on
«بوليتيكو»: زهران علوش.. المتمرد السوري الذي حاول بناء جنة إسلامية
كان لزهران علوش أحلام بدولة إسلامية في مدينته المحاصرة، ليس بشار الأسد فقط من منعه.
في البداية جاءت الدبابات، طابور من الدبابات السوفيتية الصنع من طراز T-72، تزينها رايات إسلامية سوداء، ثم تلتها رشاشات مضادة للطيران، وناقلات الجنود المدرّعة، وطابور من شاحنات مسطحة بمدافع أوتوماتيكية، وأخيرًا، فصيلة بعد فصيلة، سارت في استعراض إلى مكان الحدث، مصطفةً بانتظام أمام شخصية صارمة، بلحية سوداء تراقب الاستعراض من منصة المراقبة، إنه قائدهم زهران علّوش.
كان هذا في 18 مارس (آذار) 2015، في الغوطة الشرقية قرب دمشق حيث يسيطر المتمردون. قدم جيش الإسلام العرض، الموثق بالفيديو بهدف التجنيد وليبقى للأجيال القادمة. قدمه جيش الإسلام، الفصيل المتمرد الذي كان قائده أقرب من حبل الوريد مما يمكّن الحاكم من قصفه. كان علوش البالغ من العمر 45 عامًا واعظًا نشطًا، وبسجل عنفٍ سياسيٍّ رآه البعض ضروريًّا لتحرير منطقته من الحصار الذي فرضه عليه الرئيس السوري بشار الأسد، ولكن يراه البعض الآخر سمةً مميزة لأمير حرب تواق للطائفية والسلطة.
وتستمر القصة
زمجر علوش من على المنصة، بصوت مليء بالعاطفة والغضب: «اليوم، يتآمر العالم علينا». صرخ علوش: «اعلموا أن الجنة وُجدت تحت السيوف»، «اعلموا أن الجنة بانتظارنا»!
كان الأمر شجاعة بالغة، ولكن علوش وجنوده لم يكونوا فاقدين الأمل. على الرغم من أن الحرب التي دامت أربع سنوات في الغوطة الشرقية أصبحت الآن طريقًا مسدودة، ومذبحة يومية لا معنى لها من القصف والضربات الجوية، إلا أن المتمردين كانوا يعرفون أن الأسد أصبح تعوزه القوات المخلصة له، وكذلك يعوزه المال أكثر، وقد تعرض جيشه لخسائر مؤلمة ضد متمردين إسلاميين آخرين في شمال سوريا، وضد ما يسمى بالدولة الإسلامية في الشرق. لم تكن هناك أي إشارة حتى الآن إلى ضعف في منطقتهم بالقرب من دمشق، لكن المتمردين قالوا لأنفسهم إن الوقت كان في جانبهم. عندما يأتي اليوم الذي يخسر الأسد قبضته الحديدية على العاصمة، لن يكون هناك أحد أفضل لوضع الفراغ من زهران علوش.
لكن في هذه اللحظة بالتحديد، بينما كان يقف على المنصة، كان علوش في ذروة سلطته السياسية. في الغوطة الشرقية، إذ أعرب عن أمله في بناء دولة مصغرة إسلامية يحكمها بالشريعة، كتصوّرٍ لسوريا ما بعد الأسد. لكنه كان يواجه بالفعل ضغوطًا سياسية واقتصادية على حد سواء، مما سيؤدي إلى التراجع عن تمرد الغوطة الشرقية. فبالرغم من كل ما لديه من قوة عسكرية، فقد فشل علوش في توحيد التمرد المتصدع. وهذا جعل موقفه هزيلًا أكثر مما عرف عنه الكثيرون. وبحلول نهاية العام سيكون ميتًا، مما سيسرّعُ من تراجع جيش الإسلام، ويوجه ضربةً إلى تمرد الغوطة الشرقية، ضربة لن يتعافى منها هذا التمرد أبدًا.
كان فشل زهران علوش في توطيد السلطة في الغوطة الشرقية وإقامة جبهة موحدة ضد الأسد فشلًا في الحكم أكثر منه في الاستراتيجية العسكرية. ويعتمد علوش، شأنه شأن غيره من قادة المتمردين المحليين، على الإمدادات من خلال شبكة متطورة من الأنفاق التي تربط الغوطة الشرقية بالعالم الخارجي. في نهاية المطاف، مهاراته الخطابية، وأمره من الكتاب المقدس، وحتى قوته العسكرية ليست بذلك القدر من الأهمية في حال لم يتمكن من السيطرة على تعقيدات اقتصاد الحصار. وهذا بالضبط ما فشل فيه. فقد كان علوش فاقدًا للموارد التي كان يتحكم بها نظام الأسد، وكان غير قادر أبدًا على التحكم بشبكة التهريب. لقد تعثرت طموحاته في نزاعات صغيرة على العقيدة الدينية والمكانة والمال، مسببًا الشلل لقيادته قبل أشهر من وفاته في ضربة صاروخية.
تُظهرُ قصة صعود وسقوط زهران علوش قدرة الزعيم الدهماوي ذي الشخصية الكارزمية، والممول تمويلًا جيدًا لحشد مجتمع متحرك ضد ديكتاتور مُحقّر، ولكنه يظهر أيضًا مدى سرعة الإسلاميين في اعتماد نفس الانتهاكات العنيفة والاستبدادية للسلطة التي ألهمت تمردهم في المقام الأول. واستنادًا إلى مقابلات مع قادة متمردين، وزعماء متدينين، وناشطين مدنيين في الغوطة الشرقية، يُفسِّر هذا الحساب كيف استسلم وببطء معقلُ المعارضةِ السّوريةِ الذي لا يمكن اختراقه لقبضة نظامٍ وحشيٍّ، وكيف توقف مصيره على حياة رجل واحد.
أجمل مكان على وجه الأرض
تحدث المؤرخ العربي ابن الوردي الذي عاش في القرن الرابع عشر عن الغوطة بوصفها واحة رائعة من الزهور والأشجار والماء والطيور: «أجمل مكان على وجه الأرض، والأفضل على الإطلاق». هذا الحزام الزراعي الخصب حول دمشق كان فخر المدينة القديمة منذ آلاف السنين. لكن سوريا الحديثة كانت أقل لطفًا تجاه الغوطة. ففي تسعينيات القرن العشرين، والعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ابتلعت الأحياء الفقيرة الخرسانية جمالها الرعوي، وكذلك فعلت الطرق الإسفلتية والتوسع الصناعي، مما حول الغوطة وببطء إلى مجرد تجمعاتٍ غير سعيدة من الضواحي التي تسكنها الطبقة العاملة، وإلى مدنٍ تابعةٍ وقرى زراعية.
لقد كان العديد من سكان الغوطة والضواحي التي تزداد توسّعًا شرق دمشق من الوافدين الجدد، الذين هربوا من المناطق المتضررة من الجفاف في سوريا؛ للتنافس على وظائف منخفضة الأجر. لقد خُدِعَ هؤلاء بثراء التألق، والانقسامات الطبقية، وفساد العاصمة. أما الآخرون فقد كانوا جزءًا من السكان الأصليين للغوطة، ولكن، من بينهم أيضًا، نمت المشاعر المناهضة للنظام جنبًا إلى جنب مع الأزمة الاجتماعية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في المدن السنية المحافظة مثل دوما، المعروفة بتقواها على أنها «مدينة المآذن»، كانت التعاليم الأصولية السلفية تكتسب الأرض. وقد شجب السلفيون هناك علمانية حزب البعث الحاكم وفساده الغاشم كجانبين لعملة واحدة.
كانت هذه هي بيئة الغضب الشديد التي نشأ فيها زهران علوش. ولد علوش عام 1971 لعالِم سوري سلفي تدرب في السعودية، وعمل واعظًا في جامع التوحيد في دوما، وقد أمضى التسعينيات في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وتعلم على يد علماء وهابيين مشهورين مثل ابن باز وابن عثيمين، اللذين شكلت آراؤهما المحافظة إلى درجة التعصب سياسة المملكة العربية السعودية.
فيما بعد، في فترة التسعينيات، عاد علوش إلى دوما لمواصلة دراسته في كلية الشريعة بجامعة دمشق، ثم انهمك في الأعمال التجارية. ثم تزوج وبدأ يحيا كما يبدو ظاهريًّا حياةً هادئةً لرجل الأسرة المسلم المتدين. لكن وراء الكواليس، كان يدير شبكة سلفية تحت الأرض، وينظم مجموعاتٍ دراسيةٍ غير قانونية، ويطبع ويوزع أوراق الدعوة الدينية من قبل أيديولوجيين سعوديين، يمول بعضهم أعماله سرًّا.
في فهم علوش للإسلام، إن السلطة الدينية السنية المبنية على الشريعة الإسلامية هي النظام الشرعي الوحيد للحكومة، والنظام البعثي يجب أن ينجرف بعيدًا يومًا ما. لقد رفض علوش الحكم الديكتاتوري لأسرة الأسد وفسادها، وكره تحالفها مع الزعماء الشيعة في إيران. ومثل معظم السلفيين، كان ينظر إلى الإيمان العلوي للرئيس باعتباره بدعة معادية للإسلام.
مع ذلك، لم يكن علوش جزءًا من الحركة السلفية الجهادية المسلحة التي بدأت التسلل إلى سوريا نتيجةً للغزو الأمريكي للعراق عام 2003. ويبدو أنه اعتبر تنظيم القاعدة جماعة مضللة على الرغم من حسن نواياها، وكان دائمًا يعارض سياساتها المغامرة، وهجماتها على دول مثل المملكة العربية السعودية. ولكن مثل الغالبية العظمى من السوريين، فقد تعاطف مع المقاومة السنية في العراق، التي كانت القاعدة جزءًا بارزًا فيها، وعلى الرغم من أنه لم يعبر الحدود للانضمام إلى المتمردين العراقيين، فقد يكون قد قدم لهم الدعم من خلال طرقٍ أُخرى.
حوالي عام 2008، شنت شرطة الأسد السرية حملة واسعة ضد الأصوليين السنة، وذلك استجابةً بشكل أو بآخر للضغوط الأمريكية، وأيضًا لأن النظام أصبح قلقًا تجاه تصاعد الراديكالية السلفية. اعتُقلَ علوش عام 2009 واتُهم بحيازة مسدس، رغم أن السبب الرئيس لاعتقاله كان نشاطه السّلفي. أُرسل إلى سجن صيدنايا، شمال دمشق، وسيظل هناك مدة سنتين، يدلك كتفيه مع قدامى المحاربين في حرب العراق، ويتعلم منهم تكتيكات المتمردين التي استخدموها ليهزموا بها الأمريكان منذ عام 2003.
الانتفاضة السورية
يعود الفضل في تحريره من السجن للربيع العربي. ففي مارس (آذار) عام 2011، انفجرت المظاهرات في مناطق عدة من سوريا، بما فيها دوما. اعتقل النظام المتظاهرين، وأطلق عليهم النار، واتجهت البلاد نحو حربٍ أهليّةٍ. سواء لتمويل المعارضة أو بغاية تسميمها بالتطرّف الطّائفي، فقد بدأ الأسد بإطلاق سراح السجناء السيّاسيين ضمن سلسلةٍ من قرارات العفو، بمن فيهم مئات من الجهاديين القساة. وبعفوٍ من هذا القبيل، تم إطلاق سراح زهران علوش في 22 يونيو (حزيران)، إذ وصل إلى منزله في الوقت المناسب للانضمام إلى التمرّد الناشئ في دوما.
لقد انضم في البداية إلى مجموعة من المقاتلين الذين كانوا يدّعون أنهم جزء من الجيش السّوري الحرّ –اسم تجاري من نوع ما، استخدمته عدة مجموعات مختلفة– لكنه لم يكن متديّنًا ما يكفي ليتماشى مع أهوائه. بعد فترة قصيرة، أنشأ علوش مجموعته الخاصّةِ، المعروفة باسم «سرية الإسلام» التي استفادت من شبكة ما قبل الحرب بدوما، والخاصة بالنشطاء السلفيين، والسّجناء الإسلاميين السّابقين، وأصدقاء وتلاميذ والده في جامع التوحيد.
سرعان ما أسست «سرية الإسلام» نفسها قوةً لا يُستهان بها. وقد شكلت صورتها وسمعتها الفاضلة للخلل الديني جزءًا من النداء. كان لانضباط السلفيين دور كبير في التمرد الفوضوي في سوريا، بينما استقطبت حماسة علوش وكارزميته الجنود، وشحذت همم القوات.
لقد لعبت جيوب علوش العميقة دورًا ما، ومنهم الواعظون السلفيون في الخليج مثل عدنان العرعور، واحد من الواعظين التلفزيونيين في المنفى، وهو من معارف عائلة علوش في السعودية، الذي جمع مبالغ ضخمة على شكل تبرعاتٍ من المؤمنين. بتقديم قيادة قوية، شرعية دينية، ومرتّب منتظم، استطاع علوش أن يتصيد أعضاءً من فصائل أصغر من الجيش السوري الحر في دوما، التي كانت غالبًا مجرد مجموعات ضعيفة التنظيم. وبحلول عام 2013، تمددت المجموعة من دوما إلى منطقة الغوطة الشرقية على نطاق أكثر اتساعًا، حتى أنه أنشأ فروعًا لجيشه في الشمال السّوري. وليميّزَ قوته المتنامية، أطلق علوش على جيشه اسم لواء الإسلام.
في أواخر عام 2012، قرر النظام السوري الحدّ من خسائره بتطويق الغوطة الشرقية بدلًا من محاولة استرجاعها. ففي نيسان/ أبريل، أرسل الأسد طابورًا من المدرّعات إلى العتيبة، وهي قرية صحراوية في الأطراف الشرقية للمنطقة التي كانت عبارة عن محطة لتزويد الإمدادات من تركيّا. «كانت معركة العتيبة نقطة تحول بين النجاح والكارثة»، كما قال عضوٌ من فصيلٍ محليٍّ متمرّد في وقتٍ لاحقٍ، مشيرًا إلى دورها الحاسم في توريد التمرّد: «لم يكن هذا هو المكان الوحيد»، وأضاف قائلًا: «لكنّه كان الأخير».
وحوصر المتمردون. رغم شهورٍ من القتال، لم يستطيعوا فك الحصار. وسرعان ما تعثروا في قتال عنيف في ضواحي شرق دمشق حيث عانوا من ضربات جوية لا هوادة فيها، وأيضًا من هجمات كيماوية بلغت ذروتها في مذبحة وقعت في 21 أغسطس (آب) باستخدام صواريخ برؤوس ملقمة بغاز الأعصاب، والتي قتلت المئات ووجهت الولايات المتحدة تقريبًا إلى الحرب. نجحت خطة الأسد. على الرغم من أن مدافع الهاون المتمردة ما زالت تجعل الحياة غير آمنة في دمشق، وأن القتال اندلع على طول الخط الأمامي، فقد تم احتواء تمرد الغوطة الشرقية بالكامل في أواخر الصيف 2013. لكن من المفارقات أن الحصار ساعد أيضًا على جلب المتمردين معًا من خلال تحديد حدود التمرد المحلي.
في خريف عام 2013، تدفقت النقود إلى الغوطة الشرقية من الوعاظ السلفيين في الكويت، الذين كرسوا برامج تلفزيونية منتظمة وطويلة المدة لجمع التبرعات بملايين الدولارات للمعارضة السورية. ويبدو أن الكثير من هذه الأموال وصلت لعلوش، الذي انسجمت آراؤه الدينية مع وجهات نظر الممولين الكويتيين، الذين وجدوا في هذا الفصيل الكبير، بإدارته الجيدة خيارًا طبيعيًّا لقيادة المنطقة المحاصرة. ويبدو أن الأسرة المالكة السعودية، أو على الأقل بعضًا منها، قد ألقت بثقلها الكبير خلف علوش في هذا الوقت. وقيل إن الأمير بندر بن سلطان الذي كان آنذاك رئيس المخابرات العامة في السعودية قد تصرّف بردة فعلٍ غاضبةٍ تجاه رفض الولايات المتحدة توجيه ضربات جوية بعد مجزرة 21 أغسطس (آب). وقيل إن السعوديين قرروا التغاضي عن علاقات علوش مع رجال الدين السلفيين المعارضين بشروط سيئة مع الحكومة في الرياض، وبدؤوا يُسرّعون دعم مجموعته والعديد من المتمردين السوريين الآخرين؛ لرفع الضغط على الأسد.
بتدفق النقد والأسلحة، ذهب علوش مباشرةً لإتمام عمليات الشراء المكثفة. أثناء فصلي الخريف والشتاء، استطاع ضم عشرات الفصائل الصغيرة في منظمته، التي سميت نفسها جيش الإسلام في حفل كبير في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2013. الآن، وبشكل مؤكد، وقد تمكن علوش من التحكم بالمتمردين «ألفا» في الغوطة الشرقية، فسوف يكتشف قريبًا أنه مع تزايد قوته، سيتزايد نمو المقاومة.
قاعدة الرجل القوي
وفي الساعة 10:40 مساء يوم 9 ديسمبر (كانون الأول) 2013، اقتحم رجال مسلحون مكتب دوما الذي يضم العديد من منظمات المجتمع المدني، واختطفوا رزان زيتونة ووائل حمادة وسميرة الخليل وناظم حمادي. كان الأربعة في دوما، وكانوا ناشطين بارزين في مجال حقوق الإنسان على هامش العلمانية لسياسات المعارضة السورية. في عام 2011، هربوا من دمشق ووجدوا مأوى في دوما التي يسيطر عليها المتمردون، حيث أسست جماعتهم، مركز توثيق الانتهاكات، بإنشاء قاعدة بيانات تضم عشرات الآلاف من السوريين الميتين والمختفين، ومعظمهم من ضحايا جيش الأسد، والشرطة السرية.
لقد كان الظن أن هذا العدو المشترك سيجعلهم حلفاء طبيعيين مع علوش، لكن الأمر كان عكس ذلك تمامًا. فقد رفض علوش دعواتهم إلى الديمقراطية العلمانية، واتصالاتهم مع الحكومات الغربية، وعلاقاتهم الودية مع جماعة متمردة منافسة عارضت جيش الإسلام ودعاة السلفيين. نفى علوش تورطه في عمليات الاختطاف، لكن هؤلاء الأربعة سيصبحون رمزًا قويًّا لطرقه الاستبدادية، بعيدًا عن الحادث الوحيد من نوعه.
منذ عام 2012، عندما أحكم المتمردون سيطرتهم على الغوطة الشرقية وطردوا نظام الأسد، فقد كافحوا كي يؤسسوا حكومة مناسبة لملء الفراغ السياسي. وقد أقام القادة المتنافسون محاكمهم الشرعية ومحاكمهم الثورية، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلا إلى نشوب صراعات جديدة. وقد أدى فرض الحصار في نيسان (أبريل) 2013 إلى زيادة الأمور سوءًا عن طريق تمكين المهربين والجريمة المنظمة، وعن طريق تغذية خوف المعارضة الشديد من التسلل. وسرعان ما بدأ المتمردون يتجسسون على بعضهم البعض، ودفعوا بالمخبرين ليعطوا معلومات عن جيرانهم. وبذلك صاروا ينسخون على نحو فعال تكتيكات الدولة البوليسية للنظام الذي يسعون إلى إطاحته.
على الرغم من أن الفصائل الأخرى ارتكبت انتهاكات فظيعة، أيضًا، فقد اكتسب جيش الإسلام بشكلٍ خاص سمعةً تقشَعِرُّ لها الأبدان. وبحلول عام 2014، بدأت التقارير المرعبة تخرج من سجن التوبة في دوما، وهو سجن سري تعرض فيه معارضو جيش الإسلام للتعذيب والقتل بناء على أوامر من المحاكم الدينية للمجموعة.
على الرغم من هذه الوحشية، يبدو أن زهران علوش قد حافظ على قاعدة صلبة من الدعم. لقد صدمت وجهات نظره الأصولية المراقبين الغربيين والسوريين العلمانيين، لكنها لا تبدو أنها تسيء إلى المسلمين السنة المحافظين في الغوطة الشرقية. لقد رفض أنصاره قمعه للمعارضة والأدلة المتزايدة على الفساد المالي داخل صفوف جيش الإسلام.
لم تكن الفصائل الأخرى أفضل حالًا، بل حالفها فقط نجاحٌ أقل، كما قالوا، وقد تولدت هناك حاجة إلى تكتيكات قاسية لإنهاء الجريمة والفوضى. ويبدو أن الكثيرين قد تبنوا فكرة أنه لا يمكن إلا لرجل قوي مثل علوش أن يوحِّدَ المنطقة، ويسخر الإمكانات الكاملة للتمرد المقسم بشكل دائم ضد الأسد. بالفعل، وللمرة الأولى منذ سنوات، يبدو أن الوحدة في متناول اليد. وفي أواخر يونيو (حزيران) 2014، اندمجت معظم محاكم الشريعة الشرقية في هيكل واحد، بقيادة لجنة من العلماء المسلمين عينتهم الفصائل المتمردة الرئيسية.
وقد أعقب ذلك في أواخر أغسطس (آب) إنشاء القيادة العسكرية الموحدة، وهي هيئة سياسية وعسكرية يرأسها زهران علوش قائدًا أعلى، يحيط به قادة الفصيلين الثاني والثالث في الغوطة الشرقية: أجناد الشام، وهي شبكة صداقة من الصوفيين والإخوان المسلمين، وفيلق الرحمن الذي يحمل العلم السوري الحر. ولأول مرة منذ طرد نظام البعث، بدأت الغوطة الشرقية في خلق نظام قانوني وسياسي متماسك. لم تكن المسألة صغيرة. وفي جميع أنحاء سوريا، حاول المتمردون إنشاء مجالس قضائية وعسكرية مماثلة، ولكن تقريبًا كل هذه التجارب في الحكم المحلي قد فشلت؛ لأن المشاركين كانوا ببساطة يختارون الابتعاد عن حكم لم يعجبهم.
في الغوطة الشرقية، لم يكن ذلك ممكنًا. فلقد خلق الحصار كائنًا سياسيًّا قائمًا بذاته. كان هذا الكائن كبيرًا بما يكفي ليكوّن تهديدًا للحكومة السورية، ولكنه كان أيضًا صغيرًا بما فيه الكفاية ليهيمن عليه رجلٌ قويٌّ واحد: زهران علوش. على الرغم من أنه لم يولِ اهتمامًا كبيرًا بالقيادة العسكرية الموحدة عندما حاول الأعضاء الآخرون كبح جماحه، فقد كان مولعًا باستخدام النظام لتحريف المسؤولية عن الإجراءات التي لا تحظى بشعبية، وقام بحراسة أولياته بحذر. لم تنضم جميع الفصائل في الغوطة الشرقية إلى المؤسسات الجديدة. رفضت جبهة النصرة الموالية للقاعدة حل المحاكم الشرعية الخاصة بها، مستشهدة بالاختلافات العقائدية، لكن التحدي الرئيس جاء من مجموعة من قادة الجيش السوري الحر، أعداء علوش من دوما، الذين تجمعوا معًا في تحالف انتهازي لمعارضة النظام الجديد وحماية استقلاليتهم. وهكذا، أعلن علوش أنه «لا يمكن أن يكون هناك رئيسان على نفس الجثة» فشن حملة كبيرة. لقد اعترف علوش في وقت لاحق بتطويق حوالي 1300 من خصومه. وتم الإفراج عن معظمهم في نهاية المطاف، ولكن لم يكن هذا كل شيء. وأدين أبو علي خبية، وهو زعيم بارز مناهض للإسلام، وكان يقاتل من أجل إبعاد علوش عن أرضه وعن أعمال تهريبه، في محكمة سرية بتداول المخدرات والتعاون مع تنظيم الدولة الإسلامية ونظام الأسد، وبأنه مثلي الجنس. وقد زعمت مصادر المعارضة في وقت لاحق أن جثة خبية قد عرضت في شوارع دوما على شاحنة صغيرة، تحذيرًا للمتظاهرين المحتملين.
أثناء فصلي الشتاء والربيع 2014- 2015، سعى علوش إلى استئصال جناح الغوطة الشرقية للدولة الإسلامية، في حين كانت الصحافة تطلق سلسلة من الجماعات المتمردة الصغيرة في صفوف جيش الإسلام الذي أصبح أقوى بآلاف المرات. في فبراير (شباط) 2015، أصدرت القيادة العسكرية الموحدة مرسومًا بحظر إنشاء جماعاتٍ متمردةٍ جديدةٍ في الغوطة الشّرقية، مما وضع غطاءً لتفتيت المتمردين، وساعد التمرد على الالتفاف حول الفصائل الأربعة الرئيسية: جيش الإسلام، وأجناد الشام، وفيلق الرحمن، وجهاديي جبهة النصرة المارقين. وجاء توطيد قوات المعارضة في الوقت المناسب. كانت قوات الأسد قد استنفذت سنوات من القتال والمشاكل الاقتصادية، فمنذ أواخر عام 2014 كانت تفقد المزيد من أراضيها في أجزاء أخرى من البلاد. لكن المتمردين في الغوطة الشرقية وجدوا أنفسهم غير قادرين على الاستفادة من مأزق النظام: سجناء في منطقتهم، كانوا يكافحون لمواجهة التكاليف المتزايدة للحصار.
اقتصاد الحصار
لقد فُرض الحصار على الغوطة الشرقية للمرة الأولى من خلال استعادة الجيش السوري للعتيبة في أبريل (نيسان) 2013. بعد ذلك بعام، توسع الحصار ليشمل الأغذية والأدوية وغيرها من الواردات. وارتفعت أسعار السلع الأساسية ارتفاعًا حادًا خلال عام 2014. وفي آذار (مارس) 2015، كان يمكن شراء كيس من الخبز المسطح، وهو غذاء أساسي في سوريا، بسعر 35 ليرة سورية في دمشق (حوالي 12 سنتًا)، ولكن تم بيعه بحوالي 700 ليرة سورية في الغوطة الشرقية، وانتشر الجوع. وفي وقت محدد كانت المجاعة قريبة جدًّا، لكن نقص الدواء والمعدات الطبية في المشافي كان أكبر تهديدٍ فتاك.
قامت الجمعية الطبية السورية المؤيدة للمعارضة بحصر نحو 200 حالة وفاة بسبب نقص الرعاية الطبية، أو الغذاء في أول سنتين من الحصار. وقد وصفت منظمة العفو الدولية سياسات الحكومة السورية تجاه الغوطة الشرقية بأنها جريمة ضد الإنسانية. وعلى الرغم من أنّ الحصار كان ينفذ بشدة في بعض الأحيان، فإن الحصار على الغوطة الشرقية لم يكن محكمًا أبدًا. ففي بعض الأحيان، كانت هناك بعض الثغرات المقصودة بهدف التسريب. فبينما كان الحصار دائمًا صارمًا بما فيه الكفاية للتسبب في النقص، كان أيضًا مساميّ السمة بما فيه الكفاية لخلق الأسواق؛ إذ يمكن أن ينتشر دواهي الوسطاء.
وكما هو الحال في قطاع غزة، فقد أدى الحصار إلى تمكين فئة جديدة من المهربين المحاصرين الذين وجدوا طرقًا لنقل البضائع عبر الخطوط الأمامية، وغالبًا عن طريق العمل مع قادة النظام. دخل المتمردون والمهربون في علاقة تكافلية، وحفزوا الفساد والمنافسة بين المتمردين –إن ما يشكل تهديدًا لأرباحكم من التهريب هو أيضًا تهديدٌ لموقفكم العسكري-. استغل النظام السوري بشغف نفوذه الجديد. فهذا من شأنه أن يخنق أحيانًا المنطقة المحاصرة تمامًا، مما يتسبب في ارتفاع الأسعار. بعد ذلك، سيسمح بتسليم البضاعة من خلال نقاط تفتيش معينة، إما بهدف مكافأة السلوك، أو ببساطة بهدف جمع الرشاوى.
عند نقاط التفتيش وعلى جانبهم، جاهد المتمردون لإحكام السيطرة فانقادوا إلى عقد صفقات غامضة مع نظرائهم من جانب النظام السوري، مما صهر التمرد واقتصاد الحصار في جزءٍ لا يتجزأ. لقد كان الأمر معنويًّا لكنه فعل الكثير لتغذية التوتر في المنطقة المحاصرة. فالمدنيون الذين يعانون من الحرب والجوع يعانون من مشاعر الخوف على مرأى من الزعماء الإسلاميين المتدينين الذين يملكون الغذاء والمال والوقود لاستخدامهم الخاص، وفي بعض الحالات، من أجل الربح. وكانت أهم الطرق التجارية الجديدة للغوطة الشرقية هي المنطقة الشمالية الشرقية من دوما، بالقرب من مخيم الوافدين للاجئين الفلسطينيين الذي يسيطر عليه النظام.
في وقت ما من عام 2014، فتحت الحكومة السورية أحد نقاط التفتيش هناك للسماح لرجال الأعمال المولودين في الغوطة، ولأصدقائهم في القصر الرئاسي بجلب الطعام، والقيام بتجارة صغيرة في السلع الأخرى. بإدارة من الجيش السوري من ناحية، ومن المتمردين من ناحية أخرى، أصبح معبر الوافدين معروفًا في دمشق بأنه معبر المليون جنيه، إشارةً إلى الرشاوى التي يتم جمعها من قبل الجانبين. وعلى الرغم من تشديد جيش الإسلام لحراسته على معبر مخيم الوافدين في دوما، إلا أنه نفى الحصول على أية أموال من تجارة الوافدين.
«لقد كان دور جيش الإسلام في كل هذا وببساطة هو الأمن، بحيث لا يتسلل عملاء النظام من خلال المعبر» كما قال محمد بيرقدار، أحد أعضاء المكتب السياسي لجيش الإسلام. لكن القادة المتنافسين أصروا على أن رجال علوش استفادوا بشكل جيد، إذ قال أحد الناشطين في ربيع عام 2015 إن جيش الإسلام كان يأخذ عمولة بنسبة 30% على كل شحنة. مع ذلك، فقد جلب معبر الوافدين، بكل ما له من أهمية اقتصادية وسياسية، المواد الغذائية وغيرها من الأصناف المدنية، مثل السجائر. وللحصول على الأسلحة والذخائر والوقود والأدوية وغيرها من السلع المحظورة، أو التي تعاني من نقص في المعروض، ولتهريب الناس داخل المنطقة المحاصرة، أو خارجها، اضطر المتمردون إلى إيجاد طرق أخرى.
نزلوا تحت الأرض
في أوائل عام 2014، أجبر الجيش السوري ضواحي دمشق الشرقية برزة والقابون على توقيع اتفاق هدنة منفصل. وما زال المقاتلون المحليون مسؤولين عن أحيائهم، وما زال كل من المنطقتين تحت الحصار، إلا أن حركة المرور والتجارة المدنية استؤنفتا من خلال متاهة بين نقاط تفتيش النظام، والمتمردين. في الحال، تقريبًا، تحولت برزة والقابون إلى مستودعات عبور للغوطة الشرقية عن طريق الأنفاق التي وصلت إلى الضواحي التي يسيطر عليها المتمردون. وقام رجال الأعمال المرتبطون بالمتمردين بتحويل الأنفاق -التي حفرت أصلًا لأغراض عسكرية ولوجستية- إلى عمل تجاري، واستئجار عمال محليين عاطلين عن العمل للقيام بأعمالٍ خطيرةٍ تحت الأرض.
كان معظم الأنفاق ممرات قذرة منحوتة بشكل رخو، بالكاد تتسع لرجل واحد، إلا أن بعضها كان يشيّد بالطرق الجوفية المحترفة، وهو ما يكفي لدفع سيارة تحت خط المواجهة. وأهم هذه الأنفاق تصل بين برزة وحرستا، وهي ضاحية تقطنها الطبقة العاملة على الحافة الغربية للغوطة الشرقية. على ما يبدو أن الجيش لم يمسها، يعمل النفق على مدار الساعة في نوبات ثلاثية، تنقل كل شيء من الغذاء والناس إلى الطب والماشية، وأيضًا، من المؤكد تقريبًا، الأسلحة والذخائر. كان الرجل المسؤول عن النفق هو «أبو خالد الزحطة»، شخص من أهالي حرستا شق طريقه بين صفوف المتمردين ليصبح حاكم حيّه. لم يكن أبو خالد رجلًا ذا أيديولوجية محددة، لكنه كان صاحب طموح واضح. ففي مرحلة ما كان منتميًا للجيش السّوري الحرّ الذي يموله الإخوان المسلمون، ولكن في عام 2014 دخل علاقة متداخلة مع أجناد الشام، مجموعة أكبر بكثير، تابعة للمليشيات الصوفية المحافظة. لقد استولى على حرستا في شتاء 2014- 2015، في البداية من خلال مواءمة نفسه مع علوش للاستيلاء على النفق من أحد منافسيه، ومن ثم باستخدام سلطته الاقتصادية الجديدة لشراء منافسيه. حالما أصبح مسؤولًا عن طريق حرستا-برزة، بدأ أبو خالد بابتزاز القادة الآخرين الّذين كانوا يعتمدون على التجارة لتأمين مؤنهم؛ فحاولوا التعويض بفتح أنفاق تهريبٍ منافسةٍ في الأحياء المجاورة.
وفي صيف عام 2015، أصبحت الغوطة محاصرة ضمن دائرةٍ مفرغةٍ من التهريب التنافسي، التربح وتحديد الأسعار. رغم أن جيش الإسلام كان يُديرُ أنفاقه الخاصة، فقد تُرِكَ مع شريحةٍ رقيقةٍ جدًّا من التجارة لدعم آماله بالهيمنة، فبدأ علوش المحبط يستعرض عضلاته العسكرية.
عندما نفذ المال
بينما كان جالسًا على سطح المنصة في آذار (مارس) 2015، وهو يراقب جنود ودبابات جيش الإسلام تسير أمامه، لم يكن زهران علوش يشبه شيئًا بقدر ما كان يشبه رئيسًا عربيًّا تقليديًّا. لقد قيل إن سعيه للتسليح يمثّلُ أكثر من نصف القوة العسكرية للمنطقة المحاصرة قاطبةً، وبهذا كان قد أصبح واحدًا من أقوى الرّجال في المعارضة السّوريَّة.
لكن علوش كان يعرف أنه من أجل إخضاع المقاومة الداخلية بشكلٍ نهائي، ولتوحيد المنطقة المحاصرة، فقد كان عليه أولًا أن يسيطر على اقتصاد النفق الذي دعم خصومه. وآخرون كانوا يعرفون ذلك أيضًا.
ومع بدايات عام 2015، ضرب الجيش السّوري أنفاق علوش، الأمر الذي أدّى إلى تعطيل التّجارة وزيادة اعتماد جيش الإسلام على «أبي خالد الزحطة». يبدو أن الدعم الأجنبي قد تراجع أيضًا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الضغط الأمريكي على دول الخليج العربية لكبح جماح حملة التبرعات الإسلامية، إذ كان بعضهم يرعى تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية. ووفقًا للتقارير الواردة في الصحافة العربية، اضطر علوش في النهاية إلى اقتراض أموال من التجار المحليين لتغطية نفقاتهم.
في مايو (أيار) 2015، هرب قائد جيش الإسلام نفسه خارج المنطقة المحاصرة للذهاب في رحلة استجداء إلى تركيا والأردن، حيث قابل المتبرعين الإسلاميين، ومسؤولين من تركيا والمملكة العربية السعودية. ولتلميع صورته، وفي أول مقابلةٍ له مع صحافي غربي، أكد علوش أن دعواته لتطهير سوريا من العلويين والشّيعة كانت نتيجة «ضغوطٍ نفسيّةٍ».
ربما كان علوش قد التقى مسؤولين من الولايات المتحدة الأمريكية، أيضًا، ولكن، لو كان الأمر كذلك، فقد فشل في ترك أثرٍ إيجابيٍّ.
وفي وقتٍ لاحقٍ، زعم بعض أعضاء جيش الإسلام أن الأمريكيين قد بثوا قائمة غسيل لما اعتبروه سلوكًا غير مقبول، بما في ذلك قصف وسط دمشق، وخطاب علوش الطائفي، ودوره المزعوم في اختفاء «دوما الأربعة».
رغم أن رحلته تكللت بالنجاح في الحصول على تبرعات من الخليج أو من مصادر أخرى، فإن هذا لم يُمَكِّنَهُ من تعويض استقلاليته عن أعمال أبي خالد التهريبية. وبعودته سالمًا إلى منطقته المحاصرة، قرر علوش التحرّك إلى الأنفاق. «لقد بدأ جيش الإسلام بنصب ساتر ترابي حول مدينة حرستا ومنع الناس من الدخول والخروج»، كما قال أحد أنصار أبي خالد الزحطة. في نفس فصل الصيف، أمر علوش دباباته بالتوجه نحو ضواحي حرستا، ولكن، بتوقيت دقيق جدًّا، اكتشف أبو خالد مرةً أُخرى اهتمامه بالدّين، وتم قبول عودته إلى صفوف أجناد الشّام، الذين طلبوا من علوش التّراجع. أثار هذا الأمر غضب قائد جيش الإسلام، لكن لم يكن بإمكانه القيام بأي شيء إلا إذا كان يريد أن يشنّ حربًا كبرى ضد عدّةِ فصائل في آنٍ واحدٍ. فما كان منه إلا أن سحب دباباته. لكن، ومع احتياجات جيش الإسلام اللوجستية التي لم تُؤمَّنْ بعد، ومع تزايد شهوته للسلطة، فلا يمكن تحمّل الوضع الرّاهن أكثر.
ففي منطقة محاصرة أصبحت الآن تعاني من انعدام الثقة، والإرادة المتراكمة، بدأت جميع الأطراف في التحضير للمواجهة المقبلة. بالنسبة لسكان الغوطة الشرقية، لقد بدأ قادة المتمردين المشاحنات مثل النسور التي تتغذى من الذبيحة. كانوا غير قادرين على كسر الحصار، ولكن في نظر الناشطين المحليين يبدو أنهم لم يحاولوا حتى، بدلًا من تبديد مواردها على الخلافات المالية عبر تجارة النفق. لقد وجدت دراسة أجريت عام 2015 من قبل كلية لندن للاقتصاد «استياءً واسع النطاق» تجاه قادة المتمردين، حتى بين المناهضين للأسد. طوال الوقت، حافظ الأسد على وابلٍ لا يهدأ من الضربات الجوية ضد الغوطة الشرقية؛ مما أسفر عن مقتل المئات من المدنيين، وخلق حالة لا تطاق من الذعر والإرهاب. وفي ذلك الصيف، هزت المنطقة المحاصرة احتجاجات في الشوارع للمدنيين الجوعى، الذين اتهموا المتمردين بالاستغلال والاستيلاء على الغذاء لصالحهم. وظهرت كتابات على جدران حرستا تطلق على أبي خالد «قاتل للأطفال بالتجويع». وبصفته القائد الأعلى للقيادة العسكرية الموحدة، وأقوى شخصية في الغوطة الشرقية، تلقى زهران علوش العبء الأكبر من الانتقادات، بما في ذلك الجشع والكسب غير المشروع من تجارة النفق، والذي كانت له حصة أصغر بكثير من بعض منافسيه.
«يا زهران»، قالت لافتة حملها المتظاهرون في أغسطس (آب) 2015، «لا نريد منك أن تقاتل إخوتك من أجل النفق، نريد منك أن تقاتل عدوَّنا فوق النفق!»، وزاد الصراع بين المتمردين من غضب المدنيين، إذ حرضت جميع الفصائل أتباعها على التظاهر ضد الجماعات المتنافسة، وإلقاء اللوم عليهم في الجوع المدني. واستجابةً للمتظاهرين، فقد داهم مقاتلون من المتمردين البيوت واعتقلوا مثيريّ الّشغب، وفي مناسبةٍ واحدةٍ على الأقل، فقد أطلقت قوات من فيلق الرّحمن النار على الحشود، وأصابت المتظاهرين وقتلتهم. وبدأت ترتيبات تقاسم السلطة التي أنشئت قبل عام بالانهيار، الأمر الذي يهدد إنجازات علوش.
وفي أواخر الصيف، قرر أجناد الشام، وفيلق الرحمن مقاطعة اجتماعات القيادة العسكرية الموحدة، بحجة أن جيش الإسلام كان يستخدمها فقط كغطاء لمواصلة مصالحه السياسية والمالية. وتصرّف علّوش كما لو أن أحدهم خانه. فبعد بضعة أيام، وفي تجمع لوجهاء الغوطة في مكانٍ يبدو كطابق سفلي مثل القبو، أظهر تسجيل فيديو مسرّب قائد جيش الإسلام يلقي الاتهامات على منافسيه. كان من الواضح أن لمحةً من اليأس غير الواضحة تزحف في صوته. صرخ علوش: «إن قادة أجناد الشام وفيلق الرحمن يستفيدون من المجاعة»، «والمجرم أبو خالد، يخزّن آلاف الأطنان من الطّعام في مستودعات حرستا». كانت نفس الاتهامات التي انهال بها عليه منافسوه. وصارت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ في سبتمبر (أيلول) 2015، عندما بدأت روسيا فجأةً تقف بجانب الأسد مستخدمة كل قواها العسكرية، مرسلةً قواها الجوية الخاصة وتجهيزات عسكرية بكميات كبيرة لمساعدة النظام المحاصر. وهكذا، عاودت الحكومة الهجوم على كل أنحاء سوريا، بما فيها الغوطة الشّرقيّة. ومع إمطار المنطقة المحاصرة بالقنابل، حاصدةً حياة مئات المتمردين والمدنيين، فقد بدأ النشطاء المحليون بالنداء للتوحد وبدء الهجوم المضاد. ولكن بدلًا من ذلك، انجرفوا إلى قتالٍ آخر من أجل عائدات الأنفاق، بتدخل جبهة النصرة هذه المرّة، والتي قررت أن تبيع الطعام مقابل أسعارٍ منخفضة، فتهدد بذلك القاعدة المالية لمنافسيها.
وهنا، توقفت الدعامة المركزية للنظام السياسي للمنطقة المحاصرة فجأة.
في يوم عيد الميلاد، 2015، اصطدم وابلٌ من الصواريخ بمبنى مزرعة غير معروف بالقرب من حمورية في الغوطة الشرقية. وفي وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، أعلن جيش الإسلام استشهاد زهران علوش. لقد رحل أقوى رجل في الغوطة الشرقية.
فراغ السلطة
قبيل موت علوش، كانت نافذة فرصة الوحدة في الغوطة الشرقية في طريقها للإغلاق. أما الآن فقد أغلقت بقوة. لقد كان التمرد في سوريا دائمًا منقسمًا بسبب الطموحات الشخصية، والعقيدة السياسية والدينية، والاتصالات الخارجية. لم تكن الغوطة الشرقية مختلفة. لكن بداية الحصار عام 2013 والظهور المتعاقب لزهران علوش بدّلَ اللعبة. فشخصيته الكارزمية، ومهاراته القيادية، وداعموه الأقوياء، مع تفانٍ لا يتزعزع في الحرب ضد الأسد، وعطشٍ لا حدود له للسلطة، عملت، كما كان يبدو، على وضع الغوطة على طريق السيطرة المركزية.
لكن علوش، أيضًا، وجد نفسه متعثّرًا في اقتصاد الحصار، غير قادر على قمع منافسيه، وإنهاء الميول المركزية للتمرد. وبمجرد فقدان هذه الشخصية المركزية المثيرة للجدل، والمتنازع عليها ولكن بلا منازع، سرعان ما انفصلت جماعات الغوطة الشرقية في اتجاهاتها الخاصة.
رغم أن جيش الإسلام سلّمَ السلطة بسرعة لقائدٍ جديدٍ، مخضرم، ممتلئ الجسم بعضلاتٍ بارزة، سلفي اسمه عصام البويضاني، إلا أن هذا القائد الجديد وجد صعوبةً في ملء الفراغ الذي تركه علوش. لقد بدأ المتشددون المتدينون بالخروج عن السيطرة، موجهين الاتهامات للمجموعات الأخرى.
قال وائل علوان الذي أصبح قائدًا وناطقًا باسم أجناد الشام: «كان لدينا بعض المشاكل الصغيرة مع زهران علوش عندما كان حيًّا، لكن الفضل يعود لشخصيته الكارزمية. لقد كان دائمًا قادرًا على المحافظة على التهذيب في جيش الإسلام». «لقد تغير هذا الوضع الآن. لم نكن نرى هذه الخطابة العدائية من مسؤولين متدينين عندما كان على قيد الحياة، أما الآن فإننا نسمع هذا».
لم تكن مجموعة علوان بريئة عمّا كان يحدث. وكان كل قادة الغوطة الشرقية يتطلعون جميعًا إلى عباءة علوش، وفي فبراير (شباط) 2016، اندمج أجناد الشام في فيلق الرحمن، مما جعل الجماعة منافسًا رئيسيًّا لجيش الإسلام.
بعد بضعة أسابيع، قرر أبو خالد الزحطة المعتدل أن يكون جهاديًّا، فقاد لواءه في حرستا للتحالف مع جبهة النصرة. بغضون أسابيع، تم تسوية المشهد الفصائلي للغوطة الشرقية إلى ثلاث مجموعات كبيرة. اثنتان منها رسمتا خطتهما انتقامًا من الثالث. تحرّك جيش الإسلام لحماية موقعه، وفي مارس (آذار) 2016، اتهمه فيلق الرحمن بمحاولة اغتيال قادتها. وقد أدى ذلك إلى نشوء دوامة من العنف تصاعدت لتصبح حربًا أهلية في قلب حرب أهلية أخرى. وفي هجوم مباغت في 25 أبريل (نيسان)، استولى فيلق الرّحمن وحلفاؤه على اثنين من أنفاق تهريبه الرئيسة في ضواحي دمشق، وعلى كمية كبيرة من الأسلحة؛ لن تتعافى المجموعة أبدًا من الهجوم. واستمر العنف الداخلي لأسابيع، استعاد الأسد خلال هذه الفترة الجزء الجنوبي من المنطقة المحاصرة، وهدد بمسيرة في عمق الغوطة الشرقية.
ووقعت قطر اتفاقًا لوقف إطلاق النار بين المتمردين في 24 مايو (أيار). لكن، مع اقتراب المعارك الرئيسية، فقد رفض المعسكران التوفيق بينهما. اشتكى أحد النشطاء المحليين قائلًا: «لدينا الآن مجلسان عسكريان، أحدهما ينتمي إلى فيلق الرحمن، والآخر ينتمي إلى جيش الإسلام. لدينا بعض المؤسسات التعليمية التي تنتمي إلى فيلق الرحمن، وغيرهم ممن ينتمون إلى جيش الإسلام، وقد انقسمت السلطات الإقليمية أيضًا إلى قسمين».
في الواقع، أصبحت المنطقة المحاصرة الآن منطقتين محاصرتين. وقد استغل النظام السّوري الوضع الجديد بتركيز نيرانه على الطرف الشرقي من الغوطة الذي يسيطر عليه جيش الإسلام، بينما يسمح لمساعدات الأمم المتحدة بالوصول إلى ضواحي دمشق التي يسيطر عليها فيلق الرّحمن لأول مرة منذ سنوات. وكما تم حسابه، لم تجد أي تعزيزات طريقها للمتمردين عبر المنطقة المحاصرة المقسمة قبل فوات الأوان. بدأت المعارضة في الغوطة الشرقية بالانزلاق، بلدةً تلو الأخرى، وميدانًا تلو الآخر.
مضت سنة بعد وفاة زهران، وما زال المتمردون يتقاتلون، وقد خسرت المنطقة المحاصرة نصفها. ففي حرستا، تفاوض أبو خالد حول شروط الاستسلام مع الحكومة، وحدث نفس الشيء في دوما، وذلك بتجاهل تام من قبل جيش الإسلام.
وفي فبراير (شباط) 2017، شن الأسد هجومًا على القابون وبرزة، في محاولةٍ منه لسدّ الأنفاق ليُنهي التمرد في النهاية.
وارتدى المتمردون وجهًا شجاعًا في المقابلات التي أجريت في وقتٍ سابقٍ من هذا العام. وقال سعيد درويش أحد قادة جيش الإسلام رفيعي المستوى: «إن شاء الله إذا قام النظام بمثل هذه الخطوة الغبية فإنه سيأسف كثيرًا». وأضاف: «لن ينجحوا في هذه الخطة». وقال آخر: «سوف نثابر على أرضنا، ولن نتركها إلا إذا كان الغزاة يذهبون إلى دمشق».
في الواقع، لقد لاقت الهجمات على القابون وبرزة مقاومةً عنيفةً من قبل المتمردين شرق دمشق، وما يزال القتال مستمرًا في أواخر مارس (آذار). ولكنه من غير المرجح أن ينقذ التمرد.
لقد فات الأوان منذ فترة طويلة عندما كان يمكن للمتمردين في الغوطة الشرقية أن يتحدوا في مواجهة قوة النيران المتفوقة للأسد، ويحاولوا أن يقلبوا الحرب عليه ليهددوا قبضته على السلطة. بعد عامين من اليوم الذي شاهد فيه زهران علوش قواته تسير في استعراض أمام منصة المشاهدة، يسعى جيش الإسلام الذي كان مخيفًا من قبل للبقاء على قيد الحياة، والغوطة الشرقية تفتح فمها للهواء، والمعارضة السورية محاصرة في دوامة من التفكك، والهزيمة.
رابط المادة الأصلي: هنا.
صدى الشام