قِمَّةُ البحر الميِّت… حضورٌ قويٌّ وقرارٌ ميِّت
5 أبريل، 2017
حسام عبد الرزاق
لقد تعدَّدت القِمَمُ العربية، العاديةُ منها والطارئة، ابتداءً بقمة أنشاص التي عقدت في “أمِّ الدنيا” وأرضِ الكنانة، مصرَ، بدعوةٍ من الملك فاروق، ملك مصر والسودان -آنذاك- عام 1946، ومرورًا بقمة اللاءات الثلاث -لا سلام مع إسرائيل، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا مفاوضات مع إسرائيل– التي عُقدت في عاصمة السودان، الخرطوم، في عقب هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967، وسقوط مزيد من الأراضي العربية تحت نير الاحتلال الصهيوني، وانتهاءً -اليوم- بِقِمَّة الأردن على ساحل البحر الميت، مع تعدد عناوين هذه القِمَمِ، وكَثْرَةِ حضور بعضها، وقلَّةِ حضور أخرى، وعُلُوِّ تمثيل بعض الوفود وتدنَّي تمثيلِ أخرى؛ لكنَّ القاسم المشترك الذي اتفق عليه زعماء الأمة العربية –على الرغم من كثير خِلافهم واختلافهم- أن تكون هذه القِمَمُ قِمَمًا جوفاءَ، تسمع منها جعجعةً دون أن ترى لها أثرًا أو طحنًا.
ولعلَّه من قَبيل قبيحِ الأقدار التي لم يحسب من نَظَّم وهيَّأ لهذه القمَّةِ العربيةِ في الأردن أن يكونَ مكانُ انعقادها على ضفاف البحر الميِّتِ، وخاصَّةً أنَّ مُقرراتِ هذه القمَّةِ – هذا إن جاز لنا تسميتُها بذلك؛ لأنها لا تعدو أن تكون توصياتٍ خجولةٍ -فحسب- غيرِ ملزمةٍ لأحدٍ من الدول الأعضاء في الجامعة العربية، تكون جوائزَ ترضيةٍ لأصحاب الملفَّاتِ السَّاخنةِ الحاضرة على جدول أعمال القمَّةِ – ستكون ميِّتةً حتى قبل إقرارها وولادتها في ظِلِّ حال الانقسام الشديد الذي تعانيه الأنظمةُ العربيةُ، لا الشعوبُ العربية البائسة التي يتلاعب بمصيرهم حفنةٌ من الزعماء المستأسدينَ عليها؛ إذ إن الشعب العربيّ كلُّه، على اختلاف توجُّهاتِه وانتماءاته، مُتَّفِقٌ على أن هذه الاجتماعاتِ لا تعدو أن تكونَ اجتماعاتٍ بروتوكوليَّة لا قيمةَ لها، لا في المستوى الدَّاخليِّ، ولا في المستوى الخارجيِّ، وأنَّ مُخْرَجَاتها وقراراتها على الرغم من تدنِّيها واستهتارها بالرأي العامِّ العربيِّ، ستكون كسرابٍ بِقِيْعَةٍ يحسبه الظمآن ماءً، وستبقى حبيسةَ أدراج الجامعة كغيرها من مُقرَّرات القِمَمِ العربية السابقة .
إنَّ المواطن العربيَّ بات يُدرك إدراكًا قاطعًا ويقينيًّا أنّ أنظمته الحاكمة، على ما هي عليه من تسلُّط وديكتاتوريةٍ، لن تتخذ أيَّ قرار يحقِّق أحلامَهُ في حدِّها الأدنى؛ مما يحفظ له كرامتَهُ التي هدرتها تلكم الأنظمةُ المتآمرة على قضاياه، ابتداءً وانتهاءً؛ لذلك، فإنَّك لن تجدَ الشعبَ العربيَّ من محيطه إلى خليجه آبهًا لموعد القِمَّةِ، ولا لمن حضرها، ولا لجدول أعمالها ولا حتى لمقرَّراتها ومُخْرَجاتها وتوصياتها؛ لأنَّها كَغُثاء السَّيل الذي سُرعان ما يضمحلُّ ويختفي.
إنَّ ذاكرة المواطن العربيِّ البائسِ واليائسِ من أنظمته وحُكَّامه، تكاد تغصُّ منذ باكورةِ انعقاد هذه القِمَمِ العربية وحتى يومنا هذا بمآسٍ ونكباتٍ وانتكاساتٍ جعلت سقف توقُّعاتِهِ من هذه القِمَمِ ومن المؤتمرينَ فيها خفيضًا، إنْ لم يكن معدومًا بالكُلِّيَّةِ؛ إذ كيف يُمكن لهذا المواطن العربيِّ الذي احْتُلت أرضه، ونُهبت ثرواته، وهُتكت حدودُه وحرماتُهُ، ثم يَرى تداعي هؤلاء “القادَةِ والزُّعماء” الذين يمثلون قِمَّةَ الهرم السياسيِّ في بُلدانهم إلى مثل هذه المؤتمرات والقِمَمِ، ثمَّ لا ترشح عنها إلا قراراتٌ هزيلة ضعيفة، لا تكاد تُسمن ولا تغني من جوعٍ، وكأنَّ هُموم الشارع العربيِّ وأحلامه وآلامه وآماله في وادٍ، وهذه القِمَم بمن فيها، وبما يَصدرُ عنها، في وادٍ آخر؛ كأنَّ بينهما برزخٌ لا يَبغيان.
إنَّ هذه القِمَّةَ وغيرَها من قِمَمِ الحُكَّام والأنظمة العربية لن يُرجى منها خير، ولن يَصدر عنها إلا ما فيه هوانُ الأمةِ وسحقُ هامتها وإذلالُ كبريائها، طالما أنَّ هناك طابورًا خامسًا يقودُهُ بعض الحُكَّام العربِ والأنظمةِ القمعية والديكتاتورية المنتسبة زورًا وبهتانًا إلى القوميَّةِ العربية، غايتُهُ إفشالُ أيِّ تحرُّكٍ عربيٍّ -ولو كان خجولًا- حتَّى وإن كان على مستوى الكلماتِ والنبرة الخطابيةِ للبياناتِ الختاميَّةِ.
إنَّ هذا الطابورَ الخامسَ لا يمكن أن يسمح لأيِّ قرار جريء تستدعيه الأوضاع الراهنة والأحداثُ القائمة والأحوالُ المتردِّية أنْ يمرَّ عبر هذه القناةِ العربيةِ الجامعةِ، أو غيرها من القنوات؛ بل غايةُ جهد هذا الفريقِ المتآمرِ من القادة المدَّعين للعُروبة إحداثُ مزيد من المعوِّقاتِ والمشكلات والاختلافات مع الدُّول الأعضاء؛ لكيلا ينفضَّ أيُّ اجتماعٍ عربيِّ إلَّا عن مزيدٍ من الشِّقاق والفُرقةِ والتشرذم، ومن ثَمّ؛ تكونُ غايةُ هذه القِمَمِ محاولة رأب الصدع الداخليِّ بدلًا من التصدي للمخاطر الخارجيَّةِ المحدقة بكيان الأمَّةِ ووجودها.
إنَّنا اليومَ في مرحلةٍ حاسمة ومفصلية من تاريخ الأمَّةِ العربية، تستدعي من المؤتمرين العربِ -لا المتآمرينَ منهم- تَبَنِّي قراراتٍ جريئة تكون على مستوى الأحداثِ الراهنة والمخاطرِ المحدقة، وطالما بقيت الجامعةُ العربيةُ على هذه الشاكلةِ من البيروقراطيةِ السَّخيفة والدُّبلوماسياتِ المهترئةِ والمجاملات القَميئةِ، مع تِلكم الأنظمة التي تَتَبَنَّى نهج الدِّفاع عن أعداء الأمَّةِ التاريخيين، والتسويقِ لهم على أنَّهم إخوةٌ وأشقاء، على الرغم من كلِّ ما يصدر عن هؤلاءِ وعن أعوانهم وأقزامهم من إرهابٍ وقتلٍ وتدميرٍ لشعوب أمَّتِنَا، فإنَّنا نَتَّجِهُ حتمًا، وبما لا يدعُ مجالًا للشكِّ، نحو نفقٍ مظلمٍ قد يطول خروجُنَا منه.
إنَّ الحلَّ الوحيد لتكون الجامعةُ العربية ذات فاعليَّةٍ وأهميةٍ وقراراتٍ قويةٍ، أن تسعى إلى تنقيةِ نفسها من هذا الأنظمة الفيروسيَّةِ التي تسعى إلى تلويث الأجواء العربية؛ ما يزيد أمَّتَنَا تفرُّقًا وشَعَثًا؛ إذ لا يُرجى من تلك الأنظمة الخائنة لشعوبها والمنقلبة على الشرعية والديمقراطية في بلادها، وتحاول أن تصوِّر العدوَّ التاريخيَّ للقومية العربية، والداعم للميليشيا الطائفية التي ترفع شعارات الثأر التاريخيِّ في العراق وسورية ولبنان أنه الصديق الصدوق والأخ الحميم، متناسيًا أو متجاهلًا شلالاتِ الدِّماء واستغاثاتِ الأرامل وصرخاتِ اليتامى وأنينِ الأيامى في بلادٍ ضربها حِقْدُ هَمَجِ هذا العصر وبرابرتِهِ، أن تكون حاميةً للعروبة وحريصةً على تحقيق وحدة الكلمةِ ورَصِّ الصَّفِّ؛ إذ كيف لأنظمة مرفوضةٍ داخليًّا؛ لِمَا سعت إليه من تفرقةِ أبناءِ الشَّعب الواحد، لتسوِّق لنفسها خارجيًّا على أنها حاميةُ السِّلم الأهلي في بلادها، أن تسعى إلى توحيدِ الأمَّةِ ودعمها؛ لتكون أقوى في وجه أعدائها، وهم في الواقع أعداؤها الحقيقيُّونَ الواجب التخلص منهم ابتداءً؛ لتتمكَّنَ الأمَّةُ من النهوض، ولتكونَ قادرةً على اتخاذ قراراتٍ صار من الحتمِيِّ اتخاذها في هذه اللَّحظات الحاسمة من تاريخ أمَّتِنَا المعاصر الذي يُهدد وجودَها أعداءُ الخارج وأذنابُ الدَّاخل، وما أشبه حال العرب اليومَ بقول أبي الطيب المتنبي وهو يخاطب سيفَ الدولة الحمداني:
وسِوى الرُّومِ خلف ظهركَ رومٌ فَعَلَى أيِّ جانبيكَ تميلُ
[sociallocker] [/sociallocker]