on
في ذكرى ميلاده غسان كنفاني.. يولد مع كل شهيد
ميسون جميل شقير
في المسافة بين الصوت وصداه كتب غسان كنفاني، وفي المسافة نفسها عاش حياة قصيرة، ومباغتة كزهر اللوز، وعاش موتًا كاملًا بقلبه الذي تركه في حيفا، وبشجر الزيتون الذي ظل يعصر زيته في قصصه، وظل غسان يتعمشق أغصانه؛ حتى وصل إلى أن يعترف بأن الحياة ليست نصرًا؛ الحياة مهادنة مع الموت.
لم يكن غسان كنفاني ينتظر أن يتحول اسمه يومًا إلى لون وظل، وأن يصير اسمه ظاهرة كاملة في التحام الموهبة مع العمق الحسيّ والمعرفي، وفي التحام رشاقة وذكاء وصدق أسلوب السرد مع السلاسة والوضوح القاتل برمزيته، الوضوح البعيد كل البعد عن التكلّف والزخرف، ظاهرة جعلتنا نفهم أنه ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة، وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة، ظاهرة نابعة من بئر لغوية قصصية كانت تفور، كلما مرت هناك على حيفا غيمة، حمّلها البحر عشقه، وناداها شجر حيفا وشجر القلب؛ فهطلت.
كتب غسان في كل ما يمكن أن يقوله فلسطيني، وفي كل ما لا يريد العالم لفلسطيني أن يقوله. كتب غسان القصة القصيرة، لكن كل قصة كانت تشكّل رواية كاملة لوجع فلسطيني، يتمدد بين كل قرى ومدن فلسطين التي شُرِّد الفلسطينيون منها، وبقيت تحيا في صوتهم وفي صداه، وبين مدن الأرض التي سالت إليها دماء المجزرة. وكتب أيضًا لثورة طالعة في العيون، لبندقية لن تسقط على الأرض؛ حتى لو سقطت الكتف التي كانت تحملها. كتب غسان للثورة؛ لأنه ظلّ يراها الحقيقة الوحيدة والمعادل الوحيد للموت المعلن الممنهج، وكتب عن الحرية التي لا مقابل لها، الحرية التي هي نفسها المقابل. وكان يقول دائمًا: “لن أرتدّ؛ حتى أزرع في الأرض جنتي، أو أقتلع من السماء جنة، أو أموت، أو نموت معاً”. ويقول: “الخيانة بحد ذاتها ميتة حقيرة”؛ لذا، فقد كان عليه أن يموت واقفًا، كان عليه أن يموت وآلاف القصص التي كانت ستكتبه وتكتبنا ساكنة في أصابعه، كان عليه أن يموت -هكذا- بقنبلة خائنة في سيارته، بعد أن جرّب الموت ألف مرة، وهو هناك يختنق في خزّان تشويه الشمس، هناك مع أبطال روايته القصيرة “رجال تحت الشمس”.
كان غسان يغرف من بئره العميقة ومن أسراره العميقة، وكان يتمرأى في هذه الصور الإنسانية؛ صور في الذاكرة، وصور في الحاضر القريب، ويجد ملامحه فيها، لكنه كان يجد قلبه مثقوبًا في كل لقطة لفلسطيني استشهد قبل أن يكمل ابتسامته، ولفلسطيني حمل صليبه ومضى به إلى دول، حوّلت البحر فيه إلى لاجئ يستجدي قطرة ماء.
من “موت سرير رقم 12” إلى “أرض البرتقال الحزين”، ومن “أم سعد” إلى “عائد إلى حيفا”، رصف غسان بأصابعه طريقًا جديدة للتعرّف إلى ذواتنا، والوصول إلى أنفسنا سالمين، طريقًا من بين أشجار البرتقال التي كانت دائمًا تُشعرنا بطعم الوصول إلى البحر، طريقًا سلسلة منبسطة، لكنه كان يوقد نارًا تشتعل في أحجار الطريق، وكنا ندوس عليها بقلوبنا، وكنا نكمل احتراقنا، وتلذع النار أرجلنا وأرواحنا، يلذغ الموت حياتنا، وتسكن أنياب القهر أصابعنا، لكن رائحة البحر في الكلمات كانت تغرينا، وكنا نكمل -دائمًا- ونحن ممسكون برائحة البرتقال.
كنا نكبر بما تركه لنا حين قرأنا “ما تبقى لكم”، وكنا خلفه حين قرأنا “عائد إلى حيفا”، وكنا معه حين دخل تلك السيارة، وانفجرت تلك العبوة الناسفة، وحين تناثرت أشلاؤه فينا، وبدأ يولد من جديد.
وقد كبرنا أكثر مما ينبغي، وعلى الرغم من كل ما قرأنا لغسان، فقد قرأناه أقل مما ينبغي؛ لأننا لم نصدقه حين قال بأن الذي قتل الفلسطينيين في بيروت، سيقتلنا نحن السوريين هنا، في بلادنا، برصاصته نفسها، وسيكون للدم الأحمر المجروح نفسه.
كبرنا ولم تزل قصص غسان تحيا فينا، في كل شهيد وفي كل موت، تحيا في القهر الطالع من صوت الأمهات وهن يزغردن، في المسافة بين صوت الطائرات وبين وصول القذيفة إلى الأرض، في أصابع طفلة لم تستطع أن تؤجل موتها خمس دقائق فحسب؛ كي تكمل تمشيط شعر لعبتها الجميلة.
كبرنا أكثر مما ينبغي، صرنا نفهم غسان كنفاني أكثر؛ مات رجالنا تحت الشمس، ماتوا تحت سقوف بيوتهم التي أرادت أن تحضنهم أكثر، وماتوا في البحر موتًا مالحًا، لم تعرف بيروت كيف تكون خيمتنا، ونحن أيضًا لم نستطع التعود على الرحيل، فالرحيل كما قال غسان كنفاني موجع كناجٍ وحيدٍ من الموت.
اليوم، وفي عيد ميلاد غسان كنفاني، نعرف أنه سيولد دائمًا، وأنه لم يمت، فقد كان يلعب مع الموت لعبته مع الكتابة، وكعادته، ينهيها بنهاياته الجارحة.
المصدر