on
حكاية الفتوة التشغرجوي
آرام كرابيت
“قالت الأم خدوج: كان أبوك يصيد الطير الطائر في السماء، والنملة التي تدب على الأرض. بندقية والدك المطعمة بالصدف عند حسن، الأسود الدين. كان يصيب الطائر في عينه يا بني. يا محمدي. كان أبوك أبًا على هذا النحو. كان أبوك صقر هذه الجبال. إذا علمت المفارز بوجوده على بعد يوم، تدير وجوهها، وتهرب. العثماني يرتجف أمامه. عندما يأتي أبوك على الطريق تحت الشمس، كان يأتي ككرة برق. حين يرى قروي كرة برق في السهل يأتيني بالخبر: خدوج، الفتوة قادم! حين يأتي يبرق سهل أودمش. حين ينزل من الجبل، تعيّد القرية وتعرّس. قولوا: إن الفتوة أتى! كان يجلب جهاز البنات الفقيرات، ويدفع المأكل عن الشباب. يغدو دواءً للمرضى، وخبزًا للفقراء. كان أبوك فتوة على هذا النحو يا محمدي. كنت أقول له: يا فتوتي، لا تثق بالعثماني. كان يثق بالجميع. قلبه نظيف. وفي النهاية ارتكب العثماني سفالته. العثماني سافل.”
هذه ليست كلماتِ ملحمة أو أسطورةً أو صناعةَ آلهة في جبل الأولمب، أو بطلًا ميثولوجيًا، أو حكايةً مأسوية معاصرة وقعت في التاريخ صدفة؛ إنها كلمات أم، تحفر في لا وعي ابنها عميقًا، وتغرس فيه نوزاع الشر والحقد والانتقام. تخلق من وعيه، لا وعيًا خاضعًا، دونيًا، مسيرًا، وفق مقاسات ثقافية، تغذيها ثقافة المنطقة وبلدها ووطنها. إنها ثقافة القوة العارية في مواجهة خصوم وهميين محتملين في الزمن المقبل. ثقافة الجبل والعزلة ومواجهة الحيوانات الضارية، وقتلها لحماية النفس.
إن الصفات التي أطلقتها خدوج على زوجها المغدور لم يأت من فراغ، أو أنه جديد على أم شرقية مثلها. إن مسألة تعظيم الشخصية، شخصية زوجها ومثاليته، ونكرات الذات وحب الخير، ليست استثنائية. وإن تحمل الألم من أجل الخير العام، ومواجهة السلطة وهروبها من أمامه، وكأنه إله، على جناح طائر أو فرس مجنح، جزء مهم لتغطية الاحساس بالخوف، ومحاولة البحث عن الأمان المفتقد الذي لا توفره الدولة لمواطنيها من المخاطر المحدقة بهم.
في الحقيقة، لا أعرف كيف يتحمل طفل صغير مثل هذه الكلمات الثقيلة التي غرستها الأم في ذهن ابنها. وكيف تمكن من البقاء طبيعيًا، بعد هذا الوصف لأبيه، وهي تحثه أن يصبح مثله، قاطع طريق محترف.
لقد صنعت منه إنسانًا مجنونًا قبل أن يجن. إن جنون العظمة؛ هذا المرض خطِر، وباء كاسح، لا يضرب الأفراد على انفراد، أو يصيبهم كحالة خاصة. إنما هو شعور جمعي، اهتزاز الفرد في قيمه، نتيجة الإحباط والفشل عن تلبية رغبات النفس الدفينة، وعدم التصالح مع الواقع، والصراع الداخلي في النفس الإنسانية بين إشباع الرغبات والفشل. وعلينا أن نتساءل بحق:
– من أين لهذه الأم القاسية، كل هذا الشحن العاطفي الموجه إلى ابنها الصغير؟ من أين جاءت هذه الكلمات؟ كيف ولدت!؟
بالتأكيد لم تلد هذه الكلمات عفويًا أو فجائيًا، إنما لها أرضية تاريخية أو إحاطات تاريخية. عدم القدرة على المقاومة في الضوء والشمس، عدم توفر المعرفة والعلم، لفهم الحرية والضرورة؛ لهذا –ربما- يلجأ المرء إلى العتمة للتخلص من الظلم بمزيد من الظلم. ولهذا الأمر جذر قديم في الشرق، بوصفه نوعًا سلبيًا للتمرد على الواقع وشروط الواقع.
إن التمرد على السلطة، دون عقلانية، وبعد معرفي وفكري وثقافي، سيفضي إلى تحول المرء إلى قاتل محترف، أو قاطع طريق ممنهج؛ كما حدث للضحية محمد التشغرجوي، وكثيرين مثله، من الناس “الغلابة”، دفعتهم الأوضاع إلى أن يتحولوا إلى العزلة والبعد عن حركة المجتمع الطبيعية وصراعاته.
يستحق هذا النص دراسة سيكولوجية معمقة لما فيه من كم هائل من الخضوع والسيطرة، المظلومية والقوة، الدونية والتعالي.
إن المظلومة مرض خطِر، منتج للفاشية والوحشية التي لا تراعي حرمة أو حدودًا. لقد ابتلت شعوب وحضارات بهذا المرض، لإحساس الفرد بأنه فائض عن الحاجة، ولا قيمة معنوية له. لهذا يلجأ إلى تؤكيد ذاته عبر العنف المنظم.
يكبر محمد التشغرجوي، ويأخذ مكان والده قاطعَ طريق، كما رغبت أمه خدوج، وحلمت. وصعد إلى أعلى قمم الجبال، واتخذ، له ولرجاله، مآوًي في كل مكان.
إنها حكاية غريبة الأطوار، فريدة من نوعها، في أحداثها وواقعيتها.
لم يكن التشغرجوي سياسيًا، بيد أن ما كان يفعله يرقى إلى مستوى الصراع الـ “تحت سياسي” غير المعلن بامتياز، أي: من دون منشورات أو صالونات سياسية أو أدبية أو بيانات أو تنديدات. لنقل إنه صراع دون وعي بالضرورة، بين إنسان نذر حياته للفقراء والمهمشين، وتحمل الألم من دون أن يعرف ألف باء السياسة. فهو لم يكمل تعليمه، ولم يصل إلى الصف السادس الابتدائي! تحدى القصر ورجال الدولة والجيش والدرك وحلفاءهم، ودخل في حرب كر وفر مفتوحة، مع السلطنة، حاملًا هموم الناس ومآسيهم على كتفه. قتل المحسوبين على السلطة لغايات واضحة كبيرة في أغلب تحركاته، لكنه لم يقتل أي إنسان من أجل المال؛ كان يقتل المقربين من القصر. ويقتل الظالم آكل حق الفقراء والفلاحين والمغبونين، وقد تحول إلى مرجع لهؤلاء المهمشين، يساعدهم في المحن التي يتعرضون لها. ربما من أجل هذا كتب يشار كمال هذا العمل؛ كي يكون وثيقة وطنية للأجيال اللاحقة في تركيا.
تمتع التشغرجوي ورجاله بالشجاعة إلى حد الجنون، وتحول إلى قاطع طريق محترف. شكل عصابة لها تراتبية متكاملة، مثلها مثل تراتبية الدولة، لها مخبروها وأتباعها في المدن والأرياف، يمدونها بتحركات الجيش والأغوات والباشوات والدرك، يغزو بيوت الملاكين، يصادر أموالهم ويوزعها على الفقراء.
خمسة عشر عامًا يحارب السلطنة، يقتل من جيشها الآلاف، ويأسر ضباطها وجنودها ومفارزها. يخافه الصغار والكبار. وعندما يصل الأمر إلى السلطان عبد الحميد، يتدخل في الموضوع، ويحاول التخلص منه. يعزل كثيرًا من الضباط المهمين لديه، لعدم قدرتهم على الوصول إليه وقتله، إلى أن تطوع أحد الضباط، وتعهد بأسر أو قتل التشغرجوي، لكنه اشترط أن يلتقي مدحت باشا، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، عام 1911؛ إذ يأخذ منه دعمًا وقوة تمكنه -أخيرًا- من الوصول إليه وتصفيته.
لقد قدم يشار كمال صورة متكاملة عن الواقع في روايته هذه، راصدًا بأمانة حركة المجتمع، والظواهر والتشوهات الاجتماعية، من موقع الباحث عن المعرفة والحقيقة. إنه يعري الواقع، يحلله ويفضحه؛ حتى يتمكن من التعاطي معه؛ لإيجاد حلول له.
اللغة التي كتب بها يشار كمال الرواية صارمة، دقيقة، واقعية فجة، من دون تزويق أو تجميل، أو محاولة لطمس الحقيقة.
تقع الرواية في مئتين وواحد وخمسين صفحة
وترجمها إلى العربية، المترجم القدير، المرحوم عبد القادر عبد اللي.
المصدر