بين ظلّين ثقيلين


إبراهيم صموئيل

على الرغم من نبرتها الودودة، ووزن صاحبها الإبداعي، وموقعه الكبير عربيًّا وعالميًّا؛ فإنّ رسالة أدونيس الشهيرة إلى ابن الأسد، ما كان لها أن تغيّر أو تبدّل قيد أنملة، تقدّم أو تُؤخّر خطوة واحدة، في مضي الطاغية الصغير بما بدأه لتدمير وإبادة البلاد.

جذر انعدام أثر الرسالة وفاعليّتها، يعود إلى الطاغية الأب، إذ إنه لم يُقِم -قطّ- في يوم من الأيام- وزنًا لنقابيّ، أو وزير، أو حزبيّ، أو عضوٍ في القيادة القطرية أو القوميّة، أو لنائبه، أو حتى لزوجته؛ كي تكون إقامة وزن لأيّ مثقّف سوريّ مهما علت قامته، أمرًا محتملًا أو واردًا.

وذكر زوجة الأسد الأب ليس مجازًا، إذ إن أقرباء قريبين جدًا إليها، قضوا في السجن سنوات، من دون أن تتمكَّن دالَّةُ زوجته عليه من إخلاء سبيلهم. ما من أحدٍ له على الأسد دالَّة. ما من أحدٍ، على طول الأرض السوريّة، وعرضها. فقد كان طاغية صرفًا، لا يشوب طغيانه شائبة، ولا تفتُّ في صلادة طغيانه -أو تليّنها، في أقل تقدير- قيمة أو مكانة أو مركز أو شخصيّة أو قرابة أو.. أو.. مما لا يُعدّ ولا يُحصى.

من هنا، يمكن فهم سرّ انعدام وزن المثقّفين السوريين زمن الطاغية الأب -بل إعدام ذلك الوزن، في الأدقّ- في شؤون الحياة العامّة، كما في الشؤون الثقافيّة الخاصّة المتعلّقة بالكتّاب والفنّانين من حقوق، واعتقال، وإبعاد، ومنع سفر، وتضييق… وما إلى ذلك من تعدّيات.

وهو سرّ، أو لغز -على غرار مثلّث برمودا أو الأطباق الطائرة- لأن من الغريب العجيب أن عددًا من الكتَّاب والفنّانين والصحافيين والمثقّفين بعامة، كان لهم في أكثر من بلد عربيّ -وفي المرحلة الزمنية لحكم الطاغية السوري- وزنٌ ما، مكانة ما، قيمة ما، ومن ثمّ؛ أثر وتأثير -وإن نسبيًا-  في سلطات الحكم وشؤون الحياة العامة في بلدانهم… أما في سوريّة فلا!

في التكوين النفسي للطاغية الأب كان ثمّة ازدراء واستصغار في نظرته إلى المثقّفين، وموقفه منهم، وسلوكه اتجاههم. ومردُّ ذلك في نشأة الطاغية هذا، وفي تاريخه، ودوافع تطوّعه في الجيش، وهو ما نقله إلى ابنه -على الرغم من اختلاف تكوين الشخصيّتين- وتأكيد أهميته، بوصفه وجهًا من وجوه الاستبداد، والتمكّن من دوامه وفاعليته حتى نهاية حياة المستبدّ.

وإلى جانب ذلك، فإن كان الطاغية الابن لم يُفد من محتوى رسالةِ أدونيس، ولم يُعرها أدنى اهتمام -على الرغم من مخاطبته من شاعرنا بـ “سيادة الرئيس” وعدّه “المنتخب”- فليس مردّ ذلك، إلى كراهية الطاغية الصغير للمثقّفين -كما رأى مفكّر عربي- وإنما لأن شخصيّته أشدُّ صَغارًا، وأكثر خواءً، وأوهى هشاشةً من أن تخالف تعليمات الأب ورقابة أجهزة الأمن؛ إذ لو فعل لاقتضى الأمر تحمّل مسؤولية، وهذا أثقل من أنْ يتحمَّله كاهلُ صغيرٍ مثل كاهله.

وهكذا، بين ظلّين ثقيلين -الأب وابنه- عاش المثقّفون السوريّون حالًا مريرة، دأبت خلالها السلطة على هرس فاعليتهم، وشطب حضورهم، وتعطّيل تأثير فكرهم وثقافتهم في الداخل، سواء في ما تعلَّق بالشأن العام لحقوق الناس المسلوبة، أو لجهة الشأن الخاصّ لحقوق المثقّفين المُضيَّعة، من جرّاء عقد نقص الطاغية الأب، وتهشّم شخصية الابن، كما عرفها وعانى من آثارها الكارثيّة أهل مكّة بالذات، أهل مكّة الأعلم بشعابها، ودهاليز شعابها من ضيوف قصور الرئاستين، أو زائري البلد السائحين.




المصدر