلت لتنقذ الأسد ووصلت لمرحلة من العجز عن مواجهة الجبهات التي تفجرت وتتفجر كل يوم وتقلب الأرض من تحت أرجل المرتزقة الذين استقدمهم النظام لوأد الثورة السورية وقتل شعبها.

أمام إصرار إيران وقائدها الجنرال “قاسم سليماني” -مدعوماً من موسكو- على إبقاء الخيار العسكري على الطاولة والعمل به في الساحات السورية، وبعيداً عن كل النفاق الذي يقوم به نظام الأسد من خلال المشاركة في جولات جنيف وأستانا، ومن خلال تطبيق ما صرح به وزير خارجية الأسد منذ أكثر من ثلاثة أعوام عندما قال: “إذا ما أرادوا مفاوضات فعليهم تعلّم السباحة لأننا سنغرقهم بالتفاصيل”، وتلك هي مهمة الجعفري التي يقوم بها الآن في أية من طاولات التفاوض، وأمام آلة الإجرام الأسدي- الإيراني- الروسي التي دمرت البشر والحجر والشجر وترتكب أفظع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري باستخدامها لكل الآلة العسكرية التي تمتلكها، وأمام عملية التهجير القسري والتغيير الديموغرافي التي تُمارس بحق المناطق المحاصرة، مع تخاذل المجتمع الدولي عن وقف كل تلك الجرائم المرتكبة بحق شعب خرج طالباً الحرية… أمام كل هذا الواقع كان لابد من تغيير الوضع العسكري على جبهات القتال، وكان لابد من رسم خرائط صراع جديدة، وتغيير قواعد الاشتباك التي سادت جبهات القتال دون اتفاق في المراحل الأخيرة والتي فرضتها توافقات دولية كانت تمارس الضغط والمنع ووقف خطوط إمداد الثوار لمنع اشتعال الجبهات.

معركة حي “جوبر” وإخوته من أحياء برزة والقابون وتشرين ومن خلفهم إخوانهم في الغوطة كانت أولى المعارك التي هزت سلطة الأسد عندما اقتحمت الخطوط الدفاعية لنظام الأسد في الشرق وعلى البوابة الشمالية للعاصمة دمشق، والتي ظنها النظام وحلفاؤه الإرهابيون أنها أصبحت آمنة وعصية على الانكسار، ومع ما آلت إليه المعارك وجدنا الهلع والخوف يسيطر على مفاصل سلطة الأسد ومن والاه من مرتزقة وسلطات احتلال، ومعها تم الدفع بكل ما يمكن من الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد وحركة النجباء العراقية وحزب الله والإيرانيين والطيران الروسي في محاولة لوقف تقدم الثوار الذي هدد ساحة العباسيين ومناطق حيوية في العاصمة دمشق.

 

 

وقبل أن تهدأ فرائص النظام عن الرجفان انطلقت معركتان في ريف حماه الأولى “وقل اعملوا” لجيش النصر، والثانية “في سبيل الله نمضي” لجيش العزة وكلاهما من الأعمدة الأساسية للجيش السوري الحر، وإلى جانب الكثير من الفصائل والمقاتلين وبوحدة قتالية منقطعة النظير بين فصائل الثورة انطلقت المعركة حاملة عزيمة وإرادة لا تنكسر لتتقدم الفصائل وتحرر أكثر من خمسين بلدة وقرية وحاجز وتلة في ريف حماه الشمالي والشمالي الغربي.

وخلال أقل من 48 ساعة ورغم الجهد القتالي عالي المستوى الذي شارك به الطيران الروسي والذي زج بكل قدراته وجهوده في محاولة منه لوقف تقدم الثوار ووقف انهيارات الخطوط الدفاعية لنظام الأسد، فقد وصلت أقدام الثوار لمسافة تقل عن 4 كم من مطار حماه العسكري (غربي مدينة حماه) وهو الهدف الاستراتيجي الأول الذي تهدف فصائل الثورة للوصول إليه، وأصبحوا أيضاً على تماس مع بلدة قمحانة ذات الأهمية القصوى للوصول إلى جبل زين العابدين (شمال غربي المدينة) والذي يُعتبر الهدف الاستراتيجي الثاني الذي يطمح الثوار بالوصول إليه في معركتهم.

اضطرار نظام الأسد لسحب جزء من قواته من جبهات حلب لتعويض الخسائر والنقص بقدراته البشرية في بقية الجبهات أعطى الفرصة لانطلاق معارك مناوشة وإرباك ومشاغلة على كل من جبهات حلب الغربية والجنوبية استطاعت أن تخلخل دفاعات الأسد وتجبره على إعادة التفكير بالمناطق التي يسيطر عليها.

لكن على الرغم من كل تلك الجبهات المفتوحة مع إرهاب الدولة الذي تمارسه سلطات الأسد وحلفائه فإن فصائل الثورة لم تنسَ واجبها في الحرب على إرهاب تنظيم داعش، فالمعركة التي أطلقها الجيش الحر في القلمون الشرقي وريف دمشق والسويداء تحت عنوان “أسرجنا الجياد” حققت الكثير من الإنجازات عبر تحرير مناطق ذات أهمية عسكرية، ومحاولة فك الحصار عن بعض المناطق التي يتموضع بها الثوار في جبال القلمون وفي منطقة الضمير.

 

 

في علم التفاوض يُقال “إن مساحة تمدّدك على طاولة المفاوضات تتحدد بمساحة تموضعك العسكري على جبهات القتال”، هذا الأمر أعاد صياغته الثوار قبل الجولة الأخيرة من المفاوضات سواءً كان مقصوداً أو بدون قصد، فالجولة التي انطلقت على وقع الانفجارات والمعارك المتفجرة في جبهات القتال تحولت منصات مؤتمراتها الصحفية لبلاغات عسكرية ونقل لأخبار ما يحدث في الساحات، ومعها ظهر التوتر على ملامح “بشار الجعفري” رئيس وفد نظام الأسد وأصبح لسانه متلعثماً، وبان التوتر والقلق على كامل وجوه مرافقيه وأعضاء وفده، وكذلك ولأول مرة نجد أعضاء الوفد المعارض يتحدثون بثقة وبأفضلية واضحة وبإمكانيات عكستها ورسمتها انتصارات الثوار على الأرض.

إعلان الأمم المتحدة عن نهاية مهمة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة الخاص بسورية “ستيفان ديميستورا” كانت نعوة لمؤتمر جنيف قبل أن يبدأ، وكأن لسان حال المجتمع الدولي أراد أن يقول للمجتمعين: “وفّروا جهودكم واحزموا حقائبكم مع المبعوث الأممي فلا حلول ترتجى ولا أمنيات ستتحقق، وانتظروا الوسيط الجديد الذي سيتم اختياره قبل الرابع والعشرين من شهر نيسان القادم”.

البيانات الصحفية والمؤتمرات التي تم عقدها في أروقة ومنصات الفندق الذي يستضيف مفاوضات جنيف خيّمت عليها وغطّتها سُحُب دخان المعارك التي نقلت صورة واضحة بأنه “أخطأ من يظن أن نظام الأسد ومِنْ خلفِهِ طهران يمكن أن يقبلا حلاً سياسياً وتنازلاً عن السلطة من خلال التفاوض، ويخطئ من يظن أن كل ما يحصل في جنيف يمكن أن يثمر عن أكثر من حكومة وحدة وطنية تبحث عنها موسكو ويرغب بها الأسد، وأن اجتماع أستانا يطلب من خلاله الروس تشكيل مجلس عسكري مشترك بين نظام الأسد والجيش الحر لقتال الإرهاب وحسب على حد زعمهم وأمنياتهم”.

وأمام هذا الواقع غير المُرضي الذي وُضعت فيه وفود المعارضة السياسية والعسكرية كانت أقدام الثوار هي طوق النجاة الذي أخرجهم من مستنقع مفاوضات آسنة غير منتجة -وفق الطروحات الحالية- إلا لاتفاق عار وذل قد يُرضي الباحثين عن مناصب وسلطة على حساب دماء الشهداء.

 

 

ما قبل آذار يختلف عما بعده

مما لا شك فيه أن قواعد الاشتباك على الجبهات قد تغيرت وتبدلت، وأن انطلاق الجبهات قد لا تعكس بالضرورة إرادة ثورية خالصة بل يمكن أن تكون انعكاساً لتطلعات عربية وإقليمية ودولية جديدة، والملاحظ أنه بعد زيارة ولي ولي العهد السعودي إلى واشنطن قد تغيرت بعض المفاهيم لدى إدارة الرئيس الأمريكي “ترامب” وأن هناك تبدل بالنبرة الأمريكية وبأجنداتها ومعطياتها على الأرض، وقد ظهر ذلك جلياً عبر تصريحات البيت الأبيض، فلأول مرة بتنا نسمع صوتاً أمريكياً يسأل” ماذا تفعل إيران في سوريا؟ ولأول مرة يصل إلينا طلب أميركي من رئيس الوزراء العراقي بحل ميليشيات الحشد الشعبي (الذراع العسكري الإيراني في العراق) وعدم دمجها بالجيش العراقي؛ تلك الميليشيات التي كانت تستعد للاستجابة لطلب بشار الأسد بالتدخل في سوريا، ولأول مرة بتنا نسمع نقاشاً تركياً –روسياً ـإيرانياً عن إخراج ميليشيات حزب الله من سوريا.

 

المتغيرات كثيرة ترافقها وعود أكثر ويبقى ترسيخها على الأرض هو مطلب الشعب السوري فقد أُتخمنا بالوعود “الأوبامية” والتي حصدنا ثمارها مزيداً من القتل على الأرض ومزيداً من الكذب الأميركي عبر الشاشات ومنصات الخطابة.

أمام كل تلك المتغيرات تبقى عيون الثوار على جبهات القتال وتبقى أيديهم على الزناد وتبقى البندقية خيارهم الأوحد لإجبار عصابة الأسد على القبول بحل سياسي.

فهل يكون الوافد الأممي الجديد على قدر المسؤولية ولا يضيع سنوات قادمة بدبلوماسية نفاق على غرار سابقه الديمستوري؟

أم أن هناك انغماس أمريكي جديد وفاعل بالملف السوري ينتظره الجميع ويغير من الصورة النمطية الباهتة التي رسمتها إدارة “أوباما”؟

أسئلة بإجاباتها تنحل العقد السورية المستعصية على الحل، ومعها قد ترتسم ملامح بسمة على وجوه السوريين رغم كل أعمدة الدخان التي تغطي جبهات القتال وتحجب الرؤية عن جنيف.



صدى الشام