بعض الأكراد وأوهام سياسة فرض الأمر الواقع


مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات

مقدمة

أوّلًا: القضية الكردية– لمحة تاريخية

ثانيًا: القضية الكردية في سورية وحاملها السياسي

ثالثًا: حروب وعقبات وعوائق تواجه المشروع.. ولكن

رابعًا: القضية الكردية قضية وطنية وحلها وطني سوري

خاتمة

 

مقدمة

يجهد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd)، وهو الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي (pkk)، إلى الفوز بكيان كردي في الشمال السوري، بصيغة لم تُحدّد بصورة نهائية بعد، على ظهر مأساة السوريين؛ تُشاركه هذا التوجه بعض القوى الكردية، وبعض العشائر العربية هناك، عبر فرض أمر واقع، مستفيدًا من كثرة اللاعبين على الأرض السورية، ومن خلال تنسيقه أو تحالفه مع أغلب اللاعبين من أميركيين وروس وإيرانيين، وفي مقدّمهم، بالطبع، النظام السوري. وهو إذ يُقدّم الخدمات الميدانية لجميع هذه الأطراف، من خلال سياسة براغماتية بلا ضوابط، يراهن على لعبة أمم معقدة تدور على الجغرافيا السورية، ويأمل في تحقيق أهدافه، ويجهل أو يتجاهل أنه في مقامرته باللعب مع أطراف كثيرة سيقع ضحيّتها مرّتين-بالضرورة- كونه الطرف الأضعف: مرة إذا توافقت هذه الأطراف، وأخرى إذا تصاعدت صراعاتها. فإلى أين يأخذ (الاتحاد الديمقراطي) أكراد سورية من خلال زجّه القسري لهم في مشروعه؟ وما الآفاق الواقعية لمثل هذا المشروع عند هذه المحطة الحرجة من الصراع في سورية وتشابكاته؟

أوّلًا: القضية الكردية– لمحة تاريخية

لم تكن القضية الكردية أسعد حظًا من القضية العربية عشية انهيار الإمبراطورية العثمانية نهاية الحرب العالمية الأولى، واقتسام الدول المنتصرة، فرنسا وبريطانيا، تركة الرجل المريض، حيث تقاسمتا المنطقة بعد أن قسّمتاها إلى دول، وفق ما عُرف باتفاق سايكس- بيكو، مع حرمان الأكراد من كيان خاص. لقد طوت معاهدة لوزان 1923، معاهدة سيفر 1920، التي سبقتها، وقالت بكيان كردي شرق الفرات وطوت معها المناقشة حول حق الشعب الكردي في كيان قومي أسوة بالشعوب العربية. فالمظلومية القومية الكردية، لم يكن العرب مسؤولًا عنها، فالعرب من هذه الزاوية ضحايا السياسات الاستعمارية مثل الأكراد، وغيرهم من المكونات القومية في الوطن العربي في جنوبي السودان أو الأمازيغ في المنطقة المغاربية.

ذات يوم، قال جلال الطالباني الذي يُلقّب- أحيانًا- بالثعلب الكردي “لقد منع النفط قيام الدولة الكردية قرنًا كاملًا، وستمنعها حروب المياه قرنًا آخر، مُلمّحًا إلى الدور التركي، حيث تتحكم تركيا بمنابع ضخمة للمياه؛ وهذا التصريح طبعًا قبل سنوات من التغيّرات الجيوستراتيجية التي أخذت تعصف بالإقليم، وتجعل من ملفّ المياه ملفًا ثانويًا.

نعم كان هناك وما زال، مظلومية كردية لم يتسبب فيها العرب، لكن العرب زادوها مأسويَّة تحت تأثير المدّ القومي العربي الذي مارسته النخب القومية وأنظمة الاستبداد العسكرية التي حكمت أغلب الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار، وصل حدّ الشوفينية في محطات كثيرة. وبدلًا من أن يستفيد القوميون العرب من هذا التنوع الإثني بوصفه مصدرَ غنًى في إنضاج صيرورة مشروعهم القومي الحضاري الذي ادّعوه، حوّلوا هذا التنوع إلى نقمة وأداة عرقلة لهذا المشروع، من خلال حروب الضبط والإخضاع في العراق والسودان، والتضييق والقهر والحرمان من الحقوق في سورية والجزائر والمغرب. حروب مستمرة منذ عقود من دون أن تجد دولة وطنية حديثة، أو دولة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات، تحاول تبريدها أو معالجة تداعياتها، بل كان التجاهل طابعَ العقلية القومية لمواجهة مشكلات هذه الجماعات القومية التي كثيرًا ما وُصمت بأنها أداة للمؤامرات الخارجية. وربما كان تعبير الإسلامي حسن الترابي عندما قال: “الجنوبيون إخوتنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن أخطؤوا قتلناهم” يُفسّر نظرة العرب واستعداداتهم في هذا الشأن. مع ذلك فإن هذا الموقف لم يورّث الدول العربية التي سارت عليه سوى الدمار وضياع بلدانها. فحرب السودان المديدة على الجنوبيين التي استمرّت منذ العام 1952 وحتى العام 2005، انتهت بانفصال الجنوب، آخذًا معه ثلث مساحة السودان الأكثر خصبًا، دون أن يسأل النظام أو يسائل نفسه عن المسؤولية في هذه المسيرة المؤلمة.

التجربة الأخرى وربما الأكثر إيلامًا هي تجربة أكراد العراق، التي استمرّت عقودًا بصورة متقطّعة، وأُزهقت فيها أرواح بالآلاف بالتبريرات والمعالجات ذاتها، وانتهت مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003 بشبه استقلال في إطار الفدرالية العراقية الهشّة التي فرضها دستور بريمر. علمًا بأن أول دستور عراقي إبّان إعلان قيام الدولة العراقية 1921، أقرّ أن القومية الكردية هي القومية الثانية في العراق، بل الأهم من ذلك أن اتفاقية الحكم الذاتي، التي تُوُصّل إليها عام 1975 كانت فرصة ذهبية أمام العراق لتجنّب جميع المشكلات اللاحقة بخصوص القضية الكردية في هذا البلد، تلك الاتفاقية التي ألغاها صدام حسين في واحدة من أكبر أخطائه التاريخية، بدعوى قطع طريق المزاودة عليه من القوميين العرب في العراق وخارجه. لكن الحوادث المعيشة بيّنت لاحقًا في غمار ثورات الربيع العربي في سورية وليبيا واليمن على الأقل، أن هذه الأنظمة “القومية”، لا تتورّع عن سحق كل من يخرج على سلطتها أيًا كانت قوميته، وعليه فإن دفاعها المزعوم عن “الهوية القومية العربية” لا يعدو أن يكون ادّعاءً غير مقصود لذاته.

ثانيًا: القضية الكردية في سورية وحاملها السياسي

بدأت بوادر المشكلة الكردية في سورية في عهد الوحدة المصرية- السورية عندما أقرّت دولة الوحدة قانون الإصلاح الزراعي، الذي أقرّ توزيع أراضٍ في محافظة الحسكة على المستفيدين منه، ومنهم من كانوا من خارج سكان المحافظة، الأمر الذي اقتضى توطين عرب سوريين في مناطق وجود الأكراد فيما عُرف بالحزام العربي؛ ثم جاء الإحصاء السكاني الاستثنائي الذي شابه اللبس عام 1962 بدفع من نائب رئيس الوزراء السوري (البعثي) جلال السيد، وأخيه محمود سعيد السيد محافظ الحسكة آنذاك، الذي حرم القسم الأكبر من أكراد محافظة الحسكة من حق الجنسية السورية بدعوى أنهم وافدون بصورة غير شرعيّة من خلف الحدود، ثم جاء حكم البعث آذار/ مارس 1963، ليزيد الحال سوءًا، ويُشدّد من إجراءات التضييق والتمييز بحق الأكراد، ويعمل على حرمانهم من حقوقهم الطبيعية؛ وقد بقي هذا الإحصاء غير المنطقي وغير الوطني ساريًا حتى عام 2011، بعد انطلاق الثورة السورية، وكان الأساس الذي انبت عليه القضية الكردية في سورية.

اعتمدت معالجة نظام البعث في سورية في مواجهته القضية الكردية، كما غيرها من قضايا الأقليات القومية الأقل تأثيرًا وعديدًا، على البعد الأمني، علمًا بأن أكراد سورية لم يحملوا السلاح في وجه السلطة كما في العراق، بل اعتمدوا النضال السياسي السلمي بحسب ما أتاحته ظروف التضييق التي عاشتها سورية في ظلّ قانون الطوارئ والأحكام العرفية التي فُرضت منذ 9 آذار/ مارس 1963، واستمرت حتى عام 2011، ثم استُبدل بهما لاحقًا قانون الإرهاب.

تأخر ظهور أحزاب سياسية كردية في سورية، ومن مارس من الأكراد نشاطًا سياسيًا بصورة فرديّة مارسه من خلال الأحزاب السورية التي كانت قائمة، وبخاصّة الحزب الشيوعي السوري. بدأت الحركة السياسية الكردية مع تأسيس أول حزب كردي في سورية عام 1957، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) الذي يُعدّ امتدادًا سياسيًا وأيديولوجيًا للحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي الذي أسسه (الملّا مصطفى البرزاني).

عانى هذا الحزب، بعد سنوات قليلة على تأسيسه، من الانشقاقات، بفعل ضغط الأمن وتدخّلاته، ومن بروز الانحياز الأيديولوجي بين الناشطين الأكراد، إذ باتت الحركة السياسية الكردية تضم سبعة عشر حزبًا وربما أكثر. وحتى 12 آذار/ مارس 2004، تاريخ الانتفاضة الكردية التي قامت في إثر حادثة شغب أثناء مباراة رياضية في القامشلي، وقتل فيها الأمن أكثر من ثلاثين مواطنًا كرديًا واعتقل المئات، لم تكن هناك أي علاقة سياسية بين الأحزاب الكردية السورية ونظيرتها العربية، بفعل خط أحمر رسمته الأجهزة الأمنية، وبفعل خوف الأحزاب العربية من تجاوزه، ويمكن أن تُضاف أسباب أيديولوجية لدى بعضها الذي كان ينظر إلى المطالب الكردية بتوجّس، أو يعدّها مشروعًا انفصاليًا. لكن، بعد هذا التاريخ بدأ التواصل بين أطراف الحركة السياسية السورية، وعُقدت ندوات وحوارات، وقامت تحالفات من أجل إنضاج مشروع وطني ديمقراطي، يُخرج سورية من حالة العطالة السياسية المديدة التي ولّدها الاستبداد إلى رحاب دولة مدنية ديمقراطية موعودة، لكن هذه المسيرة الواعدة سرعان ما انقطعت، ولأسباب غير مفهومة بدقة، مع انطلاقة الثورة السورية. فالأحزاب الكردية، وعلى عكس القاعدة الشعبية الكردية التي شاركت بزخم في فاعليات الثورة في سائر أماكن وجودها، أصيبت بحالة من الارتباك ومالت إلى المناورة، ووضعت نفسها خارج سياق الثورة عمليًا، إمّا بفعل ضغط أمني، أو ربما تلبية لنصائح من أصدقائها في الخارج، أو لأنها لا تريد تحمّل تبعات في هذه الثورة، لكنها تريد الاستفادة من نتائجها، فكوّنت لنفسها جسمًا سياسيًّا عُرف بـ “المجلس الوطني الكردي” الذي طالب بأن يكون طرفًا ثالثًا في المعادلة السورية إلى جانب النظام والمعارضة، ورفعت من سقف مطالبها الخاصة؛ وضمّ هذا المجلس (حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي pyd) الذي كان يعمل ضمن سياسة غضّ الطرف من جانب الأجهزة الأمنية، بعد تسليم أوجلان والتنسيق الأمني التركي- السوري، وحاول ابتلاع هذا المجلس، لكنه تركه لاحقًا ومارس تضييقًا على أحزابه، بل دفع أغلب القيادات الكردية إلى أربيل، بعد أن باشر إدارته الذاتية للأراضي التي سيطر عليها في الشمال، وعمل على فرض أمر واقع بمساعدة حلفاء كثر، ومنهم النظام.

وفي مُجمل موقفها من الثورة، تبنّت الحركة السياسية الكردية خيارات أضرّت بالقضية الكردية من حيث هي قضية وطنية، على الرغم من مشاركة بعض أحزابها اللاحقة في “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، وتمثيلها في “الهيئة العليا للمفاوضات” التي انبثقت عن مؤتمر الرياض كانون الأول/ ديسمبر 2015.

ثالثًا: حروب وعقبات وعوائق تواجه المشروع.. ولكن

استطاع (حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي pyd) أن يخطف قضية الأكراد السوريين بقوة السلاح، وأن يُقدّم نفسه ممثلًا لها ولو إلى حين، علمًا بأنه هجّر أكثر من مليون كردي فرّوا من ممارساته التعسفية، من ملاحقات وسجون وسوق للخدمة، ما عدا العرب الذين هجّرهم من المناطق التي سيطر عليها، كما أنه استجلب متطوّعين أكرادًا من دول كثيرة، وجنّد كثيرًا من أبناء العشائر العربية من خلال الترهيب أو بإغراءات المال أو بدفع من النظام للقتال إلى جانبه، ووزّع خدماته على الدول المُتدخّلة في الصراع السوري من دون شروط، مُضحّيًا بأبناء الأكراد على مذبح مشروعه لإقامة كيان كردي في شمالي سورية، يريده قاعدة انطلاق خلفية لمشروعه الأصل في تركيا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما حظوظ هذه المقامرة من النجاح في ظلّ اللوحة الجيوستراتيجية الناشئة في المنطقة وتعقيداتها؟ سؤال ربما من الصعوبة بمكان التنبؤ بجواب منطقي له، فثمة مصاعب واقعية جمّة لا يُستهان بها تقف عائقًا أمامه، ليس في مستوى الصورة التي ستستقرّ عليها صراعات النفوذ الدولية والإقليمية فحسب، بل في مستوى إرادات الأطراف المحلية المتصارعة أيضًا، ومنها الأطراف الكردية الأخرى ذات العلاقة.

إن استعراض مواقف الأطراف المتدخلة، وتلمّس الخطوط الفاصلة بين توافقاتها أو تباينات أهدافها، قد يُشير إلى بعض ملامح الواقع الذي سترسو عليه الأمور في نهاية المطاف، وتستطلع إمكانات أن تجود الفرص ببعض مما يسعى له (الاتحاد الديمقراطي) من خلال سياسته البراغماتية هذه، لكنها تبقى محض إشارات لا يمكن القطع بها.

استفاد النظام كثيرًا من سياسة (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي، ربما من باب ردّ الجميل بحكم الرعاية والدعم اللذين قدمهما إلى هذا الحزب على الأراضي السورية واللبنانية في حربه مع الدولة التركية، قبل أن يضطر إلى تسليم عبد الله أوجلان عام 1998، تحت ضغط التهديد بالحرب من قبل تركيا، فقد لجم (حزب الاتحاد الديمقراطي) مشاركة الناشطين الأكراد بالقوة في الثورة السورية في أشهر انطلاقتها الأولى، وأسهم في تمييع مواقف الأحزاب الكردية الأخرى قبل أن يشلّ نشاطها نهائيًا، كما أنه حارب فصائل “الجيش الحرّ” في معظم الجبهات، وأمّن في أكثر من جبهة خطوط إمداد النظام، كما انسحب من مناطق لمصلحة قواته، حتى إنّ الصدامات القليلة التي حدثت مع قوات النظام، ومنها في مدينة الحسكة، كانت صدامات تكتيكية أو ذات طابع محلي محدود. في المقابل فإن النظام قدم دعمًا كبيرًا للحزب بالمال والسلاح وأمّنَه على مصادره النفطية وغلال الحبوب في مناطق سيطرته، وذلك باعتراف الطرفين، إلا أنّ النظام لم يُعطِ وعدًا علنيًا في الجانب السياسي فيما يخصّ مشروع الحزب المعلن، ولسان حال النظام يقول: “إذا فزنا بهذه الحرب يصبح من السهل إعادة ضبط هذا الحزب، وإذا هُزمنا، فلتذهب جميع الأطراف إلى الجحيم”. كذلك، لن يبكي حزب الاتحاد على النظام إن سقط، وإذا انتصر سيُطالبه بالمحافظة على رأسه لكن من دون أحلام.

أما إيران فإنها تنسّق مع هذا الحزب من خلال علاقتها الوطيدة مع (قيادة قنديل)، صاحبة القرار الحقيقي فيه، وهي تستخدم طرقها عبر شمالي إقليم كردستان العراق في إيصال إمداداتها ورجالها إلى الشمال السوري، على الرغم من التوافق التركي- الإيراني حول ثابتة منع قيام كيان كردي في أي من دول الوجود الكردي، وكلا الطرفين كانا فاعلين في مجموعة دول جوار العراق، الذي كان أهم ما ينتج عن مؤتمراته تنسيق جهدهما في هذا الشأن. إلا أن تطور الأوضاع الميدانية بعد دخول القوات التركية مدينة الباب، حيث أصبحت في مواجهة مباشرة مع الميليشيات التي تتبع إلى إيران، تحديدًا في المناطق التي انسحب منها “داعش” و”قوات سورية الديمقراطية” لمصلحة قوات النظام وحلفائه لقطع الطريق أمام قوات درع الفرات في اتجاه الرقة، ولّد حالة من التوتر. من غير المعروف حدود المدى الذي يمكن أن تتصاعد إليه، نظرًا إلى أهمية سورية بالنسبة إلى المشروع الإيراني، ولا كيف يمكن أن يستغلها (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي في خدمة مشروعه. ومن المعروف أن تركيا ألدّ أعداء الحزب المذكور، ومرجعياته أيضًا، والعقبة الكأداء أمام مشروعه، لأنها ترى فيه خطرًا وجوديًا على وحدة أراضيها. والخط الأحمر التركي حياله محمّل باحتمال الحرب خلف الحدود، وما يمكن أن يجرّ إليه من حروب إقليمية. لذلك، يبقى حاضرًا في علاقة تركيا مع كل الأطراف المتدخلة.

ومن جذرية الموقف التركي منه، يمكن أن نفهم لماذا دخلت القوات الأميركية مدينة منبج، والروسية جنوبي منبج وشرقيّها، كما دخلت عفرين مؤخرًا. ومن الواضح أنها تحركات من الدولتين لرسم خطوط تماس تمنع انفجار الموقف في غير أوانه. صحيح أن تركيا مهمّة للطرفين الأميركي والروسي كليهما، كل بما يخدم أهدافه، لكن هذه الأهداف تتعارض مع المواقف التركية. فروسيا التي تتّبع في مرحلة ما بعد حلب تكتيكًا يحاول الإيحاء بالحرص على علاقة مع جميع الأطراف المحلية المتصارعة، تُقدّم نفسها وسيطًا موضوعيًا ممسكًا بأوراق الصراع السوري، ويريد الإسهام الفاعل في إنهاء المأساة السورية. لكن الأصح هو أنها تتطلع إلى التفاهم مع الولايات المتحدة، وتحصيل اعتراف منها بدورها وبمصالحها؛ وما دامت أميركا تتمنّع حتى الآن، أو أن إستراتيجيتها في عهد الإدارة الجديدة لم تتضح بعد، فإن روسيا تُرسي أمرًا واقعًا أينما تيسّر لها، وتسعى لشراكة ما مع الطرف الكردي، ومن هنا يمكن أن نفهم وجودها في عفرين، ونيّتها إقامة قاعدة عسكرية أخرى وفرض أمر واقع إضافي على الأراضي السورية. يقول أندريه فالكوف، قائد القوات الروسية التي دخلت عفرين “إن الهدف الرئيس للوجود الروسي في المنطقة هو مراقبة وقف إطلاق النار، ونريد أن يفهم الجميع أننا ندعم الحكومة السورية وقواتها المسلحة، وأن وجودنا هنا هو لضمان السلام والأمان في المنطقة الحدودية”.

من الطبيعي أن تريح التصرفات الروسية حزب الاتحاد الديمقراطي، وتكفيه مؤونة مواجهة لا يريدها في هذا الوقت مع القوات التركية، إضافة إلى مراهنته على قدرة روسيا على فرض حكم ذاتي على النظام والمعارضة وفقًا لمشروع الدستور الروسي المطروح الذي تحاول روسيا تمريره. وإنه لذو دلالة في هذا السياق تصريح ليونيد سالونسكي، رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي، الذي قال فيه “لا يمكن تحقيق مصالحة في سورية من دون إقامة مناطق حكم ذاتي للأقليات”، وكان يشير في الدرجة الأولى إلى الأكراد.

أما الولايات المتحدة الأميركية، قائدة التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، فإنها، ومنذ عهد الإدارة السابقة، تعهدت لـ (حزب الاتحاد الديمقراطي)، وتشكيلاته العسكرية المتعددة تحت اسم “قوات سورية الديمقراطية”، بالدعم العسكري والمادّي الكثيفين، كما قدّمت له الدعم اللوجيستي الفاعل في المعارك التي خاضها ويخوضها، وتعدّه أكثر القوى المحلية موثوقية في قتال “داعش”، من دون أن يعني ذلك أنها تتبنّى مشروعه؛ وهي ستبقي على هذا الدعم حتى تنتهي من “داعش” في سورية والعراق، وربما أبعد إذا ما قررت متابعة جهدها في مكافحة الإرهاب الذي تزعّمه بنقل الصفة إلى قوى وتشكيلات عسكرية أخرى تعمل على الأراضي السورية؛ وهي فضّلت تحالفها معه على مشاركة تركيا في معركة الرقة، على سبيل المثال، لأنه يُقاتل وفق توجيهاتها من دون شروط، أو أنه أقل تكلفة بكثير من مشاركة تركيا التي يُمكن أن تتحول إلى رقم صعب في المعادلة السورية. فالعلاقة التي لن تغامر بها أميركا مع تركيا، تُرتّب عليها استحقاقات في موضوع تقسيم و”توضيب” النفوذ في سورية والمنطقة عامة، خصوصًا أن الإدارة الأميركية الجديدة، وعلى العكس من الإدارة السابقة، تزيد من وجودها العسكري المباشر، وتقيم القواعد العسكرية في الشمال السوري، حيث وصل عددها إلى أربع حتى الآن، وتشارك قواتها مباشرة، وبفاعلية أكبر، في معارك الرقة التي بدأت في ما يبدو من مدينة الطبقة عبر إنزال أميركي داعمٍ لـ “قوات سورية الديمقراطية”.

ما بعد الرقة سوف تتغير قواعد اللعبة، وسيزداد الدور الأميركي حضورًا وفاعلية، وبخاصة في تحجيم الدور الإيراني في سورية. ومن غير المعروف كيف ستكون الصورة التي تمسي عليها العلاقة الأميركية- الروسية، تفاهمًا أم صدامًا، وهما القوتان الموجودتان عسكريًا على الأرض السورية. لكن، وعلى ما يبدو، فسوف تنتعش تحالفات قديمة في المنطقة، ومنها التحالف الأميركي- التركي، بعد تزايد الخلاف الروسي- التركي. فهل يمكن أن تصبّ هذه التطورات في مصلحة مشروع (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي؟ ربما نعم على المدى القصير، من خلال استمرار حالة الأمر الواقع التي فرضها في الشمال السوري بحماية القوات الأميركية، إذا كانت التوجهات الأميركية لمصلحة البقاء عسكريًا في المنطقة بعد هزيمة “داعش” التي باتت وشيكة، وهذا يُستشفّ من تصريح وزير الخارجية الأميركية الجديد، ريكس تيلرسون، أمام اجتماع دول التحالف الدولي لمحاربة “داعش” الذي عُقد في نيويورك في 22 آذار/ مارس 2017، والذي قال فيه “سنعمل على إقامة مناطق استقرار موقّتة في سورية”. ومناطق الاستقرار غير المناطق الآمنة التي تقول بها الإدارة الجديدة، كونها تتطلب حضورًا عسكريًا مباشرًا.

على الرغم من ثقل التدخل الخارجي، إلا أنّ القوى المحلية ستلعب دورًا حاسمًا في تقرير مصير مشروع (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي، فالقوى العربية لا يمكن أن تُسلّم له بطموحاته، لكنها غير متفرغة له في الوقت الراهن، والخطر الحقيقي يأتيه من أبناء الشعب الكردي وقواه السياسية، الذين نكّل بهم وهجّرهم أو زجّ بهم في حروبه التي لا يوافق معظمهم عليها، ولا تخدم قضيتهم الوطنية، بل يتهمونه بخدمة أجندات إقليمية أو دولية من أحد أهدافها تحجيم الدور التركي على المدى البعيد باستخدام أكراد سورية. وهناك بوادر تدخّل كردستاني تمثّل باشتباكات محدودة في إقليم سنجار العراقي المحاذي للحدود السورية بين قوات (بيشمركة روج آفا) المدعومة من قبل رئيس إقليم كردستان و(قوات حماية سنجار) الأوجلانية؛ وتتكاثر الدعوات لإدخال (قوات روج آفا) إلى شمالي سورية من خلال محاولة التفاهم مع الولايات المتحدة وبتشجيع تركي؛ كما أُعلن في عفرين عن تشكيل عسكري جديد تحت اسم (جيش الإنقاذ الكردي) الذي ضمّ عددًا من الفصائل الكردية المسلحة التي تعدّ نفسها جزءًا من الجيش الحر والثورة السورية، ويتلقى دعمًا تركيًا، ويُتوقع أن يصطدم بـ (قوات سورية الديمقراطية). إن صراعًا كرديًا- كرديًا بات يُطلّ برأسه نتيجة الإجراءات التعسفية التي اتخذتها “الإدارة الذاتية” في حق الأحزاب الكردية وغير الكردية بإغلاق مكتبها واعتقال كوادرها، وهذا الصراع سيجد من يزيده سخونة.

رابعًا: القضية الكردية قضية وطنية وحلها وطني سوري

مثّلت الثورة السورية من حيث هي ثورة حرية وكرامة في مواجهة النظام الاستبدادي، فرصة تاريخية أمام الأكراد السوريين لتحصيل حقوقهم السياسية والثقافية في دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها، لكن بعض المتطرفين الأكراد جعلوا منها فرصة ضائعة حتى الآن، عندما راهنوا على العامل الدولي في تحقيق أحلام انفصالية تُفرض كأمر واقع. هذه الخيارات المكلفة، وإن أوحت بنجاحها راهنًا، إلا أنه يبقى نجاحًا غير مستقر وغير معترف به من الأطراف السورية الأخرى وأساسًا لصراعات مستقبلية.

تُطالب إدارة الاتحاد الديمقراطي وحلفاؤها بالفدرالية، وتعمل واقعيًا على تثبيت أركان إدارتها الذاتية في مناطق سيطرتها، من دون أن تقول صراحة بالانفصال، لأن الطروحات الانفصالية أصعب من أن يتحملها واقع المنطقة، كونها تقتضي تغييرًا في الخرائط الجيوساسية القائمة، لذلك لا تجد مؤيدين لها من الدول المتدخلة؛ كما تُلحّ على تمثيلها من ضمن وفد المعارضة في جولات جنيف أو الأستانة، وحيثما لاح لها مؤتمر يُمكن أن يشرعن حضورها السياسي في المشهد السوري. فعن أي فدرالية يتكلمون؟ وأي حوار أو توافق سوري يُمكن أن يجري حولها تحت ضغط السلاح؟ صحيح أن الروس مؤيدون بقوة لهذا التوجه، والأميركيون لا يُبدون معارضة صريحة له، ولكنّ دول الجوار الإقليمي ترفضه؛ أما الأطراف المحلية، وفي ظلّ فقدان الثقة القائم، فلا تمتلك ترف الوقت للمناقشات النظرية في شأنه، ذلك أن الفدرالية العرقية يجعلها في ظلّ التنوع السوري شبه مستحيلة، نظرًا إلى حتمية تلازمها مع حملات تطهير عرقي واسع لا يمكن تحمّله.

بالمثل، فإن الفدرالية الجغرافية تعترضها طبيعة التوزع الديموغرافي واختلاط تكوينات المجتمع السوري جميعها. بالتوازي، فإن ما يحمله مشروع الدستور الروسي “العتيد” من حديث عن إدارات ذاتية للأقليات على تنوعها ما بين اثني أو طائفي، إن أُخذ بها، وهذا الاحتمال من باب التمرين الذهني، ستكفّ معه سورية المستقبلية عن أن تكون دولة، بل محض هيئة لإدارة خلافات هذه الإدارات الذاتية، وسوف تكون تأثيراتها كارثية في مستقبل النهوض والتنمية والتواصل والاقتصادات.

نعم من الصعب، وليس من الصحيح، أن تعود سورية كما كانت دولة مركزية، تُحكم فيها طغمة قبضتها على مقدّرات الشعب السوري وحرياته وخياراته، وهناك فرصة أمام السوريين على تنوعهم للالتفاف حول مشروع وطني جامع، أساسه المواطنة وسيادة القانون وإتاحة الفرص على قدم المساواة أمام المواطنين السوريين، في ظل نظام حكم ديمقراطي حديث، يعتمد نظامًا إداريًا لامركزيًا، ويعطي صلاحيات واسعة للمناطق، ويوزع التنمية توزيعًا عادلًا وهادفًا، ويفتح أمام الجميع ممارسة حقوقهم وخياراتهم السياسية والاقتصادية والثقافية في ظل دستور متوافق عليه بين السوريين جميعًا، يجسّد طموحاتهم وهمومهم وينظم علاقاتهم. ومن المفيد والضروري للقوى السياسية والنخب السورية العربية، أن تمدّ يدها إلى نظيراتها الكردية وإلى بقية الإثنيات الأخرى، والعمل معًا على قطع الطريق أمام أصحاب الدعوات الانفصالية أو الشوفينية لدى الأطراف كلها.

خاتمة

لا شك في أن (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي، ومن يتحالف معه في إدارته الذاتية المفروضة، أصبح قوة لا يُستهان بها في المعادلات السورية، بفضل الدعم الواسع الذي يتلقاه من أطرافٍ عدّة أهمها الولايات المتحدة، كما أنه عسكر المجتمع الكردي الذي يسيطر عليه، واستجلب متطوعين أكرادًا وأجانب من دول العالم كافة (قوات الأسايش). هذه السياسة المغامرة التي تتوسّل الدعم الخارجي بأي ثمن، وترهن قضية الشعب الكردي لأجندات خارجية لا مصلحة للأكراد فيها، سوف تدفع إلى صراع كردي- كردي لا مصلحة للشعب السوري فيه، لأنه يُشكّل في حال حصوله خطرًا على مستقبل سورية وطموحات شعبها، كما أنه سيُولّد توجّها مضادًا لدى بقية السوريين، ويفتح صراعات طويلة الأمد، ستخرج منها سورية بجميع تكويناتها خاسرة؛ وفي معمعة هذه الصراعات سوف تتبخّر أحلام الذين أخذوا الأمور في هذا الاتجاه.

أن تلعب كثيرًا، ومع أطراف كثيرة، يعني أنك ستتعب باكرًا، وبناء الدول والكيانات ليس لعبةً، ولا تصيّدًا للفرص، إنه أمر محكوم بحقائق الجغرافيا والتاريخ، وبإرادات الأطراف الفاعلة الأخرى، وهذه دائمًا متبدّلة ومحكومة بمصالحها أيضًا.




المصدر