عن البنية العميقة والظاهرة في الربيع العربي


محمد ديبو

لا يأتي التغيير للرغبة فيه فحسب، ولا يثمر إن لم يُزرع في تربة خصبة، فما أكثر الثورات التي فشلت في الوصول إلى أهدافها أو تحقيقها، وإن تمكنت من كسر النظم القائمة أو إسقاطها، سواء كليًا أو عبر رمزها/ الدكتاتور.

يتشكل النظام، أي نظام، من مجموعة قوى ومؤسسات وإيديولوجيات ووعي مكوَّن (بفتح الواو)، تعمل عبر الزمن لتشكيل مناخ عمل وآليات تفكير تصبح بحكم الممارسة اليومية عادة يمارسها المرء، وإن لم يكن مقتنعًا بها، إلا أنها تشكل هويته وطبيعة تفكيره وطريقة نظره للأشياء، فيصبح للنظام (ولا نعني هنا النظام السياسي بل النظام العام، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وطرق التفكير التي تحكم وتسيّر تصرفات جماعة ما في لحظة ما) ظاهر نراه ونقرؤه بوضوح ونتمثله، وباطن عميق مكبوت، يحتل لا وعينا وآليات تفكيرنا وطريقة نظرنا إلى الأمور.

حين تحدث الثورة تهدف إلى الانتقال من هذا النظام إلى النظام التالي، إلا أن مرحلة الانتقال هذه لا تتحقق بين ليلة وضحاها، فأعداء الثورة والانتقال ليسوا النظام القديم ومشتقاته فحسب، بل أيضًا آليات تفكيرنا وطريقة وعينا المتكوّنة في ظلّ الاستبداد، إذ كثيرًا ما نجد ثائرًا يحمل وعي الاستبداد ذاته؛ ما يعني أنّ نجاح الانتقال هذا يتطلب ثورة على الذات، ثورة إن لم تصل حد اقتلاع البنية العميقة للنظام، سواء عنفيًا أو تدرّجًا، فهذا يعني أنّ الثورة فشلت أو توقفت، أو لم تفعل سوى أنها انتقلت من نظام سياسي إلى آخر، دون أن يرافقها انتقال على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بما يؤدي إلى تغيير في نظم التفكير وآليات عملها العميقة، أي استبدال بنية قديمة متهالكة ببنية جديدة، تحمل وعي الحاضر وتتطلع نحو مستقبل لا ينبى إلا بالتجاوز الدائم والتفكير النقدي المستمر.

حين استلم أتاتورك السلطة أقدم على العمل على تغيير البنية التركية العميقة تدريجيًا عبر إحلال بنية جديدة مكان بنية قديمة، فالرجل وصل حد إلغاء الخلافة وتغيير اللغة ونسف التعليم الديني، الأمر الذي عنى ثورة فعلية ضد الكامن والعميق والمرسّخ منذ عقود في المجتمع، ولهذا نجح في الانتقال من دولة الخلافة إلى الجمهورية التركية. اليوم يقوم أردوغان بثورة معاكسة، ولكن أيضًا ستكون ناجحة بالانتقال إلى نموذج جديد، لأن الرجل يعمل تدريجيًا على نسف البنى العميقة التي قامت عليها دولة أتاتورك، صانعًا دولته العميقة مرة أخرى.

المثال التونسي، يقدم دليلا آخر، إذ تشابه بورقيبة مع أتاتورك من ناحية نسف البنية التقليدية العميقة في المجتمع والعمل على وضع بنية علمانية جديدة رسخت لشروط الحداثة وحقوق المرأة وإن كانت معادية للدين كما حال العلمانية التركية ومستبدة لأنها أبعدت جناحها الأخر أي الديمقراطية، الأمر الذي عنى الانتقال فعلًا من نظام ما إلى نظام آخر على مستوى العمق، ولأن لكل انتقال أمراضه الجانبية، فإن الانتقال الأتاتوركي والانتقال البورقيبي كانا موجهين ضد دين المجتمع، بطريقة أو بأخرى، ولهذا عاد التاريخ ليثأر على طريقته، فولد حزب العدالة والتنمية في تركيا وولدت النهضة في تونس، ردة فعل على التغيير المتعسف بـ “قوة السلطة”، أي فرض الحداثة عبر القوة لا عبر الإقناع، ومع ذلك، وعلى الرغم من كلّ عيوبهما نجحتا أكثر مما نجحت به تجارب أخرى، فإسلام حزب العدالة والنهضة يختلف بشكل شبه جذري عن إسلامات أخرى في المنطقة العربية، وربما يعود سرّ هذا الاختلاف إلى اختلاف البنية التي ولدا فيها عن بنى أخرى، إذ وفرت البيئة العلمانية (البورقيبية والأتاتوركية) للإسلام السياسي في البلدين بيئة مختلفة عن بيئات الإسلام السياسي في مصر وسورية، على سبيل المثال لا الحصر.

في مصر، لم يكن مشروع جمال عبد الناصر جذريًا بما يكفي ليؤسس نظامًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، فالرجل امتلك السلطة السياسية، وأحدث انتقالًا على هذا المستوى دون أن يتبعه بانتقال سياسي اقتصادي ثقافي عميق ليؤسس لبنية جديدة، ولهذا بدلا من مواجهة البعد الديني الخرافي في المجتمع عمل على توظيف الإخوان والإسلاميين في سياقه السياسي، بين مهادنة وحرب، ولهذا لم يحدث الانتقال العميق لا في مصر ولا في سورية أيضًا، حيث ربى الأسد إسلامًا مهادنًا بديلًا عن إسلام الإخوان الذي حاربه، كما يقول الباحث حمود حمود، الأمر الذي عنى فعليًا أنّ النظام العميق في سورية ومصر لم يتغيّرا منذ الاستقلال؛ حتى هذه اللحظة، بل بقي التغيّر على المستوى السياسي فحسب، أي تغيّر في مستوى السلطة لا المجتمع، ولهذا السبب تنجح الثورة المضادة بسرعة في بلدان كهذه؛ لأن التغيير ليس نتاج تحول عميق في الوعي، فوعي البناء التحتي (بلغة الماركسية) يسند السلطة من موقع القوة والغلبة والوعي التقليدي لا من موقع الحقوق والمساواة والقيم الحداثية، وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في خطاب الإخوان المصريين حين وصلوا السلطة، إذ وضعوا جانبًا كل شيء عن الديمقراطية وبدؤوا في البحث عما يثبتهم بالسلطة، والأمر نفسه ينطبق على العلمانيين واليساريين المصريين الذين لم يتورعوا عن الاستنجاد بالعسكر حين رؤوا أن الإخوان يتجهون نحو بناء استبداد جديد، فـ “مستبد تعرفه خير من مستبد تتعرف إليه”.

خلاصة القول أن العلمانية والتركية والتونسية كانت علمانية حقيقية، حفرت عميقًا في بنية المجتمع وتركت آثارها، إلا أنها لم تكتمل بجناح العلمانية الآخر، أي الديمقراطية؛ ولهذا، بقيت عرجاء، في حين أن “العلمانية السورية والمصرية” لم تكن إلا إيديولوجيا مرفوعة لتسويغ العسف والقمع، فتحت هذه “العلمانية” ( وهي لم تكن علمانية إلا بالاسم) كان الاستبداد يرّبي التطرف و”الإسلام السياسي” ليوظفه في خدمة بقائه في السلطة، فكان أن انفجر المرجل بالجميع في نهاية المطاف، والمؤسف أنّ البنية هذه لازالت هي الحاكمة في كلّ من سورية ومصر؛ لأنّ “الثورة” -هنا- لم تزحزح بنى الوعي العميقة، ويمدها العنف الحاصل اليوم في سورية ورسوخ الاستبداد المصري السيساوي بطاقة جديدة؛ لذا، لا أمل في الخلاص، ما لم تكسر هذه البنى، والمدخل لهذا هو كسر الاستبداد السلطوي طبعًا، ودون أن يكون كافيًا وحده أيضًا.




المصدر