قصة مثيرة لعائلة كندية تبنّت عائلة سورية لمدة سنة….ثم حانت لحظة الفراق الصعبة


العنوان الأصلي: كنديون يتبنون عائلات سورية لاجئة لمدة سنة.

 

ها قد أتى الشهر الثالث عشر….. كل يوم، هناك كنديون يقضون عاماً كاملاً وهم يحتضنون سوريين وذلك ضمن برنامج التوطين الأكثر خصوصية في العالم.

أن تتركهم يذهبون ربما يكون الاختبار الأكبر لهم، مع ذلك.

 

تورونتو. بعد سنة من احتضان كندا للاجئين سوريين، كما لم تفعل أية دولة أخرى، هناك جرد حساب يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.

أشخاص كنديون عاديون تبنوا بشكل خاص آلاف العائلات السورية، متبرعين بسنة كاملة من وقتهم وأموالهم ليرشدوهم إلى حياة جديدة، وهذا ما تجنبته الكثير من الدول الأخرى. لقد اعتبر بعض المواطنين مسبقاً المشروع انتصاراً إنسانيّاً: وآخرون يعتقدون أن السوريين يتجهون نحو العزلة بدون هدى، ينتظرون الرعاية الصحية وربما أسوأ من ذلك. ومع نهاية العام 2016 وحلول العام 2017، حيث بدأت تنتهي صلاحية التزامات العام الفائت، فإن مسألة كيف سيحقق الوافدون الجدد نجاحاتهم تتطلب لقباً وطنياً: الشهر 13، عندما سيحاول السوريون الاعتماد تماماً على أنفسهم.

وفي فترة ظهيرة أحد الأيام الباردة في يناير (كانون الثاني)، دخلت ليز ستارك منزلاً متواضعاً في الطرف الشرقي من المدينة، وقد كانت غير قلقة على عكس المعتاد. لقد كرست نفسها مع صديقتها لتوطين محمد ووسام الحاج، مزارع سابق وزوجته وأولادهما الأربعة، فأصبحوا مقربين جداً من بعضهم، حتى أنهم يعاملون بعضهم البعض كجدين وأبوين وأحفاد.

لكن للعائلة المرتجلة مهلة نهائية، ففي غضون أسبوعين ستنتهي فترة الرعاية، حيث سيتوقف الكنديون عن دفع إيجار السكن ومصاريف معيشتهم. لن يديروا بعد ذلك حسابهم المصرفي ولا ميزانيتهم. لقد كانت السيدة ستارك تضيف اسم السيد محمد الحاج في عقد إيجار السكن بدلاً من اسمها. وهذه كانت الخطوة الأولى.

لقد انتهى شهر العسل،” قالت فيما بعد.

 

في فترة ظهيرة ذلك اليوم، كان تركيزها على النماذج، الشيكات وقائمة الأولويات. لكنها كانت تعلم أن مجموعتها الصغيرة المؤلفة من الجدات، المتقاعدين وأصدقاء نادي الكتاب تسبح عكس تيار قوي من التشكيك وحتى الكراهية تجاه المهاجرين واللاجئين. فلقد كان رئيس القوة العظمى في الجنوب يتحرك لمنع السوريين من دخول البلاد وتقليص برنامج اللاجئين. لقد دخل المهاجرون البائسون إلى كندا مشياً على الأقدام. كانت الآراء التي تطالب “ببقاء المهاجرين خارج بلادنا” تعيد تشكيل خريطة أوروبا السياسية. وفي غضون أيام، سيقوم رجل مسلح بقتل المصلين في مسجد في مدينة كيوبيك.

كانت السيدة ستارك ومجموعتها تراهنان على أن أغلب العالم كانوا مخطئين- فبقليلٍ من الدعم، يمكن للمسلمين الفقراء من الريف السوري التكيف، والانتماء، والازدهار والمساهمة في نهاية المطاف في كندا. وبناء على ذلك، فقد ازدادت حدة كل اجتماع وقرار وكل تقدم: هل ستحرز العائلة نجاحاً ما؟

وكانت المهمة الأكثر أهمية التي قامت بها السيدة ستارك في ذلك اليوم هي إيصال الزوجين السوريين إلى برنامج تعليمي بخصوص الميزانية. فلقد كانا حديثي العهد في التعامل مع المصارف وبطاقات الصراف الآلي. لقد كان كفلاؤهما يدفعون إيجار سكنهما ويرافقونهما لإجراء سحب نقدي، حيث كان للزوجين معرفة بكيفية إدارة الأموال في حساب مصرفي.

يحمل بعض اللاجئين السوريين في كندا شهادات جامعية، مهاراتٍ مهنيةٍ وشركات ناشئةٍ تُدار بالفعل، لكن عائلة الحاج لا تستطيع القراءة والكتابة حتى في اللغة العربية. وبعد سنة من الانهماك في تعلم اللغة الإنجليزية، فإن السيد الحاج، البالغ من العمر 36 عاما، يكافح من أجل الحصول على كلماتٍ جديدة. وهو تواق لكي يقرأ الأسعار في السوبرماركت ولوحات الطرقات بسهولة. إنه يُظهرُ قلقاً متزايداً حول تعليمه، واستيعابه في الصف الثاني، فلربما لا تكون كافية بالنسبة للسنوات القادمة.

فبينما كان السيد الحاج يترقب الشهر 13، كان يشعر بالإحباط والانزعاج. “لا نعرف ماذا سيحدث.” قال السيد الحاج.

منذ بداية تحديد الموازنة، تدرك السيدة رولا عجيب وجود خطأ ما. “لماذا تفقد الوزن؟” تسأله باللغة العربية. “لقد وصل العديد من اللاجئين السوريين في كندا.”

أنا قلق.” أجابها. فمن الهموم الكبرى التي تثقل تفكيره، والده هناك في سوريا يتوسل إليه أن يرسل له بعض الأموال لتغطية تكاليف زيارة الطبيب وتكاليف اللوازم الزراعية للمساعدة في إطعام أسرته، مما دفعه أن يطلب تغطية هذه النفقات من كفلائه.

فعندما قال الابن “لا،” وهو لم يكن متأكداً من أنه سيحتفظ بما يكفي من النقود لنفسه ولم يكن راغباً أن يطلب من الكنديين المساعدة، توقف أبوه عن الرد على مكالماته الهاتفية.

وقبل أيام قليلة من الموعد، أمسك السيد الحاج، الذي كان مليئا بالذنب، هاتفه الجديد، وألقى به على الأرض وسحقه تحت قدميه.

واحتجت زوجته، البالغة من العمر 37 عاماً، على هدر المال، وطلبت منه الصبر. كان قد حصل مؤخراً على وظيفةٍ في مطبخ مطعم الشرق الأوسط. كان أولادهما يحضرون المدرسة للمرة الأولى في حياتهم، ويتعلمون الإنجليزية والفرنسية، ليصبحوا متزلجين على الجليد وأبطالاً في كرة القدم. وقالت إنها على يقين من أن مقدمي مشروع القرار سيبقون إلى جانبهم وأنه، بصرف النظر عن المسائل المالية، لن يغير الشهر 13 علاقتهم.

أنا أعرف أن كفلاءنا يحبوننا.” قالت السيدة الحاج. “وهم لن يتخلوا عنا.”

لكنها كانت تعلم أن زوجها محاط باليأس. فلقد وجدته مؤخراً على الأريكة متكوراً على نفسه وهو يبكي.

الآن، وبينما كانت السيدة ستارك جالسة أمام الطاولة، عاجزة عن فهم المحادثة باللغة العربية، قال السيد الحاج للمستشارة إنه كان يفكر بشيء جنوني. “كنت أفكر بالعودة إلى سوريا.” قال السيد الحاج.

 

 

بعد بضع ساعات، جلس أولاده الثلاثة الأكبر سناً وأرجلهم مبسوطة (ممتدة) في غرفة تغيير الملابس عندما جاء اثنان من الكفلاء إليهم وهم يربطون أحذية التزلج. كان كارول أتكينز، مساعد معلم سيدخل قريباً عامه التاسع والستين، كان متعصباً للهوكي، وهو أقدم لاعب في دوريها. الآن كان يعلم أطفال الحاج في هذه الرياضة، ويجهزهم بالعتاد وينقلهم إلى فصل أسبوعي بينما يبقى والداهم في المنزل. “تزلجوا بجدية”، قالت لهم وهم يتجهون إلى الجليد.

وبينما كان الكفلاء يراقبون من المنصة، كانوا يتتبعون كل حركة يقوم بها الأولاد. كان متيم، المصنف رابعاً وكوميديان العائلة، يسبق الجميع في التزلج بما فيهم الأطفال المولودين في كندا. لقد كان يتواجد في المقدمة دائماً ويُنهي السباق أولاً. “يا إلهي، كما لو أنه يركض على الجليد،” قالت السيدة أتكينز لجان دولر، الكفيلة الذي بجانبه، متعجبةً.

مع اقتراب الشهر 13 في كندا، على كل مجموعة من الكفلاء واللاجئين أن يقرروا كيف ستؤول إليه العلاقة الجديدة فيما بينهم. كانوا يواسون بعضهم البعض، فقوانين الكيمياء لا تكون دائماً هي الصحيحة. استمر الكنديون بشكل مباشر في تمويل السوريين، عاجزين عن قطع هذا الحبل المالي.

لقد قرر كفلاء عائلة الحاج مسبقاً إيقاف تمويلهم، (فبينما تتنوع مخصصات الكفالة الخاصة، فقد جمعوا أكثر من 30000 دولار كندي، أو حوالي 22500 دولار أمريكي، لتقديم الدعم للعائلة قبل أن يصل السوريون في فبراير شباط 2016.) سينخفض دخل الأسرة، لكن ما بين ما يكسبه السيد الحاج شهرياً من عمله والدعم الحكومي الشهري المستمر الذي يعادل 1800 دولار المقدم للعائلات ذات الدخل المحدود – وهو ما يسميه راتب الأولاد– سيكونون قادرين على الاستمرار في العيش في سكنهم المؤلف من ثلاث غرف نوم بقيمة 1400 دولار شهرياً.

مع ذلك، مع اقتراب موعد النهاية، فقد واجه الكفلاء أسئلة غير مريحة وملحة: هل كانوا يقومون بما يكفي للعائلة السورية؟ هل من الأفضل أن يتوقفوا ويوقفوا التصرف كسائقين ومخططين وقائمين بكل أعمالهم؟ وهل سينتظرون حتى ترتكب العائلة أخطاء؟ وحتى لو أرادوا إيقاف المساعدة، فهل سيكونون قادرين على فعل ذلك فعلاً؟

كانت دروس التزلج فقط البداية. لقد مرت عدة أيام في شقة العائلة ومجموعة من الكفلاء يطرقون الباب، من الصباح عندما يصلون ليقوموا بتدريس السيدة الحاج اللغة الإنجليزية – فمع وجود طفل في المنزل، فإنها لا تستطيع الخروج لحضور دروس اللغة – إلى المساء ليتناوبوا في المساعدة في واجبات الأطفال المنزلية. وعند وصولهم فإنهم يجلبون منتجات إضافية واللحوم المذبوحة بالحلال، يجيبون على أسئلة عن البريد، ويوصلون السوريين إلى مواعيدهم ويهتمون بأي شيء آخر يحتاجون إليه. وقد أشار التقويم الموجود على الثلاجة إلى المزيد من الأسباب للخروج، مثل زيارات الأسنان، مع رسم صغير لسنٍ مخدوش.

 

 

 

طبيب العائلة الذي وجدوه والمستشارة الفلسطينية حذروهم من أنهم كانوا يعيقون عائلة الحاج من أن يصبحوا مكتفين ذاتياً. وكذلك شعر بعض الكفلاء بهذا.

إذا بقينا نتعامل معهم بهذه الطريقة، فسيصبحون اعتماديين أكثر وأكثر،” قالت السيدة دولر، وهي واحدة من الكفلاء الذين دعوا إلى الانسحاب. “ربما نحن نمنحهم بهذا توقعات غير حقيقية بالنسبة لعشرٍ أو عشرين سنة قادمة.

حتى السيد الحاج قال إنه يحتاج لارتكاب أخطاء: “على أن أعاني كي أتعلم.”

لكن الكفلاء يعرفون كم تحتاج العائلة. فأفراد عائلة الحاج هربوا من سورية في بداية الحرب وقضوا عدة سنوات بائسة في لبنان، يعيشون في ظروف سيئة، وقد عمل الأولاد مقابل دولار واحد يومياً. هل من المتوقع منهم أن يكونوا مستقلين خلال سنة واحدة؟

لدى الكفلاء، ومعظمهم متقاعدون، الوقت الكافي لتقديم المساعدة، وقد نجحوا على أساس إحساسهم المشترك بالمهمة. لقد أرادوا تقديم الكثير لعائلة الحاج: ليس فقط الأساسيات، كاللغة ومحو الأمية، بل مساعدتهم في الاندماج في الحياة في كندا. فلم يتحملوا فكرة أن تصبح العائلة منعزلة عن المجتمع، أو أن يُهَمّشَ الأبوان، أو أن يضيع الأطفال في أنشطة اتخذوها لأنفسهم.

نحن كنديون من الطبقة الوسطى، ونساعد هؤلاء الأطفال لينشؤوا مثل أطفال الطبقة الوسطى الكنديين،” قالت بيكي كاراس. إحدى الكفيلات الأخريات.

في صباح أحد الأيام من شهر شباط/ فبراير، لم يحضر باص مدرسة متيم، فاتصل الولد بكفيل تلو الآخر حتى استطاع التكلم مع السيدة كاراس، التي اندفعت مباشرةً بدلاً من أن تتصرف. فقد كانت تخشى أن يفوّتَ الولدُ يوماً دراسيّاً في حال لم تتصرف هي.

تتولد الاستقلالية من كلا الطرفين”، قال سام نامورة، وهو محامٍ للاجئين الذين مروا بمواقف مماثلة في كالغاري، أبيرتا، حيث كان وسيطاً بين الكفلاء والسوريين. “يخشى الوافدون الجدد المخاطرة، وحالما يخاطرون، يقول الكفيل لنفسه، “هم لا يتكلمون الإنجليزية، وسأساعدهم.”

قدم الكفلاء حلولاً بالاستمرار بتعليم السيدة الحاج وللأولاد ولكنهم تراجعوا بطرق أخرى. لقد طلبوا من الأبوين أن يأخذوا أولادهم إلى دروس السباحة بدلاً منهم. لقد كانوا يدركون أن عليهم أن يعلموهم الطرق التي يسلكها الباص، بدلاً من أن يقوموا هم بإيصالهم دائماً.

لكنهم نادراً ما ينفذون ذلك. فعندما يفوّت الأولاد درس السباحة، يبدأ الكفلاء بإيصالهم مرة أخرى. وبالنسبة لتعليم العائلة المزيد عن طرق النقل العامة، “أنا في التاسعة والستين،” قالت السيدة أتكنز. “أنا لن آخذ الباص.”

أنا لم أعزز فيهم أية استقلالية،” اعترفت أتكنز.

وحتى السيدة دولر، التي دفعت العائلة لتنجز أقل، وجدت نفسها تسجل الأولاد في معسكر إجازة فصل الربيع وتحاول أن تعثر على قطعة أرض صغيرة ليمارس السيد الحاج، الذي اشتاق للزراعة، أعمال الحدائق.

 

 

 

إن جزءاً مما جعل الأمر صعباً هو أن السوريين والكنديين ملأوا ثغراتٍ في حيوات بعضهم البعض بطريقة لم يتوقعها أي منهم: فوسام الحاج فقدت أمها عندما كانت فتاة؛ أما الآن فالنساء الكنديات الأكبر سناً أصبحن أمهات لها. بطريقة أو بأخرى ستصبح قادرة أن تتكلم حول أمور  كالثرثرات العائلية والمعرفة بأمور الزواج رغم الفجوة اللغوية. أما السيدة كاراس، فقد كانت توّاقة ليكون عندها أولاد، ولذلك احتضنت الأولاد السوريين الأربعة كما لو كانوا فعلاً أولادها. فالأولاد الثلاثة الأكبر سناً فقدوا سنين من دراستهم، وعليهم تعويضها، وأكثر الكفلاء هم مدرسون متقاعدون. وعندما غادرت إحدى الكفيلات تورونتو من أجل الشتاء، فقد ذرفت دموعاً كثيرة وهي تودّع الأولاد.

وفي اليوم التالي، وعندما كان متيم في الحصة الدرسية، فقد بدأ بالبكاء لأنه افتقدها.

 

أزمة الرعاية

وبالنسبة للجهات الراعية، كان أحد أكثر أجزاء الشهر 13 إثارةً للقلق هو مشاهدة اللاجئين يتخذون قرارات مالية إذ وجدوا أنها غير صائبة في أحسن الأحوال. فبعض السوريين قرروا العمل في الوظائف التي وجدها الكنديون على أنها خيارات خاطئة، أو وقعوا على عدد كبير جداً من بطاقات الائتمان. اشترى آخرون سيارات، رغم أنه لم يكن لديهم رخصة القيادة.
لقد بدأت أدنى نقطة في سنة كفلاء عائلة الحاج مع اكتشاف مثير للقلق. وكما هو الحال مع سوريين آخرين، فالسيد محمد الحاج وصل إلى كندا متحمساً للعمل، لكن كفلاءه أشاروا عليه بالخضوع لدروس اللغة الإنجليزية بدل العمل. (لقد ساعدوه بالعمل في أعمال غريبة في الزراعة والبناء.)

قبل الشهر 13 بشهرين، حالفه الحظ، فصديقه الفلسطيني الكندي الذي كان يعطي النصائح للمجموعة، اتصل به يخبره أنه حقق له مصلحة لم يستطع الكفلاء تقديمها: لقد اتصل بمهاجر مصري كان قد ساعده قبل سنوات والآن يملك مطعم شاورما في ردهة المطاعم في أحد المجمعات التجارية وسأله فيما إذا بإمكانه تأمين عمل للسيد الحاج. وفي الحال، بدأ الحاج بالعمل ليلتين في الأسبوع مع استمراره في دروس اللغة الإنجليزية.

ولكن عندما رافقت ليز ستارك السيد الحاج إلى المصرف لإيداع الراتب، تفحصت معاملاته فوجدت شيئاً يدعو للقلق: هناك بضعة آلافٍ من الدولارات مفقودة. لقد تم سحبها من أجهزة الصّراف البنكية. “لقد اعتقدت أنه تعرض للنصب والاحتيال،” قالت فيما بعد.

قال السيد الحاج، الذي بدا مراوغاً، أنه سحب النقود من أجل تخزين الطعام. “لقد كنت أريد أن أعوض لأولادي الليالي التي نمناها ونحن جياع،” قال السيد الحاج.

لكنّ السيدة ستارك، التي كانت تعتقد أن السّيد الحاج لم يكن يفهم حساباته ما يكفي ليدرك ما الذي كان يحدث، ذهبت إلى البنك لتحاول معرفة مكمن الخطأ. عندما لم تجد أي أثر للسرقة، تساءلت هي والكفلاء الآخرون فيما إذا كان يوجد تفسيرٌ آخر لما حدث. هل أرسل السيد الحاج النقود لأبيه في سوريا؟ أو خبأها في درج؟

بعد ذلك بأسابيع قليلة، سأل السيد الحاج الكفلاء حول الذهاب إلى الشؤون الاجتماعية، فلقد سمع عنها من زملائه في دروس اللغة الإنجليزية. بعضهم كان يسجل فيها، بعد أن وجدها رهاناً أكثر أماناً من الوظائف غير الآمنة ومنخفضة الأجر، كما قالوا له. لقد شرح أحدهم له أنه بإمكانه أن يعمل ويحصل مع ذلك على مساعدة الحكومة، في حال أنه أقنع رئيسه في العمل أن يدفع له من تحت الطاولة.

بشعور من انقباض في الصدر، بدا الكفلاء بالقلق: هل كان السيد الحاج يسحب النقود من المصرف للتلاعب بالنظام، كي يخفض رصيده في المصرف، ليصبح مؤهلاً للحصول على المساعدة الاجتماعية؟

حتى إن الاستخدام الشرعي لنظام الرعاية الاجتماعية من قبل اللاجئين السوريين كان رهناً للتحقيق. هذا ما يعرفه الكفلاء. يقول بعض الكفلاء إن الرعاية الاجتماعية خطوة ضرورية لبعض اللاجئين، فهو يكفل لهم وقتاً أكثر لتعلم اللغة، وهذا سيساعدهم على الحصول على وظائف أفضل مع الأيام. فلسفيّاً، وظيفة البقاء على قيد الحياة يمكن أن تتحول إلى فخ، ذهبت الفلسفة.

لكن في جميع أنحاء كندا، ازداد الاستياء حول مقدار المساعدة التي كانت تُقَدَّمُ للوافدين السوريين الجدد. كان أحد الأعضاء في البرلمان يتولى رئاسة حزب المحافظين على منصة لفحص المهاجرين الجدد واللاجئين يسأل أسئلة مثل: “هل تدرك أنه لكي تعيش حياة جيدة في كندا ستحتاج إلى العمل الجاد لتقدم الدعم لنفسك ولعائلتك، وأنه لا يمكنك أن تتوقع أن تنال بسهولة الأشياء التي تريدها؟”

 

لقد كان كفلاء عائلة الحاج مدركين تماماً لهذا القلق. “سيكون هناك ردة فعل لو أن 25000 سوري فجأةً ظهر في سجلات الرعاية الصحية،” قالت السيدة ستارك. في أوروبا، كثرت الشكاوى بشكل ملحوظ من فكرة أن الحكومة تأخذ خدماتها من المواطنين وتقدمها للأجانب.

لم يكن الكفلاء متأكدين مما عليهم أن يُصدّقوا؛ لقد راودهم الشك أن السيد الحاج كان يخفي عنهم سرّاً. كان الموقف “يُقلّلُ ثقتي بمحمد ويقلل من مشاعري تجاه العائلة،” قالت السيدة ستارك.

لقد سألت هي والكفلاء أنفسهم: كيف يمكن لهذا أن يحدث بعد أن أصبحوا قريبين جداً من العائلة؟ وهل لديهم الحق ليعرفوا أو يسألوا أين استخدم السيد الحاج النقود؟

ردّاً على سؤاله حول الرّعاية الصّحيّة، لم تتصنع الكلام. “لم نأتِ بك إلى هنا ونعطيك كل هذه المساعدة لتصبح عالة على حكومتنا،” قالت كاراس له. وشرحت له أن المساعدة الاجتماعية هي حل مؤقت للناس المحتاجين. “كنا نتوقّع منك أن تخرج وتحصل على عمل لتقدم الدعم لعائلتك.”

وافق السيد الحاج على عدم الإجابة. “أنا ابن هؤلاء الكفلاء، الذين عاشوا كل حيواتهم في هذا البلد،” قال فيما بعد. “فهم بالتأكيد يستطيعون التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ.”

العمل أفضل بكثير من المكوث في المنزل بدون عمل شيء،” أجاب. “والعمل يجعلك تكسب نقوداً.”

لقد قرر الكنديون المضي قدماً. “لا أستطيع أن أقضي حياتي قلقةً على ما حدث للنقود،” قالت السيدة ستارك.

في الواقع، لدى السيد الحاج أكثر من مجال أمان مما هو يعرف. لم يقل له الكفلاء إنه بسبب الدعم الحكومي، فإن لديهم نقوداً متبقية من العام الأول للعائلة. فعندما يواجه وعائلته نفقات أكثر، فهناك عدة آلاف من الدولارات بالانتظار.

بعد بدء العمل بعدة أسابيع، كان السيد الحاج يتوجه إلى المطعم عندما توقف الميترو: فلقد كان جزءاً من الخط خارجاً عن الخدمة. لم يكن يعرف أين هو. وبسبب خوفه من التأخير، حاول العثور على حافلة، ولم يكن يستطيع أن يسأل أي شخص باللغة الإنجليزية. حاول الاتصال بصديقه الذي يتحدث العربية والذي بدوره نصحه بمستشار المجموعة. علمه الرجل أن يستقل سيارة أجرة ويخبر السائق أين يأخذه.

فيما بعد، قال السيد الحاج للسيدة أتكنز ولأولاده القصة، محاولاً أن ينقل جزءاً منها باللغة الإنجليزية.

باص غادر هنا، العمل،” قال لهم. “تاكسي! نقود، نقود كبير!” (لقد كلّفت سيارة الأجرة 12 دولاراً.)

إن حدث هذا مرّةً اُخرى، قالت له السيدة أتكنز، فإن عليه أن يأخذ الباص إلى يوركديل. قالتها ببطء، مقطعاً مقطعاً، وطلبت منه أن يتدرّب.

يوركديل!” ردد الحاج وأولاده على شكل كورس.

 

 

بعد ثلاثة أسابيع، وقفت بيجي كاراس في غرفة معيشة عائلة الحاج ومدت ذراعيها تجاه جوليا، البالغة من العمر تسعة أشهر. لقد مضى ستة أيام من الشهر 13. على خلاف المجموعات الأخرى، فإن عائلة الحاج وكفلاءهم لم يلاحظوا لحظة المحادثات أو الكعكة؛ فلم يبدُ عليهم الشوق ليلحظوا الانتقال.

لقد حملت السيدة كاراس جوليا إلى جدار مليء بصور الكفلاء، وأشارت إلى كل واحدة، وأخبرت الطفلة اسماً لتصله بالوجه المألوف لها: ليز. جان. كارول. كليف. مارج. في فترة الظهيرة تلك، كان الأولاد الثلاثة ذاهبين على اجتماع أولياء الأمور، وكانت السيدة كاراس وأتكنز برفقتهم.

لكن عائلة الحاج كانت أيضاَ تُظهرُ دلالاتٍ صغيرة على الاستقلالية. فبينما كان الكفلاء يتابعون مواعيد الطبيب، كان السوريون في تلك الأثناء ينتقلون هناك. وكان زملاء التوأمين في الصف السادس قد بدؤوا الزيارات في مواعيد اللعب. يا لفرحة أتكنز! فعائلة الحاج ألغوا خططاً معها لحضور اجتماع للعائلات السورية في مقر الجالية. وزاهية، أحد التوأمين أثارت إعجاب الجميع بكتابة رسالة نصيّة باللّغة الإنجليزية.

حتى تلك اللحظة، لم يتكلم السيد الحاج مع أبيه. لكن المطعم قد منحه ساعات أكثر، وقد شجعه زملاؤه في العمل، وكانوا من القادمين من جميع أرجاء العالم الإسلامي، وعلموه كلمات إنجليزية جديدة. وقد حصل السيد الحاج على أول زيادة، من11$ حتى 13$ كل شهر.

ومع تقدمه في اللغة الإنجليزية، تراجع حديثه عن العودة إلى سوريا. “لم أعد فقط مستمعاً،” قال مستعرضاً، وهو لا زال يستخدم لغته الأصلية ليصف لغته الجديدة. “أنا قادر على الكلام مع الناس، أيضاً.”

في كل أنحاء البلد، وقد انقضى الشهر 13 وجاء الشهر 14 ثم الشهر 15، فقد بدت نتائج الكفالات الخاصة للسوريين مثل تقدّم الحاج – لا تزال مؤقتة لكنها تتجه للأمام. فحسب أرقام حكومية مبكرة، فإن حوالي نصف الراشدين المكفولين يعملون بدوام كامل أو جزئي.

لقد قضينا أكثر من سنة ونحن ننقل ترحيب كندا غير الاعتيادي باللاجئين السوريين، ننظر باهتمام إلى العائلات الوافدة الجديدة والمتطوعين الذين يساعدونهم.”

كمجموعة تفوق آلاف اللاجئين الذين لم يكن لديهم كفلاء وقد وطنتهم الحكومة – فقط حوالي 10% منهم حصلوا على وظائف (وبشكل عام، كانوا أقل تعليماً ولديهم حالات مشاكل صحية أكثر ولهم احتياجات أخرى.) من سبقهم في اللجوء إلى كندا في العقد الأخير – وهم مزيج من العراقيين، الأفغان، كولومبيين، أريتريين وغيرهم – قد اتبعوا نفس النموذج، وهو نموذج اللاجئين المكفولين كفالات خاصة من المحتمل أن يحصلوا على وظائف بعد سنة بمعدلات متقاربة.

في كل أرجاء العالم، وكاستجابة لأزمة اللاجئين الهائلة، فقد كانت الكثير من الدول تستكشف نظام كندا الفريد الذي يجعل المواطنين الكنديين كل يوم يرعون اللاجئين. فبريطانيا والأرجنتين قد بدأتا البرامج التدريبية، ويتوقع من الدول الأخرى أن تسير على خطاها.

برنامج الرعاية، برأيي، هو الطريقة الأكثر فاعلية لجلب الناس الجدد لأنه يقدم الكثير من الدّعم العاطفي، الاجتماعي والمالي،” قال السيد نامورة، وهو محامٍ مختص باللاجئين.

ففي كندا، تقدم الكثيرون لرعاية أقارب الموجة الأولى من السوريين، إلى درجة أن النظام كان مزدحماً، وكان من المستحيل وجود مجال للاجئين جدد. (كفلاء الحاج بدأوا بتقديم طلبات لاثنين من أشقائهم ليحضروا إلى كندا بعد أن علم اثنان من قراء صحيفة النيويورك تايمز عن كفاحهم في مقال سابق وقد تبرعا بتكاليف الرعاية، لكن الكنديون توقعوا انتظاراً مطوّلاً.)

حتى حزب المحافظين المعارض، الذي اتهم الحكومة بجلب سوريين أكثر بكثير مما تستطيع الحكومة معالجة الأمر – أكثر من 40000 منذ نوفمبر تشرين الثاني 2015 – مما زاد من عدد اللاجئين الذين تلقوا كفالة خاصة. قالت ميشيل ريمبل، زعيمة حزب المحافظين حول سياسة الهجرة واللاجئين: “لا يوجد سبب يدعو كندا إلى عدم تسخير سخاء المواطنين الخاصين”.

 

لكن لم يكن هناك تعريف شائع للنجاح: هل كان كافياً أن هؤلاء اللاجئين لم يموتوا في البحر المتوسط أو يعيشوا في المخيمات؟ وهل القيام بأعمال استعبادية من أجل الكفاف يعطي نتيجة إيجابية؟ لقد جادل العديد من قدامى المحاربين بأنه من غير الواقعي التوقع أن يحقق اللاجئون الاكتفاء الذاتي بعد عام واحد فقط، وأن الاختبار الحقيقي سيكون مصير أطفالهم. وفي بلد ضخم ذات عدد سكاني منخفض نسبياً، حيث يُنظر إلى الهجرة على أنها وقود ضروري، فإن العديد من الكنديين مستعدون للاستثمار في الأجيال القادمة.

لم نفكر كيف سيبدو عليه النجاح،” قالت السيدة ستارك. “كنا نفكر بتغيير حياة عائلة ما فقط.”

لقد كانت عائلة الحاج تتمنى أن يكون بإمكانهم رد الدين للكفلاء، لكن هذا الأمر يبدو مستحيلاً. “إنهم يعطوننا الكثير، ونحن لا نملك شيئاً لنعطيه لهم،” قالت السيدة الحاج. “لذلك، أنا ومحمد والأولاد نجزل بالدعاء لهم دائماً.”

حالما غادرت عائلة الحاج والكفلاء الشقة متجهين إلى اجتماع أولياء الأمور مع المعلمين، سألت بيجي كاراس فيما إذا كانت السيدة الحاج قد جلبت حفاضة لجوليا، كانت الأم السورية قد دست واحدة في جيبها. في مصف السيارات في المدرسة، دفعت السيدة كاراس العربة بينما ظهرت كارول أتكينز مع الأولاد الأكبر سناً، والذين أحضرتهم من المدرسة. وقد سمح البواب للجميع بالمرور من الباب المقفول، لكنه نظر باستغراب إلى المجموعة المؤلفة من عناصر مختلفة.

إنها عائلة كبيرة،” قالت السيدة كاراس له ضاحكةً.

كان اسم معلمة التوأمين للصف السادس ستيفاني ابوستول، وهي مهاجرة رومانية تعلم، تبعاً لبرنامج خاص، التلاميذ الذين لم يدرسوا في مدرسة رسمية من قبل. كانت لهجتها طويلة، وكانت قيادية وكانت معتادة أن تنادي زاهية وأخاها التوأم، ماجد، “يا أولادي.”

وقد بدأت المقابلة بالإغداق عليهم بالأخبار السارة. فقد كان التوأمان اللذان كانا غير قادرين على القراءة في بداية المدرسة، يفكان رموز القراءة. لقد كانا يُظهران تصميماً كل يوم، وكانا يعملان باهتمام، ويسألان الأسئلة. كانت زاهية دقيقة بينما كان ماجد سريعاً لكنهما كانا يتنافسان بشراسة. حاولت المترجمة مواكبة الثناء، وبينما كانت تترجم لوالدي الولدين، مرت نظرة ارتياح كبير على وجه محمد. فقد حُرِمَ أولاده من الدراسة عدة سنوات. لقد كان يخشى من أن الأوان قد فاتهما فيصبحان أميين مثله. لقد قال: “كنا نخشى من عدم تمكنهم من التعلم.”

لما لاحظت المعلمة مخاوفه العميقة، قررت أن تُريه الإثبات. فطلبت من الولد والبنت أن يختارا كتاباً من بين كومة من الكتب البسيطة.

لعبت سمكة القرش مع مارك في الحديقة حتى حل الظّلام.” قرأ ماجد.

عمل الفرخ حيلة باستخدام الطوب،” قرأت زاهية بتردد أكثر.

توهج وجه السيد الحاج بسعادة وبدا شخصاً مختلفاً. وتوجهت المعلمة للكفلاء بالكلام. “شكراً لكم يا جماعة،” قالت وهي تشاركهم الثقة. “أنتم تساعدوننا وتقدمون الدعم لنا.” أما معلمة متيم فقد كانت أكثر صراحة: لقد طلبت من الكفلاء أن يؤكدوا أنهم سيحافظون على العمل معه، فأجابوا بأنهم سيستمرون حتى يصبح بإمكانه أن يقوم بواجباته بنفسه.

بعد أن أوصلوا العائلة إلى سكنهم، أظهرت أتكنز نيتها لتذهب مباشرة إلى المنزل. لكن عند باب المنزل، أراد منها ماجد أن تقرأ له بطاقة تقرير أدائه، وقد تمسكت بها زاهية ايضاً.

أعتقد أنني سأعود،” قالت لهما.

 

رابط المادة الأصلي : هنا.

 



صدى الشام