‘“الأسد أو لا أحد”.. من البراميل إلى الغاز السام’
6 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
بدر الدين عرودكي
لم يعد ممكنًا صرف النظر عن، أو تجاهل، هذا الواقع الماثل اليوم أمام أعيننا: لا أحد في العالم يريد التخلي عن نظام الأسد، ولا حتى عن شخص رأسِه، مهما بلغت فظاعة وفداحة الجرائم التي ارتكبها، ولا يزال يرتكبها، بحق السوريين. ست سنوات مضت، وحديث ضرورة بقاء الأسد ونظامه بات لازمة موسيقية مملة، يرددها الجميع على مقامات مختلفة: من الإيرانيين الذين جعلوا منه مطية طيِّعة لهم، إلى الروس الذين هرعوا لإنقاذه حين كان على شفا حفرة من الانهيار الكامل، إلى “أصدقاء” سورية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تتوقف يومًا عن القيام بأي فعلٍ يطيل عمر هذا النظام بطريقة أو بأخرى، من ناحية، وفي الوقت نفسه، عن تأنيبه بالتصريحات الصحافية المهدِّدَة، لكنها المشجعة على الاستمرار في جرائمه، من ناحية أخرى. ظهر ذلك كله واضحًا في كل مناسبة، سواء في قرارات مجلس الأمن وما انطوت عليه من غموض يستدعي مختلف ضروب لا حدود لها من التفسير أو الفهم، أو في القرارات الصادرة عن مؤتمرات جنيف المتوالية التي صيغت قراراتها، هي الأخرى، بطريقة يمكن لكل طرف معنيٍّ أن يفهمها كما يشاء. أما الفيتو الروسي أو الصيني، أو كلاهما معًا، فهما يتدخلان كلما دعت الحاجة لإعادة عقارب الساعة إلى نقطة البداية. وكان استخدام الأسلحة الكيماوية من النظام الأسدي ليلة 21 آب/ أغسطس 2013، وسبق أن أُعْلِنَ خطًا أحمر من البيت الأبيض آنئذ، ومواجهته من خلال إبرام صفقة مع النظام الأسدي برعاية الروس، أبلغ برهان على حقيقة مواقف الجميع: أصدقاء وأعداء، محليين ودوليين.
بدا واضحًا أن مصالح جميع الأطراف الفاعلة، على تناقضها أو على تباينها، تقتضي هذا الموقف. لم تكن إسرائيل، بالطبع، بعيدة عن الدفع في هذا الاتجاه. لكن المصلحة الأميركية العليا، وهي الأساس هنا، أدّت، كما هو واضح، ومنذ إخراج مصر من دائرة الفعل والتأثير في محيطها العربي والإقليمي، إلى اتخاذ مواقف أقل غموضًا وأكثر خبثًا من سواها. إذ يمكن إدراج مواقفها من الحركات الثورية العربية الأخيرة ضمن سلسلة المواقف التي اتخذتها منذ ما يقارب أربعين عامًا مع الحرب العراقية- الإيرانية، واستهدفت ما أسماه ممثلوها الرسميون منذ عهد جورج بوش الابن: الفوضى الخلاقة، في صيغة تخضع -في التعبير عنها بحسب ميول الإدارة القائمة في البيت الأبيض- للتعديل كلما اقتضى الأمر ذلك. ولعل موقفها في الحالة السورية يمثل أساسًا ضروريًا لفهم مجريات السياسة الأميركية اليوم في المنطقة العربية وما حولها.
كان النظام الأسدي، ومنذ أيام الثورة الأولى قبل ست سنوات، يعلم حق العلم موقعه بين النظم العربية الأخرى، مثلما يدرك أهمية الوظيفة التي يقوم بها في المنطقة مستجيبًا لحاجات مختلف هذه الأطراف الفاعلة إقليميًا ودوليًا؛ لذلك، لم يوفر أي سلاح يقمع به ثورة السوريين عليه. كان جميع الأطراف، خارج سورية، يعلمون هم أيضًا، ما كان ذلك يعني. ويتصرفون بناء عليه. وكان كل طرف يحاول أن يفسر ما يجري في سورية بما يتيح له أن يسوِّق لمصالحه المعلنة أو الخفية. تعلو الأصوات في المؤتمرات الصحافية. ويبدو ما يقال فيها من واشنطن إلى موسكو، مرورًا بجنيف وفيينا، وسواهما من العواصم الأوربية، عن ضرورة “رحيل الأسد”، كما لو كان لحنًا تردده على التوالي، أو في آن واحد، مختلف مجموعات الآلات في فرقة سمفونية.
أما الغائب الوحيد عن كل ذلك فهو الشعب السوري الذي بدت عمليات تدمير مدنه وقراه المنتظمة تستهدف تهجيره، داخل سورية وخارجها، تحت وطأة قصف القنابل والبراميل والغازات السامة، في عملية منظمة حظيت بموافقة الجميع مسبقًا. لكن الغائب الأكبر، بمعنى آخر، هم أولئك الذين تصدوا لتمثيله في منظمات وهيئات بزعم الدفاع عن ثورته وأهدافها، وكانوا يعلمون جميعًا أن نظام الأسد يرفض مبدأ التفاوض، بعد أن قبل مبدأ الحوار نظريًا، ثم سرعان ما أطاحه عمليًا.
لذلك، بدا كما لو أنهم انزلقوا، بوعي أو بغير وعي، إلى الفخ الذي نصبه لهم من قدموا أنفسهم بوصفهم “أصدقاء سورية”، وتجسَّدَ في موضوع “المفاوضات” التي أقرها، بما كانت تعنيه في غفلة عن الجميع، مؤتمر جنيف الأول عام 2012 الذي صار مرجعية أممية أولى على غموض مقرراته؛ كي لا نقول خبث صيغتها. “مفاوضات” لن تنتهي إلا بما يحقق رغبات الأطراف جميعًا، باستثناء السوريين أنفسهم ومن يمثلهم: بقاء النظام الأسدي على ما هو عليه، بنية وتنظيمًا، بعد أن أُضعف عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا والاستمرار في استثماره غطاءً غير رسمي للاحتلال الروسي في المقام الأول، مع احترام المصالح الأميركية أساسًا، ومصالح مختلف القوى الإقليمية تاليًا.
هذا، في الواقع، ما يسمح بفهم أسباب توالي تصريحات القوى الإقليمية حول قبولها إلغاء شرط إزاحة الأسد ونظامه في الحل السياسي الذي دعت إلى الوصول إليه مؤتمرات جنيف المتوالية. فقد بدت العمليات الإرهابية التي جرت في عدد من الدول الأوربية خلال السنتين الأخيرتين، وتبنتها “داعش”، كما لو أنها تدفع بحكومات تلك الدول إلى تغيير أولوياتها في تعاملها مع المسألة السورية؛ بمنحها الحجة الضرورية لذلك. صارت الأولوية هي القضاء على الإرهاب، في اعتماد صريح وحرفي لما كان يطالب به النظام الأسدي وحليفه الروسي!
شيئًا فشيئًا تسرّبت هذه المواقف إلى سياسات دول، كانت لا تكف عن ترداد أولوياتها في كل مناسبة سياسية أو دبلوماسية: ضرورة إزاحة نظام الأسد. وكان بوسع أي مراقب أن يلاحظ كيف أنجزت الانعطاف التركي في هذا المجال، على استحياء في البداية، ثم باسم ضرورة الإقرار بالواقع! لا بل إن قوىً إقليمية أخرى، وهي على وشك القيام بمثل هذا الانعطاف، في طريقها إلى التمهيد لها عبر تقديم صحفها للمسألة السورية، كما لو كانت تختصر في الخطأ الجسيم الذي ارتكبه الأسد حين ترك إيران تستقر في قصره وتستحوذ على قراراته. فإيران، بحسب هذا المنطق، هي سبب خصومة النظام السوري مع الدول العربية التي تدافع عن نفسها ضد التمدد الإيراني. هكذا تصير خطيئة الأسد الابن عدم اتباعه سياسة أبيه في علاقاته العربية والإيرانية، ولاسيما حين أبقى على شعرة معاوية مع كلٍّ من الطرفيْن. لذلك، يتطلب التحول إلى التعامل بإيجابية مع الواقع السياسي الجديد، المتمثل في إعادة التأهيل الجارية الآن، أن يقوم النظام الأسدي بإنهاء الوجود العسكري الإيراني في سورية. ذلك هو الشرط الأساس؛ كي يتم الاعتراف بإعادة تأهيله على نحو كامل. وهو شرط بات يبدو مع إدارة ترامب، شديد التناغم مع انعطاف سياسته الحالية نحو إيران.
هكذا ندرك الأسباب الحقيقية والخفية وراء دعم الشعب السوري ممن أطلقوا على أنفسهم صفة “أصدقاء”؛ فقد كان كلٌّ منهم يهيئ، على طريقته وفي مجاله، الأرضية الملائمة للقرار الذي سيعلنه “الصديق” الأول، الولايات المتحدة الأميركية على الملأ: ليست الأولوية رحيل الأسد، بل القضاء على “داعش”، وما على هؤلاء الأصدقاء -الآن- إلا ترتيب الإخراج الإعلامي والسياسي لمواقفهم الحقيقية. وقد بدأ بعضهم يفعل.
كانت سياسة “العدو” وسياسة “الصديق” تجاه ثورة الشعب السوري هي نفسها، لكنها تقال بلغتين. ولم يكن -من ثمَّ- ضروريًا القيام بثورة مضادة بطريقة أو بأخرى. بل الإبقاء على نظام أتقن القيام بدوره خلال نيف وأربعين عامًا. قد يخطئ هنا أو هناك، وقد أخطأ. لكنه يبقى الأفضل في نظر الجميع.
كان ذلك معروفًا لدى مراكز القرار الدولي كافة، لا على مستوى الزعماء أو الوزراء المختصين فحسب، بل حتى على مستوى كبار الموظفين.
إلا لدى بعض من استحوذوا على أمر تمثيل الثورة السورية..
فهل ستكون المجزرة الكيماوية في خان شيخون القشة التي ستقصم ظهر البعير.. أخيرًا؟
[sociallocker] [/sociallocker]