دولة الكذب ومعضلة فقدان الثقة


سميرة مبيض

إن أكبر معضلة تواجه السوريين اليوم هي فقدان بعضهم الثقة ببعض، وهي للحق كارثة، فهل نقدّر جحيم أن يفقد مجتمع إنساني الثقة، كلٌ بحديث الآخر، محطمًا بذلك كل ما للكلمة من معنى ومشككًا في كل معلومة تصدر عن الآخر.

الكذب، هذه الصفة التي ذمّها موروثنا الإنساني بكل ما أورد من كتب وثقافات دينية وفلسفية، وهي الصفة التي تفرّد بها الإنسان عن بقية الكائنات، وهي الصفة التي قد لا تعني أشياء كثيرة في نطاق الحياة والدوافع الخاصة، أو في نطاق كونها صفة فردية غير معمّمة في المجتمع.

لكنها تصبح معضلة بالتأكيد إذا مرض بها مجتمع بأكثر من نصف أفراده، ولم ينج إلا من احتمى بقوقعة اجتماعية عازلة، عاجزة عن تحويل كل ما يقوله إلى مخالفة ما يفكر به في وعيه السليم، وهو المعنى الحقيقي للكذب، فهو بالمختصر ما يخالف فيه الكلام التفكير، بينما يفترض أن يكون طريقة للتعبير عنه.

لا بد من أن ننظر إلى الفائدة التي كان الكذب يُكسبها مؤيديه، وجعلت منه صفة مُكتسبة في تأقلم مع الوسط المحيط في المجتمع السوري خلال الفترة الماضية. ولعل أبرز صفات هذا الوسط أن الجميع كان خاضعًا للاستبداد، ويرزح تحت الظلم لكن كان عليه أن يُظهر الموافقة والتأييد محافظةً على حياته، فتشارك كثيرون في الكذبة الأكبر، وهي بالروح بالدم نفديك يا “رئيس”، بينما وعيهم يقول إنه نظام فاسد ظالم، وإنهم ضاقوا ذرعًا بكل هذا الضيق والظلم، وأن عليهم الصراخ: الشعب يريد إسقاط “الرئيس”، ويريد الحياة الكريمة، ويريد القيام بأي فعل يدل على عدم الموافقة على هذا الواقع، لكن ذلك لم يحدث، وعوضًا عنه استمرت الكذبة طويلًا.

من صفات هذا الوسط أيضًا، أنه اعتاد الظهور بمظهر المُصدِّق لأكاذيب الأسد، وكأنها حقائق، وربما تكون أكبر كذبة اعتاد السوريون التظاهر بتصديقها هي أنه حُكمٌ يرعى مصالح فئات الشعب من الكادحين والعمال والفلاحين، في حين هم كانوا أكثر الفئات المستغلَّة إلى آخر يوم قبل الثورة السورية، ربما تكون الكذبة الثانية التي تظاهر السوريين بتصديقها طويلًا، هي كذبة المقاومة والممانعة، وشد الأحزمة، وحشد الجيوش لحروب التحرير، وليس انتهاء بكذبة التطوير والتحديث، وختامًا بكذبة عدم الاعتراف بالثورة السورية لمدة سبع سنوات.

ليس ذلك بشامل مجموع تتالي الأكاذيب العامة في أمد خمسين عامًا، وكان المجتمع يتأقلم مع تصديقها مُكرهًا مُتجاهلًا القاعدة الأهم، وهي أن الكذب على جهة ما تفترض حتمًا أنه ليس من الضروري احترامها والصدق معها، فلم يُدرك كثيرون إلى اليوم أن تنظيم الأسد لا يقيم وزنًا للشعب السوري، ولن يتوانى عن التضحية به كاملًا؛ لأجل بقاء مئة ألف موال له في السلطة.

لم يزل الكذب يمدُّ في عمر سلطة الأسد منذ بدء الثورة أيضًا، فهو من أدعى أن كل من يقف ضده إرهابي، وهو من أدعى أن تقرير منظمة العفو حول سجن صيدنايا ليس له أساس من الصحة، وهو من أدعى أن الهجوم الكيماوي الأول الذي شنه على غوطة دمشق كان من فعل الثوار ضد أطفال خُطفوا من مناطق أخرى، ثم أدعى أن القصف بالسلاح الكيماوي في خان شيخون نتج عن تفجير مخزن مُفترض للأسلحة الكيماوية للمعارضة. لكنه هنا لم يعد يكذب على الشعب السوري فحسب، وإنما على منظمات دولية وحكومات ومجتمع دولي، أي: يكذب فعليًا على ما يزيد على سبعة مليار إنسان. لا يخرج الأسد عن القاعدة، فالكذب ملح المستبدّين، لا تستقيم سلطاتهم بدونه، ولا يعني ذلك أن الدول الديمقراطية هي المدن الفاضلة، لكن لا تعميم ولا تشريع فيها للكذب، فإن شذَّ صوت يُعاكسه اثنان -في الأقل- من منظمات المجتمع المدني، أو من المعارضة، ما يعيد وضع التوازن دومًا؛ كي لا ينحرف عن المسار للمحافظة على الوعي الجمعي السليم الذي يحقق مصلحة المجتمع واستقراره.

فبإمكاننا بصدق شديد -إذن- أن نُسمّي دولة الأسد بدولة الكذب، قامت سلطته واستمرت على أساس الأكاذيب وحدها، الكذب من أجل إبقاء مجرم في السلطة، وهل من أفظع من هذا الدافع وهذه النتيجة.

كيف سيتجاوز السوريون هذه المعضلة المجتمعية في سياق ثورتهم الفكرية على عقود التجهيل، بدأ الأمر حتمًا منذ سقوط دولة الكذب وانكشاف فظائعها كافة، وسقوط جميع القيم المغلوطة التي زرعها هذا النهج من مكافأة الفاسد والنصاب والمحتال، وتعزيز روح الأنانية والفردية، وكانت سبع سنوات من الصدمة الإنسانية المتواصلة والأذى الذي ألحقته سياسة الأنانية بكل سوري، من دون استثناء، كافية لوصل كثير من النفوس بوعيها من جديد، ومواجهة السوري لمجتمعات حديثة تثّمن القيم الإنسانية كان له دور مهم.

قد يعود السوريون يومًا إلى منح الثقة لأبناء بلدهم في عقود غير مرئية، فإن ارتد الأمر سلبًا مرة واثنتين وثلاثة وأصاب مرة، فتكون خطوة إلى الأمام تستحق المحاولة والمثابرة نحو استعادة القدرة على التعامل السليم الذي يعتمد على المعرفة والعلاقة الإنسانية قبل اعتماده على أسلوب استخباراتي، وفرضية القوالب الجاهزة، ونحو إدراك كون الإنسان فريد بنفسه، لم ولن يشبهه كائن آخر.




المصدر