بعيداً عن المعارك .. ما الذي ينقص الغوطة الشرقية لتصبح نموذجاً يحتذى للمناطق المحررة؟


 

ليست دويلة صغيرة كم يحلو للبعض أن يردد  فهي لا تحمل مقومات الدولة، يقول أهلها إنهم يعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من سوريا الأم. تؤكد المعلومات من داخل الغوطة الشرقية أنها غدت اليوم تجربة ناضجة في إدارة السوريين لجوانب حياتهم بأنفسهم بعيداً عن نظام الأسد الذي حكمهم أكثر من أربعة عقود من الزمن.

 

كيف تعيش الغوطة الشرقية في ظل حصار فرض من 2013 وحتى اللحظة الراهنة؟، من هي الجهات المسؤولة عن تقديم الخدمات لسكان الغوطة البالغ تعدادهم حالياً قرابة 400 ألف نسمة؟، وما مدى نجاح هذه الإدارة إن صحت تسميتها كذلك أو حتى إن اعتبرناها أشكالاً من تدبير شؤون الحياة لا أكثر؟

كيفما اعتبرناها فهي بالتأكيد نموذج للاعتماد على الذات في المناطق المحررة بمنأى عن النظام.

 

ملامح عامة

كغيرها من المدن السورية الثائرة كان للغوطة الشرقية حضور ثوري برز في وقت مبكر منذ اندلاع الشرارة الأولى للثورة، ومع الجنوح نحو التسلح في محاولة للجم التغول الأمني والعسكري لنظام الأسد شهدت بلدات ومدن الغوطة العديد من المعارك إلى أن تحررت في الفترة الواقعة بين نهاية 2012 وبداية 2013.

بعد أربعة أشهر تقريباً من تحرير الغوطة بدأ الحصار على كامل المنطقة التي تضم عشرات البلدات والقرى، وعلى وجه التحديد بدأت المرحلة الأولى من الحصار اعتباراً من منتصف شهر آذار 2013، تلتها المرحلة الثانية في نهاية 2014 حيث قامت قوات النظام بإغلاق المعبرين الوحيدين إلى دمشق، معبر مخيم الوافدين ومعبر المليحة.

تتألف الغوطة الشرقية في الوقت الراهن من ثلاثة قطاعات رئيسة هي المرج ودوما والقطاع الأوسط، و يسيطر جيش الإسلام صاحب السطوة داخل الغوطة على  قطاعي دوما والمرج بينما يخضع القطاع الأوسط لسيطرة باقي الفصائل مثل فيلق الشام وأحرار الشام وغيرها.

وبالنسبة للجانب الإداري فهو لا يخضع للفصائل العسكرية وفي كل بلدة يوجد مجلس محلي يقدم خدمات عديدة كالنظافة والمياه إضافة للأمور الأخرى، كما تنشط العديد من المديريات والمؤسسات في ميادين التعليم والصحة والقضاء.

 

تجربة

تعتبر مدينة دوما أكبر مدن الغوطة الشرقية نظراً لمساحتها وكثافتها السكانية وحضورها القوي عسكرياً نتيجة تواجد جيش الإسلام فيها.

نقطة أخرى ساهمت في الحضور القوي لدوما في ظل الثورة وهي تأسيس المجلس المحلي للمدينة والذي يعتبره بعض المتابعين خطوة مقبولة ساهمت في تنظيم مرافق الحياة العامة في دوما وقدمت عملاً رائداً على الصعيد الخدمي والعمل المنظم.

المهندس “خليل عيبور” رئيس المجلس المحلي في دوما أوضح في تصريح لـ صدى الشام أن الهيكلية الجديدة للمجلس تضمنت ثماني دوائر فيها 56 مكتباً وتقدم شتى أنواع الخدمات في مجال النظافة والمياه والسجل المدني والعقاري والزراعة وغيرها، ولفت عيبور إلى أن المجالس المحلية في الغوطة تقوم بتنفيذ كافة المشاريع والمبادرات التي يتم تقديمها من قبل الجهات الداعمة.

لكن إدارة الغوطة لا تقتصر على المجالس المحلية فهناك أيضاً مؤسسات أهلية من مجالس أهالي وأعيان في كل بلدة تقوم بالعمل المدني.

 

أن تعيش في الغوطة

يشعر الشاب “أبو معتصم” وهو من منطقة المرج، بالفخر كونه لم يغادر أرض الغوطة حتى في ظل المعارك، “بالنسبة لنا .. نعتبر الغوطة شيئاً كبيراً”، يتحدث أبو معتصم ويتابع “أشكر الله على بقائي في الغوطة، أن تعيش هنا في هذه الأرض المباركة بعيداً عن ظلم النظام  وحكمه الاستبدادي الذي لا يعرف الرحمة هو أفضل نعمة”.

يعمل أبو معتصم كناشط صحفي في المنطقة ويدير المكتب الإعلامي لمنطقة المرج، “في الغوطة الكثير من المقومات من زراعة وصناعة وتعليم، الأراضي الزراعية هي من أكبر أسباب صمودنا على الرغم من الحصار، وهي مزدهرة في الغوطة بعكس الصناعة التي تعتبر ضعيفة بسبب الظروف التي أدت إلى نقص المواد الأولية والكهرباء وغلاء أسعار المحروقات”، يقول أبو معتصم ويضيف: “ما تقدمه المؤسسات العاملة على أرض الغوطة مقبول نوعاً ما، وبالأخص في مجالي التعليم والقضاء اللذين يتمتعان باستقلالية كبيرة، فلدينا مجمعات تعليمية تدير هذه القطاعات في كل منطقة وتتبع جميعها لمديرية التعليم كما أن المؤسسات القضائية ليست تابعة لأي فصيل، وتتبع لها شرطة عسكرية ومخافر”.

هل تكفي هذه الكلمات لوصف الحالة بشكل موضوعي بعيداً عن العاطفة؟ يقول أبو معتصم إن التجربة لا تخلو من أخطاء، “نعم يوجد بعض الظلم لكنه ليس شيئاً بالمقارنة مع الظلم الذي كان يمارسه النظام، سنوات الحصار أدت إلى وجود مصاعب كبيرة في إدارة الغوطة بشكل ناجح، لا أعتقد أن بعض الفشل يعود إلى سوء الشخصيات التي تمسك مؤسسات الغوطة فالحصار ونقص المواد وعدم توفر احتياجات العمل الأساسية كان لها الدور الأكبر في هذا التقصير”.

 

موضوعية

ربما لا يمكننا اعتبار المؤسسات العاملة في الغوطة بمثابة نواة للحكم وتسيير شؤون عشرات آلاف المدنيين.

يعمل الشاب “إبراهيم محمود” على تأسيس جريدة أطلق عليها اسم “نسمات سوريّة” حيث تمكن مؤخراً من طباعتها داخل الغوطة، يؤكد إبراهيم خلال حديثه لـ  صدى الشام أن هناك مجلس محلي في كل قرية وكل بلدة من الغوطة يدير شؤونها، وجميع هذه المجالس تتبع لمحافظة ريف دمشق الحرة، ويلفت إلى أن “درجة استفادة الأهالي من هذه المجالس تتفاوت بين صفر وأربعين بالمئة كحد أقصى”.

لكن محمود أشار إلى نقطة هامة في العمل الإداري قائلاً “لا أعتبر أنه يوجد إدارة للغوطة بشكل عام وإنما لدينا خلايا أزمة تتعامل مع المتغيرات الداخلية والخارجية بما تعرف وأتمنى وجود الأفضل بشكل أكيد”.

ويضيف محمود: “على سبيل المثال لا الحصر لا يمكننا  بالنسبة للموارد البشرية القول إن لدينا إدارة في هذا القطاع وإنما مبادرات من مؤسسات مختلفة حيث تدير كل مؤسسة نشاطاتها ضمن حدود المؤسسة فقط”.

وعن رأيه بتجربة الغوطة من جوانب مختلفة يقول محمود: “أعتقد أن الإنجازات التي حققناها في الغوطة جيدة لكنها في حاجة لإعادة فرز المعطيات وإدخال تغييرات جديدة عليها، لم نستطع تحقيق شيء يذكر على صعيد الشفافية والحوكمة والحريات هذا صحيح، ولكن هذا الحال أفضل من نظام ديكتاتوري شمولي كان يحكم سوريا أكثر من أربعين سنة”.

ويلمح إبراهيم إلى غياب الدور السياسي للشباب في الغوطة كما غابت أيضاً مشاركة المجتمع في صناعة القرار، ويأمل في تبلور دور واضح في مستقبل الغوطة للشباب المثقف وكافة فئات الشعب أهم مكوناته الشفافية في اختيار مؤسسات الثورة.

 

 

غياب الأمان

أكبر خطر يواجه آلاف المدنيين القاطنين داخل الغوطة الشرقية هو غياب الأمان بسبب ما تتعرض له المنطقة من قصف ومعارك كونها تواجه المحاولات المتكررة لقوات النظام وميليشيا حزب الله للتقدم وبسط السيطرة على أراضيها.

“عدنان طه” أحد سكان المنطقة تحدث حول هذه النقطة قائلاً “كشخص يعيش في الغوطة الشرقية أعتبر أنني أعيش في أخطر مكان في العالم حيث الموت يرافق الجميع في كل لحظة، وقد لا تجد مكاناً آمناً تلجأ إليه”.

تؤدي حالة انعدام الأمان وفقدان الاستقرار التي تسببها المعارك إلى الوقوف في وجه أي تطور على المستوى المعيشي لسكان الغوطة بل ويتعدى ذلك إلى الحيلولة دون تحقيق أحلامهم وأفكارهم.

من هذا المنطلق يقول طه: “نعيش حالة قتل مستمرة تمنعنا من التطور بشكل يطابق تطلعاتنا الى المستقبل، بالإضافة لانعكاسات الحصار على حياتنا”.

ويتابع طه بشيء من الأمل: “مع قلة الإمكانيات استطاعت الغوطة فتح المدارس والمشافي وتجهيز دورات وإيجاد فرص عمل من العدم، صحيح أن طموحنا أكبر لكن في ظل الحصار والقتل الممنهج استطعنا البقاء والاستمرار”.

 

ماذا الذي تحتاجه الغوطة؟

تتفاوت الإجابات حول الأمور التي تحتاجها الغوطة الشرقية في وضعها الراهن، يُسهب الصحفي “إبراهيم محمود” في تعداد الأمور التي تفتقدها الغوطة “ينقصنا الكثير على مستويات عديدة، ليس لدينا مقومات الصحة والتعليم وليس لدينا أدنى مستوى من مقومات تأمين الحياة الكريمة لأهالينا، ليست هناك أدوات رقابية ولا إدارة مركزية يمكنها تصحيح مسار المؤسسات الخاطئ وإعادة هيكلتها، كما نفتقد وجود منبر حر، على صعيد الحريات نعاني قليلاً بسبب عدم وجود هامش أكبر”.

من جانبه ينوه المهندس “خليل عيبور” إلى جانب هام على الصعيد المعيشي لأبناء الغوطة: “ما ينقص أي مواطن في الغوطة هو فرص العمل، لدينا ارتفاع في الأسعار وبطالة تزيد على 60 بالمائة”، ويؤكد عيبور “أهم شيء يمكن أن نقوم به هو تنفيذ أعمال تخفف ما أمكن من حدة البطالة”.

أما بالنسبة لـ “عدنان طه” فهو يرى واقع الغوطة من زاويته: “لم نستطع تحقيق حلمنا بالحرية وذلك بسبب تسلط المال السياسي على الثورة، أما العدالة فلم نشاهدها ولم نعرفها إلا في القصص والروايات، إنها غير موجودة في حياتنا اليومية، التبعية المالية والمال السياسي منعا كل تطور وكل حرية وعدالة”.

لكن الصحفي الشاب “إبراهيم محمود” بدا بالمقابل أكثر ارتياحاً وختم بالقول: “الحياة داخل الغوطة جنة بمعنى الكلمة، أن تقاوم نظاماً مستبداً على أرضك وتحقق صموداً كبيراً على الرغم من ظروف الحصار، هذا أمر لا يمكن التفريط به إطلاقاً”.



صدى الشام