إدلب.. سوريا المصغرة


من مليون وخمسمئة ألف نسمة في محافظة إدلب قبل الثورة، إلى أكثر من 3 ملايين من مختلف المحافظات السورية باتوا يقطنون فيها بعد خروجها عن سيطرة النظام بالكامل قبل عامين تقريبًا.

منذ ذلك الحين وحتى اليوم طرأت تغييرات على إدلب ما جعل ناشطين يطلقون عليها اسم “سوريا المصغرة”، فهنا تتنوع منابت السكان المتحدّرين من مناطق سوريّة مختلفة، ويجمعهم مظاهر التمايز والاندماج في آن واحد، وذلك ضمن مساحة جغرافية لا تتجاوز 6,097 كم2.

فبعد أن قام نظام الأسد بعمليات تهجير لأهالي المناطق الثائرة عبر تسويات و”مصالحات”، وصلت أعداد كبيرة من المهجرين إلى إدلب سواء من ريف دمشق أو حي الوعر بمدينة حمص أو أحياء حلب الشرقية، في حين نزح إليها آخرون أيضاً من أرياف حماة وحلب واللاذقية وحتى من درعا والرقة وغيرها من جهة ثانية.

وبوصولهم نقلَ سكان تلك المناطق معهم عاداتهم ومهنهم وثقافاتهم المحلية التي أضفت طابعاً جديداً على إدلب لا تخفى ملامحه على أحد.

 

تواصل وخبرات جديدة

“أم محمد” من سكان إدلب “الأصليين” قالت إنها تعلمت الكثير من المأكولات التي لم تكن تطهيها من قبل، كما أن المهجرين أثروا في اللباس والتفكير العام، فعلى صعيد العلاقات الاجتماعية برزت ظاهرة الزواج بين أبناء المدن المتنوعة داخل محافظة إدلب، فلم يعد غريبًا أن تتزوج فتاة من إدلب شابًا من منطقة أخرى وتعيش عاداته وتقاليده في الزواج طالما أنها اختارته شريكًا لحياتها.

ولا يتوقف الأمر هنا فالمسألة مرتبطة بتفاصيل تتجاوز العلاقات الاجتماعية حيث نقل أهالي أحياء حلب الشرقية إلى إدلب ما يمكن اعتباره فكرًا إداريًا من واقع تجربتهم في مناطقهم التي كانت خارج سيطرة النظام فأعادوا افتتاح العديد من المنظمات المدنية والمؤسسات التعليمية خصوصاً مع توفر الكفاءات العلمية بين سكان إدلب التي ساعدتهم على النهوض بعملهم.

 

نشاط اقتصادي

على صعيد المهن فقد انتشرت بشكل كبيرٍ مهنٌ غريبة وجديدة، فأضحت محافظة إدلب تعيش مرحلة من الازدهار الاقتصادي مقارنة بزمن سيطرة نظام الأسد.

“أبو معروف” جاء من حمص وأصبح هنا صاحب أحد المحلات التجارية الخاصة ببيع “حلاوة الجبن” في مدينة إدلب، ويشير إلى أنه وبدلاً من تغيير المهنة نقلها من مدينته المشهورة بها، وبالتالي فالناس يرغبون بشرائها من هذه المحالات أكثر من أية محلات أخرى.

ومن المنطقة الوسطى أيضاً أضاف القادمون من حماه نكهة خاصة على الحياة في إدلب من خلال عملهم هنا في مجال بيع الحلويات التي تعد غير معروفة لسكان إدلب الذين وإن كانوا مشهورين بـ “الشعيبات” فقد باتوا يترددون باستمرار على محل “أفوكادو الحموي” وسط المدينة لتناول كوب كبير منه بعد أن كانوا قد سمعوا عنه سابقًا ليتلذذوا بطعمه حاليًا، كما يقول الشاب ابن الريف الإدلبي “يزن”.

 

ولا يمكن أن ننسى أهالي عاصمة سوريا التجارية (حلب)، الذين لم يستسلموا للواقع بعد تهجيرهم بل أعادوا لحياتهم رونقها ومظاهرها التي يحبون وهم المعروفون بإجادتهم في مجال التجارة والاقتصاد والقدرة على التأسيس لنشاطاتهم في أية بقعة أرض يوجدون فيها، ومثلما أحيوا أسواق اللاذقية من قبل، أصبحوا اليوم ينشّطون أسواق محافظة إدلب من كل النواحي وبمساعدة أطراف مختلفة.

 

لهجات وعلاقات واندماج

لطالما شكلت اللهجات السورية (اللكنات) على اختلافها ما يشبه بطاقة التعريف الأوضح عن أبناء كل منطقة، ومع قدوم أعداد كبيرة من المهجّرين والنازحين إلى إدلب من مناطق مختلفة فقد أحدث ذلك نوعاً من الاندماج وتعدد “الألسن” وبات هناك ضمن إدلب لهجات موازية للهجة الأصلية، وأتقن بعض الناس أكثر من واحدة بما يخدم حياته اليومية في وسط متنوع المشارب والمظاهر.

الطفلة “لارا” من مدينة حمص تلميذة في إحدى مدارس المرحلة الأولى قالت: “يوميًا أتعلم كلمات من صديقاتي الإدلبيات والحلبيات وغيرهم، حتى داخل منزلي أحدث عائلتي أحيانًا باللهجة الإدلبية كما تفعل صديقاتي ذلك مع أُسرهنّ أيضًا”.

 

حاول نظام الأسد زرع مشاعر اليأس والإحباط في نفوس العائلات المهجّرة قسرًا من ريف دمشق محاولًا إذلالهم من خلال تغريبهم عن ديارهم أو مدنهم.

إلا أن “حسام” المُهجر مع عائلته وزوجته من “قدسيا” إلى إدلب كان له رأيه وموقفه تجاه هذه المحاولات إذ يقول: “كل شبر داخل سوريا نعتبره أرضنا وديارنا، ولم نشعر أبدّا بالغربة في إدلب بل نحن ممتنون لهم فهم من خيرة الناس بأخلاقهم ومعاملتهم لنا وأحببنا مدينتهم لأنها تشبهنا بكل شيء، وهذا رأي وحال المئات ممن جاؤوا من الريف الدمشقي”.

 

تضخيم

على الرغم من حصول خلافات صغيرة في المرحلة الماضية في حالات قليلة في إدلب فإنها لم تصل إلى الحد الذي تم إظهارها به وتضخيمها من قبل بعض الناشطين والوسائل الإعلامية التي هوّلت الأمر وصورته وكأنه أضر بالعلاقات الاجتماعية بين مجمل أبناء المحافظات السورية.

ويبقى الثابت أن أهالي إدلب الذين رحبوا بمن جاءهم نازحاً ومهجراً ما يزالون مستعدين لاستقبال القادمين من كافة المناطق السورية دون أية حسابات ضيقة، وتلك ليست وجهة نظر وإنما واقع يعكسه أي استطلاع للرأي أو أية جولة في إدلب.



صدى الشام