لماذا لا تستطيع الحقائق تغيير القناعات.؟

6 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
42 minutes

الكاتب الأصلي: Julie Beck المصدر: اضغط هنا تاريخ النشر: 3 نيسان (أبريل), 2017 الناشر:  أتلانتك – The Atlantic اللغة الأصلية:  الانكليزية
ترجمة : السوري الجديد

“أتذكر أنني أنظر إليها وأقول في نفسي: إنها تكذب!!. في الوقت نفسه أسمع صوتاً من داخلي يقول: ولكن هذا لا يهم.” بالنسبة لدانييل شو مسألة تصديق كلام المعلم الذي قضى سنوات من عمره تحت يديه لم يكن مسألة إيمان أعمى بل كان اختياراً قام به. “أتذكر أنني في كل مرة أختار تصديقه”

هناك حقائق وهناك معتقدات، وهناك أمور تريدها بشدة تجعلها في نظرك تبدو بمثابة حقائق.

سابقاً في عام 1980 وصل شو إلى مركز سيدها يوغا للتأمل في ولاية نيويورك خلال مرحلة وصفها بأنها “نقطة ضعيفة جداً في حياتي” كان يعاني من مشاكل في العلاقات وفي العمل ولم يبدُ أي نوع من العلاج الذي جربه قادراً على أن يمد له يد العون. ولكن مع مركز سيدها يوغا يقول ” كانت تجربتي هناك جيدة جداً وكان التأمل مفيداً لدرجة أنني أردت الغوص فيه أكثر وأكثر. في نقطة ما شعرت أنني وجدت هدفاً لحياتي.” لذلك في عام 1985 جمع المال وسافر إلى الهند لينضم إلى جماعة غوروماي شيدفيلا ساناندا ، الزعيمة الروحية للمنظمة، والتي كان حولها عشرات الآلاف من الأتباع. ارتقى شو في مراتب المنظمة وقضى الكثير من الوقت مسافراً لصالح المنظمة أحيانا مع غورماي نفسها وأحياناً يمر على مراكز المنظمة في أنحاء الولايات المتحدة.

ولكن في عام 1994 أصبحت منظمة سيدها يوغا تحت المجهر في نيويوركر. مقالة ليز هاريس في الجريدة تفصل مزاعم الاعتداء الجنسي ضد سلف غورماي، مع اتهامات بأن غورماي أط بشقيقها نيتياندا من المنظمة قسراً. يقول شاو بأنه سمع “همسات” حول الاعتداء الجنسي عندما انضم في الثمانينيات، ولكنه “اختار أن لا يكون الأمر صحيحاً”. بعد يوم واحد من وصوله إلى الهند تلقى شو وبقية أعضاء المنظمة دعوة إلى اجتماع شرحت فيه غورماي أن شقيقها وزعيم المنظمة الشعبي سيغادر المنظمة طواعيةً. في هذه اللحظة أدرك شو أنهم يكذبون عليه. وحينها قرر أن الأمر لا يهم “لأنها لا تزال المعلم له ولأنها تفعل كل هذا لسبب أهم. لذلك لا يهم أن تكذب.” (من جانبها أنكرت غوروماي طرد شقيقها، واستمر سيدها يوغا قوية. ويُفترض أن غوروماي هي المعلمة التي ألهمت إليزابيث جيلبريت كتابها الأكثر مبيعاً عام 2006 والمسمى طعام، وصلاة، وحب).

ولكن هذا كان في الماضي. حيث وجد شو في النهاية طريقه خارج منظمة سيدها يوغا وأصبح طبيباً نفسياً. في هذه الأيام يخصص جزءاً من وقته للعمل مع أعضاء الطائفة السابقين وأفراداً من أسرهم.

طُورت نظرية التنافر الإدراكي – الانزعاج الشديد من تبني فكرتين متناقضتين في آن واحد – على يد عالم النفس الاجتماعي ليون فستنجر في خمسينيات القرن الماضي. في دراسة شهيرة اندس فستنجر وزملاؤه بين أعضاء طائفة يؤمنون بدورثي مارتن ويعتقدون أن سكان الفضاء سيأتون لأخذهم في صحون طائرة لإنقاذهم من الفيضانات في نهاية العالم. من نافل القول أن سكان الفضاء لم يظهروا ولا الفيضانات كذلك. ولكن مارتن أصرت على تعديل نبوءتها كل مرة مدعية أن سكان الفضاء لم يظهروا اليوم ولكنهم سيظهرون غداً بكل تأكيد وهكذا. لاحظ الباحثون وعلامة الدهشة على وجوههم أن المؤمنين بها ظلوا محافظين على عقائدهم رغم كل الأدلة التي تبين خطأهم.

“إن رجلاً يحمل قناعة هو رجل من الصعب تغييره” كتب فستنجر وهنري ريكن وستانلي شاكتر في كتابهم عام 1957 عن هذه الدراسة بعدما فشلت النبوءة. وورد فيه أيضاً “أخبره أنك لا توافق على ادعاءه، سيدير لك ظهره. اعرض له حقائق وأرقاماً سيشكك بمصادرك. تكلم بالمنطق تراه لا يستطيع استيعاب وجهة نظرك… افترض أنك قدمت أدلة لا لبس فيها ولا يمكن إنكارها تقول أن اعتقاده خاطئ.. ماذا سيحدث؟ سيُظهر الفرد عندها ليس فقط اقتناعاً غير متزعزعاً بأفكاره بل ربما قناعةً أقوى بحقيقة معتقداته من أي وقت مضى.

هذا العناد في مواجهة الأدلة هو وسيلة للحد من الانزعاج الناجم عن التناقض، وهو جزء من مجموعة السلوكيات المعروفة في علم النفس باسم “الدافع المنطقي”. الدافع المنطقي هو عملية اقناع المرء نفسه أو بقاءه على معتقداته التي يؤمن بها ويسعى للحصول على معلومات مقبولة وسهلة لدعمها في مقابل تجاهله وتجنبه وتناسيه وجداله ضد أي معلومات تتناقض مع هذه المعتقدات.

تبدأ العملية على حدود الانتباه لما يسمح الناس له بالوصول إلى مساحتهم الخاصة. في دراسة أجريت عام 1967 راقب الباحثون سلوك عدد من الطلاب أثناء استماعهم إلى بعض الخطب المسجلة مع إضافة تمثلت بكون الخطب شديدة الضوضاء. ولكن لدى الشخص الخاضع للاختبار إمكانية الضغط على زر يُخفض الضوضاء إذا أراد الاستماع بشكل جيد. في بعض الأحيان كانت الخطابات تدور حول التدخين إما لربطه بالسرطان أو للتشكيك في هذا الارتباط، وأحياناً كان الخطاب ينتقد المسيحية. كان الطلاب المدخنون حريصين جداً على الاستماع إلى الكلام الذي يشير إلى أن السجائر قد لا تُسبب السرطان، في حين كان غير المدخنين أكثر ميلاً للضغط على زر تخفيض الضوضاء أثناء الاستماع إلى مضار التدخين. بشكل مشابه كان الطلاب المتدينون سعيدين بترك الضوضاء تشوش على الحديث المناهض للمسيحية في حين أن الأقل تديناً كانوا يضغطون على هذا الزر من حين لآخر.

خارج المختبر يكون التعرض الانتقائي للمعلومات أسهل. يمكنك ببساطة إغلاق الراديو، تغيير القناة، أو متابعة صفحات الفيس بوك التي تتفق مع آرائك. يمكنك بناء حصن من المعلومات المريحة لك.

ومع ذلك فمعظم الناس ليسوا محصورين تماماً في كهف مسدود. إنهم يفتحون نوافذ في جدران هذا الحصن ويلقون نظرات خاطفة من حين لآخر بل ويذهبون في نزهات طويلة حول العالم خارج حصنهم وبذلك يواجهون أحياناً معلومات تشير إلى خطأ اعتقادهم. الكثير من هذه التصرفات ليست بالأمر الجلل فالناس يُغيرون آرائهم إذا وجدوا أن الدلائل تشير إلى خطأهم افترض أنك كنت تعتقد أن الجو جيد اليوم وخرجت إلى الشارع فوجدت السماء تُمطر ستعود وتأخذ مظلة هكذا ببساطة. ولكن إذا كانت المشكلة في اعتقاد يتعلق بهوية المرء أو بنظرته إلى العالم مثل أن يكون المعلم الذي كرس نفسه سنوات لخدمته متهماً ببعض الاتهامات الرهيبة أو أن السجائر التي أدمن عليها قد تقتله حينها سيتحول إلى سيمون بيليس وسيحاول لعب كل الحيل العقلية التي يحتاجها ليبقى مقتنعاً أنه على حق.

يقول الطبيب النفسي توم جيلوفيتش إن الناس يصفون الأدلة التي تختلف معهم بالضعف لأنهم في النهاية يطرحون أسئلة مختلفة جوهرياً عند تقييم تلك الأدلة اعتماداً على ما إذا كانوا يريدون الإقتناع بها أم لا. “بالنسبة للاستنتاجات المرجوة” يضيف “المسألة تكون كما لو أني أسأل نفسي هل أستطيع الإيمان بهذا؟، ولكن بالنسبة للاستنتاجات غير المرغوبة فإننا نسأل أنفسنا هل يجب علي أن أقتنع بهذا؟” يعامل الناس بعض المعلومات كما لو أنهم يأخذون الإذن منها للاقتناع بعقيدة ما ومعلومات أخرى يبحثون عن طريق للهروب منها.

في عام 1877 كتب الفيلسوف ويليام كينغدون كليفورد مقالاً بعنوان “أخلاقيات المعتقد”، قال فيه: “من الخطأ دائما وفي كل مكان ومن أي شخص أن يبني قناعاته على أدلة غير كافية”

يتحدث لي ماكنتاير بلهجة أخلاقية مشابهة في كتابه احترام الحقيقة الصادر عام 2015 بعنوان الجهل المتعمد في عصر الانترنت يقول فيه “العدو الأول للحقيقة ليس الجهل أو الشك أو حتى عدم التصديق … العدو الحقيقي هو المعرفة المزيفة”

سواءٌ كان الأمر أخلاقياً أم لا فهذه نقطة جانبية لأن الناس سوف يكونون على خطأ وسوف يبنون قناعاتهم على أدلة غير كافية. وفهمهم لطبيعة الأشياء التي يعتقدون بها سيكون غالباً غير مكتمل حتى لو كان الاعتقاد صحيحاً. كم من الناس الذين يعتقدون بالتغيير المناخي يستطيعون شرح آلية عمله؟ وكما أشار الفيلسوف والأخصائي النفسي ويليام جيمس في مقال رداً على مقال كليفورد فإن الإيمان الديني هو مجال يتطلب بحكم تعريفه من الشخص الإيمان دون دليل.

ومع ذلك تبقى كل أنواع الأخطاء مثل نظريات المؤامرة والتآمر والخداع والدعاية والأساطير القديمة الواضحة تشكل خطراً على الحقيقة خصوصاً عندما تنتشر مثل الفطر في المجتمعات وتترسخ في أذهان الناس. ولكن التناقض الصارخ في المعرفة المزيفة هو أن فقط من هم خارجها ولا يؤمنون بها يستطيعون القول إنها خطأ. من الصعب على الحقائق محاربة المعرفة الزائفة فالأمر يبدو لمن يعتقد بها أن يحمل شعلة من الحقيقة.

للوهلة الأولى يكون من الصعب فهم لماذا سمح التطور للبشر بالإبقاء على فكرة مقاومة الحقائق. يقول ماكنتاير الباحث في مركز الفلسفة والتاريخ في جامعة بوسطن ” لا تريد أن تكون شخصاً متشككاً وتسأل هذا ليس نمراً!! لماذا يجب علي الاعتقاد أن هذا نمر؟ لأنك قد تصبح فريسته!”

من منظور تطوري هناك أشياء أهم من الحقيقة. خذ نفس المثال السابق واقلبه رأساً على عقب افترض أنك تسمع صوتاً بين الشجيرات صوتاً يبدو مثل نمر. الشيء الأكثر أماناً هنا هو أن تولي هارباً من هناك حتى لو اتضح في ما بعد أنه كان أحد أصدقائك يحاول العبث معك. البقاء على قيد الحياة أكثر أهمية من الحقيقة.

الحصول على دعم اجتماعي من وجهة نظر تطورية أهم بكثير من معرفة الحقيقة.

بطبيعة الحال تصبح الحقيقة أكثر تعقيداً عندما تتعلق بسؤال أعمق من “هل سأكون فريسة لهذا الوحش أم لا” كما يشير باسكال بوير عالم الانثروبولوجيا وعلم النفس من جامعة واشنطن في سانت لويس في كتابه الأخير “الأشياء الطبيعية : كيف يفسر التطور المجتمعات البشرية” حيث يقول “إن البيئة الطبيعية للإنسان مثل البحر للدلافين أو الجلية للدببة القطبية هي معلومات يُقدمها الآخرون، وبدونها لا يستطيعون الأكل أو الصيد أو اختيار الشركاء أو بناء الأدوات. لا نجاة للبشر بدون التواصل بينهم.”

في بيئة كهذه يحصل الأفراد ذوو المعلومات الأكثر على الاحترام. ولكن الخبرة تأتي بتكلفة من الجهد والوقت. فإذا استطعت أن تُقنع الناس أنك مصدر جيد للمعلومات بدون أن تكون كذلك فإنك ستحصل على فوائد هذا الوضع دون الحاجة إلى بذل الجهد. يزدهر الكاذبون إذا صدقهم الناس. مما سبق استنتج الباحثون أن الدافع المنطقي قد تطور “كدرع ضد التلاعب”. إن التمسك بالآراء والمعتقدات قد يُساعد الناس من الانجراف مع كل داعٍ يملك قصة مقنعة يمر بهم.

يقول بوير “هذا النوع من سباق التسلح بين الخداع وكشف الحقيقة أمر شائع في الطبيعة.”

إن إلقاء قصة طويلة يعطي الناس شيئاً ربما أكثر أهمية من الخبرات الزائفة فهو يتيح لهم معرفة من الذين يقفون إلى جانبهم. إذا اتهمت شخصاً ما بالسحر أو كنت تشرح لماذا تعتقد أن دخان الطائرات هو في الحقيقة عملية رش لمواد كيميائية سامة فالناس الذين يأخذون بكلامك هم بوضوح الناس الذين يمكنك أن تثق بهم ويثقوا بك. أما الناس الذين يرفضون ادعاءاتك أو حتى أولئك الذين يطلبون دليلاً على كلامك فهؤلاء لا يمكنك الاعتماد عليهم ليكونوا بجانبك مهما كانت الظروف.

يقول بوير “أنت تنشر القصص لأنك تعرف أنها بمثابة اختبار حيث تظهر لك الطريقة التي يتفاعل بها الناس مع القصة من هم إلى جانبك” ويضيف “إن الحصول على الدعم الاجتماعي من وجهة نظر تطورية هو أكثر أهمية بكثير من معرفة الحقيقة حول بعض الأمور التي لا تؤثر بشكل مباشر على حياتك”. على سبيل المثال كان التأمل والشعور بالانتماء الذي حصل عليه دانيال شو من منظمة سيدها يوغا أكثر أهمية في حياته من بعض الاتهامات المزعومة التي تطال قادة هذه الجماعة.

لذلك فتمسك الأفراد بالحقائق المزيفة هو ظاهرة اجتماعية. تمسك أتباع دورثي مارتن بإيمانهم أن سكان الفضاء قادمون واحتفظ شو بتبجيله لمعلمه لأن تلك العقائد والأفكار كانت مرتبطة بالجماعة التي ينتمون إليها وكانت الجماعة بالغة الأهمية لحياتهم وتقديرهم لذواتهم.

يصف شو الدافع المنطقي الذي يحصل في هذه الجماعات “أنت في وضع الدفاع عن اختياراتك بغض النظر عن المعلومات المتاحة” ويضيف “لأنك إذا لم تفعل ذلك، فإنك ستخسر انتمائك لهذه المجموعة المهمة جداً لك”. وعلى الرغم من أن الطوائف الدينية هي مثال مكثف عن هذه الحالة إلا أن الناس يتصرفون بذات الطريقة فيما يتعلق بأسرهم أو المجموعات الأخرى التي تهمهم.

في أمريكا الحديثة تُعبر الأحزاب السياسية أحد أكثر المجموعات التي تُشكل الهوية لمؤيديها. الأميركيون اليوم أكثر استقطاباً في السياسية مما كانوا عليه منذ عقود ربما أكثر من أي وقت مضى. بالطبع لا توجد بيانات رأي عام فيدرالية تُشير إلى كل من الجمهوريين والديمقراطيين على حدة لكن العلماء السياسيين ينظرون إلى الاستقطاب الحاد في مجلس الشعب. وتظهر أحدث البيانات أن عام 2015 شهد أعلى معدلات الاستقطاب منذ عام 1879 وهي السنة الأولى التي جرت فيها الانتخابات وكان ذلك قبل زمن سحيق.

استقطاب الأحزاب بين 1879-2015

“تُشكل الأحزاب اليوم جزءاً أكبر من هوياتنا” يقول بريندان نيهان الأستاذ في جامعة دارتموث ويضيف “لذلك من السهل أن نرى كيف يمكننا الانزلاق إلى نوع من القبلية المعرفية”

يظهر الرسم البياني ارتفاع الحزبية في الولايات المتحدة لعقود من الزمن إلا أن انتخابات دونالد ترامب وحتى أوائل فترته الرئاسية جعلت من الحزبية وعلاقتها بالحقائق أحد أكثر أسئلة العصر إلحاحاً. في العاميين الماضيين نُشرت أخبار مزيفة صُممت كاملة لكي تدعم طرفاً على حساب الآخر على وسائل التواصل الاجتماعي مما أقنع الناس أن البابا قد وافق على ترامب أو أن غضب الماكينة الإعلامية ضد ترامب أدى إلى حشد الصور الكثيرة الملفقة له. في حين تشير بعض الدراسات إلى أن المحافظين أكثر عرضة للأخبار المزيفة حيث قال أحد كاتبي الأخبار الملفقة الذي اعتاد كتابة الأخبار التي تستهدف الليبراليين إن أخباره لم تتلق الصدى الذي كان يريده إلا أن الأمر تحول بعد الانتخابات فكما ذكر روبنسون ماير فقد ارتفعت في الأشهر الأخيرة أعداد الأخبار المزيفة والقصص التي تدعي أن ترامب على وشك أن يُقبض عليه أو أن إدارته تستعد للإنقلاب عليه.

على الرغم من كره العديد من الأشخاص في كلا الحزبين لمرشح حزبه – حيث ازدهرت مثلاً في الحزب الجمهوري حركة “لا لترامب” – إلا أنه في نهاية المطاف صوت معظم الناخبين بما يتفق مع الخط العام لسياسة الحزب. وفقاً لاستطلاعات الرأي التي أجرتها سي ان ان فقد صوت 89% من الديمقراطيين لصالح كلينتون وصوت 88% من الجمهوريين لصالح ترامب.

يقول كارول تافريس عالم النفس الاجتماعي وأحد مؤلفي كتاب “أخطاء ارتكبت ولكن ليست بيدي” يقول عن الناخبين الجمهوريين من أعضاء حركة “لا لترامب” لا بد أن الأمر كان “مزعجاً لهم جداً يمكنك أن تسمع صوت التناقض يصدح في أذهانهم. كان لدينا عام كامل لمشاهدة كيف حاول الجمهوريون حل هذه المشكلة. بعضهم رفع شعار “لا لترامب ولا لهيلاري أيضاً” أما آخرون فقالوا “سوف أذهب لأصوت لترامب وأنا أشعر بالاشمئزاز إلا أنني سأفعل ذلك لأنه جمهوري وسيفعل ما يفعله الجمهوريون في البيت الأبيض””

“لقد اتضح أن الحزبية هي المحرك الأقوى للحياة السياسية في أمريكا فهي أقوى من أي معيار ومستقلة عن جميع الحقائق.” وفقاً لفوكس ديفيد روبرتس عند حديثه عن العوامل التي أثرت على الانتخابات. لقد مر دونالد ترامب بالعديد من المواقف التي بدا وكأنها ستؤدي به إلى خسارة دعم أغلبية حزبه مثل فخره بالاعتداء الجنسي وتشجيع العنف في مسيراته ومهاجمة قاضٍ أمريكي بسبب أصوله المكسيكية إلا أن هذا لم يحصل. لقد تعرض ترامب للانتقاد من سياسيين ومعلقين جمهوريين حتى وصفه بعضهم بأنه ليس محافظاً حقيقياً. لكن ما حصل في النهاية هو أن ترامب مرشح جمهوري واستطاع حشد الدعم من قاعدة ناخبي حزبه.

وكأحد الأمثلة القوية على التزوير الحزبي لصالح ترامب فلدى مقارنة صور حفل تنصيب ترامب مع حفل تنصيب أوباما فقد كان الحضور لدى أوباما أكثر إلا أن بعض أنصار ترامب ادعى أن صور الحشد يوم تنصيب أوباما هي صور الحشد يوم تنصيب ترامب. وعندما حدد الباحثون بدقة أي صورة هي صورة الحشد يوم تنصيب ترامب أصر بعض أنصار ترامب على معاندة الحقيقة وقالوا إن الصور يوم تنصيب ترامب تظهر حشداً أكبر من تلك التي أُخذت يوم تنصيب أوباما.

في حين أن ما ذُكر يعد أحد الأمثلة الصارخة على خداع الذات إلا أن دان كاهان يعتقد أن هناك تفسيراً آخراً. الأمر ليس أنهم يعتقدون حقاً أنه كان هناك المزيد من الناس يوم تنصيب ترامب ولكنهم يقولون ذلك كوسيلة للتعبير عن دعمهم لترامب. يقول كاهان أستاذ القانون وعلم النفس في جامعة ييل “لقد عرف الناس ما الذي يحدث” ويضيف ” لقد عرفوا أن شخصاً ما كان يحاول أن يُلمع صورة ترامب أو يشوه صورتهم” والسؤال الذي بين السطور هو “في أي صف تقف أنت؟ “.

في هذه الحالات المشحونة لا ينظر الناس للمعلومات على أنها معلومات مستقلة بل تصبح علامات للهوية. تصبح المعلومات قَبلية.

في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “القصة الحقيقية للأخبار المزيفة هي الحزبية” تقول أماندا توب إن مشاركة القصص الكاذبة والأخبار المزيفة التي تشوه صورة المرشح المعارض على وسائل التواصل الاجتماعي “هي طريقة لإظهار الدعم الشعبي لفريق حزبي معين الأمر يشبه رسم ألوان الفريق الذي تشجعه على وجهك قبل المباراة”.

هذا النوع من المعلومات القبلية ليس ناجماً عن افتقار للذكاء أو عدم القدرة على فهم الأدلة. وكان كاهان قد أشار سابقاً أن مسألة “إيمان” الناس بالتطور لا علاقة لها بفهمهم للنظرية إن مجرد قول المرء أنا لا أعتقد بالتطور هو طريقة أخرى لقول أنا دينيّ. وبالمثل وجدت دراسة حديثة أجرتها بيو أن ارتفاع مستوى المعرفة العلمية لدى الجمهوريين لم يجعلهم أكثر تقبلاً لمسألة التغير المناخي على الرغم من تأثيره على الديمقراطيين.

علاوة على ذلك يمكن أن يكون للذكاء والتعليم العالي أن يزيد الأمر سوءاً. فكلما ارتفع الذكاء لدى شخص ما كلما زادت لديه القدرة على التوصل إلى حجج لدعم الموقف ولكن فقط الموقف الذي تبناه مسبقاً كما أظهرت أحد الدراسات. مستويات علية من المعرفة تجعل الشخص أكثر عرضة للدافع المنطقي ربما لأن لديه المزيد من المعلومات التي يستطيع الاستناد عليها عند صياغة حجة مضادة.

يتعلم الناس أيضاً انتقائياً إنهم أفضل في تعلم الحقائق التي تؤكد وجهة نظرهم من تلك التي تعارضها. وبوجود الإعلام يزداد الأمر سوءاً. وفي حين يبدو أن التغطية الإخبارية لأي موضوع تزيد عموماً معرفة الناس به إلا أن أحد الدراسات بعنوان “التحيز الإدراكي وبيئة المعلومات” أظهرت أنه عندما يكون للتغطية الإخبارية تأثير على الحزب السياسي للشخص فإن التعلم الانتقائي يصل إلى أعلى مستوياته.

تقول جينيفر جيريت “يمكن أن يكون لديك تغطية إخبارية جيدة لحقيقة أو حدث ما، ولكنك لا ترى أو لا تعلم رأي أولئك المستعدين للمجادلة والاختلاف معك حول هذه الحقيقة” وهي أستاذة العلوم السياسية في جامعة ستوني بروك وأحد المشاركين في تأليف دراسة “الحزبية والتصور”. وتضيف “تشير نتائجنا إلى أنه قد تكون هناك حاجة إلى مستويات غير عادية من التغطية الإعلامية بغية إيصال معلومات للمتحزبين تتناقض مع آرائهم السياسية.”على سبيل المثال يؤيد الديمقراطيون بأغلبية ساحقة مشاريع القوانين لحظر مادة BPA ومنعها عن الاستخدام المنزلي، على الرغم من أن إدارة الغذاء والدواء وجدت هذه المادة آمنة في المستويات المنخفضة المستخدمة حالياً. هذه المخاوف تعكس حالة “كيميافوبيا” غالباً ما يُصاب بها الليبراليون وفقاً لبوليتيكو.

وقد تكون البيانات التي يدلي بها السياسيون أو مساعدوهم بغرض تصحيح المفاهيم الخاطئة غير فعالة. لقد أظهرت دراسة نيهان أن تصحيح التصورات الخاطئة لدى الناس لا يعمل في كثير من الأحيان بل إنه قد يخلق أثراً رجعياً مما يجعل الناس يصدقون تصوراتهم الخاطئة بشدة.

يقول جرييت لقد تمكن الباحثون من محاربة الدافع المنطقي في بعض الأحيان في الدراسات التجريبية في المختبر من خلال توجيه العاملين إلى التركيز الكامل على المهمة التي بين يديهم ولكن من غير الواضح كيف يمكن ترجمة هذا الكلام إلى العالم الواقعي حيث يرتدي الناس المعلومات مثل زي فريق كرة القدم الموحد. خصوصاً أن كثيراً من الأقاويل السياسية الكاذبة لها علاقة بقضايا لا تؤثر على حياة الناس اليومية.

يقول كاهان: “معظم الناس ليس لديهم سبب لتبني موقف من تغير المناخ بعيداً عن التعبير عن هويتهم” ويضيف ” إن سلوكهم الشخصي لن يؤثر على المخاطر التي يواجهونها. لا يهمهم كناخبين رؤية مخرجات تلك السياسات ونتائجها إن تبني هذه السياسات بالنسبة لهم هو مجرد شارة عضوية في هذه المجموعة، وهذه هي الطريقة التي يعالج بها معظم الناس المعلومات.”

اختارت قواميس أكسفورد في عام 2016 كلمة “مابعد الحقيقة” ككلمة العام. وعُرفت بأنها “تتعلق أو تدل على الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام من النداءات العاطفية والمعتقد الشخصي.”

كان ذلك في العام الذي كذب فيه المرشح الانتخابي الفائز في حملته الانتخابية، عندما كثرت الأخبار المزيفة، وعزل الناس أنفسهم في قوقعة من وسائل التواصل الاجتماعي التي تخبرهم فقط بما يريدون سماعه. وبعد التيه طويلاً في قاعة من مرايا الحزبية، جائت “الحقائق” ملتوية حتى أن الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء اتُهموا بالعيش في “فقاعة المرشح” أو “غرفة صداه” أو حتى في “واقع بديل”.

يبدو أن كتاب فرهاد مانجو “صحيح بما فيه الكفاية: تعلم كيف تعيش في مجتمع ما بعد الحقيقة، يبدو أنه كان ليصدر بالأمس – مع وصفه لكيف تفككت وسائل الإعلام، وكيف تغلبت العقائد على الحقائق، وحتى أن الحقيقة الموضوعية نفسها أصبحت خاضعة للنقاش والجدال- لكن الكتاب في الحقيقة كان قد نُشر عام 2008.

يقول مانجو، وهو الآن كاتب عمود في مجال التكنولوجيا في صحيفة نيويورك تايمز: “في الوقت الذي خرج فيه الكتاب كانت تساورني بعض الشكوك حول صدقية التنبؤات ومدى واقعية الفكرة” ويضيف “كانت إحدى أدلتي أنه في السياسة لا توجد غرامة تُدفع عند الكذب” في ذلك الوقت كانت الكثير من الأكاذيب تحوم حول المرشح الرئاسي باراك أوباما – أنه مسلم وأنه لم يُولد في الولايات المتحدة – إلا أن تلك الأكاذيب لم تستطع في النهاية أن تنال منه.

يقول مانجو “في هذا المثال كان لدينا شخصٌ عقلاني جداً، يؤمن بالعلم، وكان هدفاً لتلك الأكاذيب التي لا أساس لها، ولكنه في النهاية نجح” ويضيف مانجو “لقد بدا الأمر وقتها أن الانتخابات حقاً هي مصدرٌ للحقيقة واليقين، تلك الانتخابات التي لاحقاً لم تعد كذلك”

كان هناك الكثير من أقوايل “ما بعد الحقيقة” تدور خلال إدارة أوباما، سواء كانت شائعات بيرثر (التي أطلقها الرئيس الحالي) والتي رفضت ببساطة أن تختفي، أو النقاش حول “لوحات الموت” الغير موجودة في قائمة الأسعار المقبولة في التأمين الصحي.

يقول مانجو “بدأت أعتقد أن فكرتي كانت واقعية أكثر مما ظننت سابقاً” ويضيف ” ثم جاءت انتخابات عام 2016 التي أكدت كل مخاوفي”.

لكن نيهان يقول إن المشكلة ” تكمن في أن مصطلح ما بعد الحقيقة يقترح وجود عصر ذهبي لم يكن واقعياً ففي الحقيقة لم يحدث أن بُني أي نقاش سياسي على أساس الحقائق والمعلومات”

لقد كان الناس دائماً قَبَليين واعتقدوا دوماً بأشياء ليست صحيحة. هل هذه اللحظة مختلفة حقاً أم أن الأمر لا يعدو ارتفاع الرهانات على اللحظة الحالية؟.

لقد ازدادات الحزبية بالتأكيد لكن الأمريكيين لطالما كانوا متحزبين حتى الحرب الأهلية. البيئة الإعلامية اليوم فريدة من نوعها بالتأكيد رغم اتباعها بعض الأنماط الكلاسيكية. هذه ليست المرة الأولى التي يكون فيها منشورات حزبية أو الكثير من المرشحين أو حتى صوامع للمعلومات. يحزن الناس أحياناً على فقدان نموذج منتصف القرن العشرين عندما كانت هناك فقط القليل من الصحف والقنوات التلفزيونية التي تعطي للناس أخبارها بغير انحياز. ولكن الأمر كان مختلفاً في القرن التاسع عشر فلقد كانت الصحف تتنافس على اجتذاب أنظار الناس بعنواين براقة وكانت الصحف الديمقراطية والجمهورية في زمن الآباء المؤسسين تترصد بعضها أخطاء بعض. في الوقت الذي لم يكن التواصل فيه سهلاً كما هو الآن كانت الأخبار محلية أكثر، يمكنك القول إن الناس كانوا في صوامع أخبار محلية. إن نموذج منتصف القرن العشرين من “الإعلام الرئيسي” كان أمراً استثنائياً.

إن الوضع اليوم أشبه بعودةٍ إلى تلك الأيام السيئة الماضية من التحيز والمنافسة والقوقعة في الصوامع ولكنها “عودة مشحونة” وفقاً لمانجو الذي يقول أيضاً “الأمر ليس مجرد اختيار قراءة الأخبار التي تؤكد قناعاتي، ولكنني أشارك هذه القناعات أيضاً وأرسلها إلى أصدقائي. أعتقد أن محتوى الخبر أقل أهمية مما يقوله صديقي في تعليقه على هذا الخبر” هذه الصوامع لم تعد جغرافية فحسب بل أصبحت عقائدية وبالتالي أقل تنوعاً. أظهرت دراسة حديثة في وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم والتي حللت تفاعل 367 مليون مستخدم للفيس بوك مع 900 خبر أن “الاختيار الانتقائي يقود عملية قراءة الخبر”.

بالمقابل لا يوافق الجميع على وجود هذه الصوامع. يقول كاهان إنه غير مقتنع: “أعتقد أن الناس يفضلون المصادر التي تدعم موقفهم. هذا لا يعني أنهم لا يواجهون ما يقوله الطرف الآخر” ولكنهم ببساطة يتجاهلونه.

إن الحجم الهائل للانترنت يسمح لأي إنسان بالعثور على دليل (دليل مشكوك في صحته أحياناً) على أي إدعاء يريد أن يصدقه، ودلائل أخرى ضد أي ادعاء يريد أن يدحضه. ولأن البشر لم يتعودوا العمل في مثل هذا البحر من الناس والمعلومات يقول بوير يمكن أن ينخدع الناس بالظن أن بعض الأفكار أكثر انتشاراً مما هي عليه في الواقع.

يقول بوير” عندما كنت مضطلعاً بأعمال ميدانية في قرىً صغيرة في أفريقيا، رأيت أمثلة لأشخاص لديهم إيمان غريب” ويضيف “إنهم يعتقدون أنهم إذا ما تلوا تعويذة معينة على شيء ما فإنه سيختفي. أما الآن فمعظم الناس حولهم يضحكون ويقولون لهم هذا غباء. هذا كل شيء. يبدو أن هذا النوع من الخرافات في طريقه للاختفاء.

ولكن كلما زاد حجم المجتمع كلما ازدادت احتمالية عثور الشخص على آخر يشاطره معتقده الغريب. فكيف سيكون الحال إذاً والمجتمع هو كل البشرية المتصلة بالإنترنت وتتحدث معك بلغتك!

يقول بوير:”إذا واجهت عشرة أشخاص لديهم نفس الفكرة تقريباً، فإن هذا الأمر قد يخدعك ويدفعك إلى الظن أن الفكرة صحيحة لأن الكثير من الناس يتفقون معها” ويضيف “هناك افتراض خاطئ وقعت به دون وعي منك في هذه الحالة وهو أن هؤلاء العشرة قد وصلوا إلى هذه النتيجة كل على حدة. إنك لا تفترض أن تسعة من هؤلاء العشرة هم في الواقع يرددون ما يقوله العاشر”

جزء من المشكلة يكمن في أن المجتمع البشري تطور إلى مرحلة صار فيها تبني حقيقة ما يعني قبول أشياء ليست لك تجربة مباشرة معها أو أنك لا تفهمها تماماً. في بعض الأحيان يضطر المرء إلى تجاهل حواسه فالأرض لا يبدو أنها تتحرك ولا يمكنك أن ترى تغير المناخ من نافذة بيتك.

حيثما تفتقد الخبرة يجب عليك الاعتماد على الثقة. حتى كليفورد اعترف بقبوله هذا المعنى حيث يقول لكي تتبنى قناعة شخص ما “يجب أن يكون لديك سبب معقول لافتراض أنه يعرف ما الذي يتحدث عنه”

المشكلة أن اختيار من وأين يضع الناس ثقتهم هو اختيار قَبَلي. الإحالة إلى الخبراء تبدو بداية جيدة لكن كاهان وجد أن الناس يعبرون الخبراء المتفقين مع وجهة نظرهم أكثر مصداقية من أولئك المختلفين معها.

على العموم انخفضت في الولايات المتحدة ثقة الناس ببعضهم عما كانت عليه سابقاً. منذ عام 1972 سألت الدراسة الاستبيانية العامة عدداً من المجيبين: “بشكل عام هل يمكن القول بأن معظم الناس يمكن الوثوق بهم أو أنه لا يمكنك أن تكون حذراً جداً في تعاملك مع الآخرين؟” في العام 2014 سجل عدد الناس الذين قالوا أن الجميع يمكن الوثوق بهم انخفاضاً قياسياً.

نسبة الأمريكيين الذين قالوا إن معظم الناس يمكن الوثوق بهم

من ناحية أخرى هناك “ثقة خاصة” توليها لمن ينتمون إلى مجموعتك. يقول مانجو في كتابه “كلما زادت ثقة الناس فيمن يشبهونهم كلما زادت ثقتهم في أبناء بلدتهم وكلما قلت ثقتهم بالغرباء.”

هذا الأمر يُغذي القَبَلية. يقول إيريك أوسلانر الأستاذ في العلوم السياسية في جامعة ميرلاند “أصحاب الثقة الخاصة غالباً ما ينضمون إلى المجموعات التي فيها أشخاص يشبهونهم ويتجنبون بالمقابل الأنشطة التي فيها أشخاص لا يرونهم جزءاً من مجتمعهم الأخلاقي”.

لذلك فالأشخاص المصنفون من أكثر من يعطي “الثقة الخاصة” سيكون من المرجح لديهم تصديق معلومات قادمة من آخرين من نفس مجموعتهم وإذا كانت تلك المجموعة أيديولوجية سيكون الناس الذين يتناقلون المعلومة قد تبنوها سابقاً وهكذا تدور الحلقة المفرغة.

هذا أيضاً سبب رئيسي لكي لا يثق الناس بالإعلام. ليس لأن مقالات الصحف لم تكن متحيزة يوماً، ولكن افترض وجود مقال موضوعي تماماً يمثل عادلاً ومحايداً كل الأطراف فمن المرجح أن يُنظر له على أنه متحيز من كلا الطرفين. يكتب مانجو مفسراً أن الجميع يعتقد أن لديه الجانب الأصح والأدلة الأقوى وبالتالي فإذا كانت المقالة موضوعية تماماً كانت قد اتخذت جانبهم واستمرءت أدلتهم.

هذا هو الموقف الذي أخذه ترامب من وسائل الإعلام، حيث دعا كل تغطية صحفية لا تُعجبه حتى لو كانت صحيحة أنها “غير عادلة” و “أخبار كاذبة”. من ناحية أخرى تبنى ترامب كل مخرجات الصحافة المنحازة لصالحة مثل برنامج فوكس والأصدقاء والمدون المؤيد لترامب صاحب مدونة بوابة بنديت بل إنه دعاهم بأنهم “شرفاء جداً” ودعاهم إلى البيت الأبيض. (هذا انعكاس لثروة فوكس والتي حاولت في 2009 نشر مثل هذه الأخبار الكاذبة ولكن مدير العلاقات في إدارة أوباما قال إن الإدارة لن “تضفي عليها الشرعية كمنظمة إخبارية”) إن ترامب شخص متطرف ومقتنع تماماً بالثقة الخاصة يملؤه اليقين ولكنه أقرب إلى المجموعة العقلية التي يميل إليها الكثيرون. بموضوعية إنها معركة باسلة ولكنها في بعض الأحيان خاسرة.

“الحقائق البديلة” هذا المصطلح التاريخي المخجل. الذي استخدمه مستشار ترامب كيليان كونواي للدفاع عن حديث السكرتير الصحفي للبيت الأبيض سين سبايسر عندما ادعى أن حفل تنصيب ترامب قد استقطب “أكبر جمهور في تاريخ حفلات التنصيب للرؤوساء الأمريكيين”

وقال سبايسر للصحفيين أيضاً “أعتقد أننا أحياناً قد نختلف مع الحقائق”

هذه بعض التصريحات الأكثر وضوحاً من إدارة تستخدم هذه الطرق بكل صراحة دون أي اعتبار للحقيقة، وكما كان ماكنتاير ليقول “احترام الحقيقة”. هذا النوع من التجاهل الوقح للواقع الموضوعي مقلق إلى حد كبير ولكن طبيعته المتطرفة تكشف أيضاً بكل وضوح أمراً كان على الدوام صحيحاً في عالم السياسة: وهو أننا في بعض الأحيان عندما نناقش الحقائق في عالم السياسة فنحن لا نتحدث عن الحقائق أبداً.

التجربة التي سُئل فيها مؤيدوا ترامب عن صور التنصيب المذكور هي أحد الأمثلة. في ورقة عن المفاهيم السياسية الخاطئة يقترح نيهان: اجراء استبيان يسأل الناس عما إذا كانوا يتفقون مع عبارة “معدل جرائم القتل في الولايات المتحدة هو الأعلى في 45 عام”، وهو التصريح الذي أدلى به ترامب في كثير من الأحيان خلال حملته وهو خاطئ بالطبع. يقول نيهان: “لأن الإدعاء كاذب سيكون الرد الصحيح هو عدم الاتفاق، ولكن ماذا يعني لو اتفق الشخص مع البيان؟”

يصبح في هذه الحالة من غير الواضح ما إذا كان الشخص يعتقد حقاً بصحة التقرير الخاطئ أو أنه يستخدمه بمثابة تعبير عن شيء آخر مثل دعمه لترامب بغض النظر عن صحة ادعاءاته، أو أنه يشعر بقلة الأمان والخوف من الجرائم. على الرغم من ذلك فالمسألة بالنسبة لوسائل الإعلام التي من المفترض أن تتحقق من صحة الأخبار هي مسألة حق وباطل أما بالنسبة للشخص العادي الذي يقيم أو يتبنى أو يرفض أو ينشر حقائق مزيفة فالمسألة قد لا تكون كذلك.

يقول كاهان هذه في غالبيتها نزاعات حول القيم، عن نوعية المجتمع وما هي التيارات السياسية التي تتوافق مع ذلك التوجه. ويسأل “حتى لو جرى تصحيح الخطأ ما الفرق الذي سيحدث عندئذ؟” ويضيف “هذا ليس السبب الذي دفعهم لدعم هذا الشخص في المقام الأول”

فما الذي سيدفع الشخص لتغيير رأيه حول اعتقاد خاطئ مرتبط بهويته وكينونته بعمق؟

“ربما لا شيء” يقول تافريس “أعني ذلك تماماً”

لكن بالطبع هناك مجالات يمكن للحقيقة أن تصنع فرقاً. هناك أشخاص مخطئون ببساطة أو مدفوعون لتبني معلومات خاطئة بدون التمسك بها كجوهرة ثمينة.

يقول ماكنتاير: “شخصياً، نظريتي تقول إن تغييراً يمكن أن يحدث” ويضيف “لهذا نحن بحاجة إلى تعلم التفكير النقدي، ولذلك يجب محاربة الحقائق الزائفة، لأنه لا يزال هناك بعض الناس الذين يمكن لهم أن يعودوا إلى صوابهم، أولئك الذين لم يغرقوا في الكراهية بعد. أعتقد أنه بمجرد الوصول إلى الانكار فالأمر أصبح خارج السيطرة وليس هناك الكثير يمكن فعله لإنقاذهم.”

هناك أشياء صغيرة يمكن أن تساعد. اقترحت إحدى الدراسات الحديثة أنه يمكن “تطعيم” الناس ضد التضليل. فعلى سبيل المثال في تلك الدراسة يمكن نشر رسالة عن الإجماع العلمي الساحق حول مسألة تغير المناخ وإرفاقه بتحذير من أن “بعض الجماعات السياسية تستخدم التضليل لإقناع الجمهور بوجود خلاف حول مسألة تغير المناخ بين العلماء”. إخبار الناس بأن هناك تضليلاً يُمارس عليهم يجعلهم أكثر مقاومة له في حال تعرضوا للتضليل مستقبلاً. لقد نجح الأمر في هذه الدراسة على الأقل.

في الوقت الذي لا يمكن فيه محو آثار القَبَلية من طباع البشر إلا أن تعكير صفو الحزبية يمكن أن يجعل الناس أكثر انفتاحاً ويحدث تغييراً في عقولهم. يقول جيريت: “نعلم أن الناس أقل تحيزاً إذا رأوا سياسات مدعومة من مزيج من الناس من كل الأطراف.” ويضيف “لا يبدو ذلك محتمل الحدوث في هذه الفترة المعاصرة ولكني أعتقد أنه حتى مساحة الاختلاف داخل الحزب الواحد مسألة ذات معنى. أي شيء يكسر هذا النمط الذي يظهر فيه الحزبين ككتلتين جامدتين يمكنه أن يُخفض من سيطرة الدافع المنطقي في هذا السياق.”

ومن الممكن أيضاً تصور بيئة إعلامية أقل تشبعاً بالأخبار المزيفة والاختيار الانتقائي للأخبار مما عليه الوضع الآن، خصوصاً مع الاعتماد الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي الشعبية.

لقد سألت مانجو كيف ستبدو بيئة إعلامية أقل نقلاً للأخبار الكاذبة.

أجاب “أعتقد أننا بحاجة إلى الوصول إلى بيئة معلومات تقل فيها المشاركة” ويضيف “أظن أن سناب شات مثال جيد على ذلك حيث يختفي كل شيء بعد أربع وعشرين ساعة وبذلك لا يكون لديك أشياء عالقة يمكن أن تتفاقم وتصبح أكبر وأكبر.”

تبدو شركة فيسبوك مهتمة بنسخ بعض ميزات سناب شات بما فيها الرسائل التي تختفي تلقائياً. يقول مانجو “أعتقد أن ذلك من شأنه أن يُخفف من حدة تناقل الأخبار، ومن ثم سينعكس ذلك على تداول المعلومات والأخبار الخاطئة أيضاً” ولكنه يحذر “لا بد أن الأمور سيئة للغاية لأننا ننظر إلى سناب شات على أنه بصيص الأمل!”

إن جزءاً كبيراً من رؤية الإنسان إلى العالم لا علاقة له بالحقائق. هذا لا يعني أن الحقيقة مُدانة أو أن الإنسان لا يمكن أن يغير رأيه. ولكن ذلك يعني أنه مهما كانت الأدلة قوية فإن هناك فرصة ضئيلة لتغيير رأي إنسان ما بخصوص أمر ما إذا لم يرد هو نفسه الاقتناع بالدلائل. على الإنسان أن يُغير نفسه بنفسه.

كما ذكرنا سابقاً لقد غادر دانيال شو جماعة سيدها يوغا في نهاية المطاف. ولكن الأمر استغرق وقتاً طويلاً. يقول شو “قبل أن تصدر مقالة نيويوركر كنت قد بدأت أسمع عما ستدور حوله المقالة وفي الوقت الذي علمت فيه بالأمر غادرت الجماعة فوراً، لقد اجتمعت كل الأمور سوياً. ولكن الأمر استغرق خمس سنوات على الأقل تنامت فيها الشكوك التي لم أكن أريد في البداية سماعها أو مواجهتها”

يبدو أن الناس يكونون منفتحين أكثر في نقاشات جماعية. كما لاحظ مانجو في كتابه، عندما كانت الحكومة الأمريكية تحاول إقناع الناس بتناول أحشاء الذبائح خلال الحرب العالمية الثانية (على مبدأ ترك الأشياء الجيدة للصغار) وجد الباحثون أن مناقشات ربات البيوت حول المسألة أعطت نتائج أفضل من مجرد الاستماع إلى طبيب تغذية يتحدث عن الفكرة، في الواقع ارتفع الاحتمال خمس مرات أن تقوم ربة البيت فعلياً بطهي بعض الأحشاء. إن المجموعات عادةً ما تكون أقرب إلى الخروج بإجابات صحيحة من الأفراد وحدهم.

بطبيعة الحال تختفي حكمة المجموعة إذا كان كل فرد فيها متفقاً مع الآخر.

تقول ماكنتاير “إن إحدى المزايا الأساسية لنقاشات المجموعات هي الحصول على إجابات حرجة” وتضيف “إذا كنت في صومعة لن تحصل على إجابات حرجة ستحصل فقط على تصفيق”

ولكن إذا كانت التغييرات ستحصل فإنها ستكون على مستوى “شخص لشخص” كما يقول شو.

لقد أخبرني عن مريض لديه كانت أسرته مشاركةً في “جماعة مسيحية أصولية للغاية. لقد رأى المريض الكثير من المشاكل في عقلية وأيديولوجية هذه الجماعة ما صعب عليه مهمة الحفاظ على علاقته بعائلته نفسها لقد حاول أن يناقش بعض القضايا بطريقة محبة ورحيمة” ويضيف “إنه صابر ومصر إنه ينسحب تدريجياً وقد ينجح في النهاية”

“ولكن هل سيستمعون “لبعض الأخبار” حول لماذا هم مخطئون؟ أنا أشك في ذلك”

عندما يُغير شخص ما رأيه سيكون الأمر مثل الزحف البطيء لخيبة أمل شو في معلمه. لقد انسحب “كما يفعل الكثير من الناس: إنه نوع من الموت بألف طعنة وجرح”.

—————-

الكاتب:

Julie Beck: جولي بيك رئيسة تحرير في مجلة أتلانتيك تهتم بتغطية مواضيع الصحة وعلم النفس