النظام يسوق مرضى انفصام الشخصية إلى جبهات القتال

9 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017

5 minutes

هيفاء بيطار

شهدتُ، بوصفي طبيبة عيون، ومن خلال صداقاتي مع أطباء نفسانيين، ازدهر عملهم منذ بداية الثورة السورية، أن كثيرًا من مرضى انفصام الشخصية الذين ينص القانون على إعفائهم من خدمة العسكرية، لا يُعفَون! وإنما -في أحسن الأحوال- يُحوَّلون إلى ما يُسمى خدمات ثابتة، أي: يسلمونهم بندقية محشوة بالرصاص، ويكلفونهم بأعمال كالحراسة والوقوف عند الحواجز؛ للتفتيش! والمعروف أن مريض انفصام الشخصية تُخيَّل له خيالات وصور غير واقعية، وغير معقولة، ويسمع أصواتًا تحفّزه وتأمره بسلوك معين؛ إذ يُمكن -بكل بساطة- أن يتخيل زملاءه يتآمرون عليه؛ فلا يتورع عن إطلاق النار عليهم، وقد أعطته “الدولة” بندقية محشوة بالرصاص الحي، فلا شيء حيًا في سورية سوى الرصاص. ومعروف أن عناصر الأمن يقتحمون كل يوم المقاهي والبيوت ويصطادون الشبان الهاربين من الموت وحمل السلاح؛ ليسوقوهم إلى جبهات القتال، لكن أن يصل الأمر إلى إلحاق المرضى النفسانيين، وخاصة المصابين بالفصام (وهو من أصعب الأمراض النفسية ولا شفاء منه)، بالخدمة العسكرية، وتسليمهم سلاحًا” محشوًا بالرصاص، فهذا يعني أن النظام لا يُبالي -إطلاقًا- بالنتائج المُروعة والوخيمة لما يُمكن أن يقوم به مريض الفصام، ولا أنسى مريض الفصام في مستشفى ابن النفيس في دمشق الذي ذبح شقيقه؛ لأنه رآه يقشر تفاحة، فتخيل أنه سيذبحه، فغافله وأحضر سكينًا وطعن شقيقه حتى الموت. ولا نستغرب أن يكون أحد المجندين الواقفين على الحواجز مُصابًا بفصام الشخصية، ويطلق (بحسب ما يتهيأ له من خيالات مريضة) الرصاص على مسافرين أو واقفين عند الحواجز بانتظار دورهم في التفتيش.

السؤال المؤلم الذي يطرح نفسه: هل النظام مضطر ومتأزم إلى حد يزج بمرضى فصام الشخصية، وغيرهم من المصابين بأمراض نفسية أخرى خطِرة، في معركته القذرة التي يخوضها؟ ألا يخطر في بال نظام -كهذا- أوغل في احتقار مواطنيه أن هذا المريض قد يرتكب كوارث وجرائم؛ بحكم مرضه، وأنه تجب حماية حتى أسرته منه، وأن مكانه الطبيعي مستشفى الأمراض النفسية، حيث يخضع لعلاجات دائمة من الأدوية النفسية ولصدمات كهربائية أحيانًا. أليس زج مرضى فصام الشخصية في حمل السلاح مباركة غير مباشرة من النظام لقتل زملائهم أو المواطنين المُروعين منذ عقود من هذا النظام الاستبدادي.

ألم يُروع أهل اللاذقية من حادثة هزت المشاعر، وروعت العقول، حين أقدم شاب حاصره عناصر الأمن في مقهى؛ لتجنيده في قوات النظام، فما كان منه إلا أن أخرج سكينًا وقطع… وصرخ بهستيريا “الآن لم أعد رجلًا” ألم يُدفع هذا الشاب، على الرغم منه، إلى فقدان صوابه؟

وبوصفي طبيبة عيون، أقول: كم من شابٍ لدي درجات عالية من حسر البصر (قصر النظر)، أو الانحراف، ويحتاج إلى إجراء عملية تصحيح البصر (لا يزك)، لكنه يمتنع عن إجرائها وتصحيح رؤيته؛ كي لا يلتحق بالخطوط الساخنة للمعركة العبثية في سورية، ومع ذلك فإن كثيرًا من هؤلاء قد زُجوا في خطوط النار، وقد تجاوز النظام القانون الطبي الذي يُعفيهم من خدمة العلم. أي ذل أكبر من أن يحجم شاب بالكاد يرى واحد من عشرة، أي مصاب بحسر بصر شديد، عن إجراء عملية بسيطة، تجعله يرى عشرة من عشرة؛ كي لا يحمل لقب الشهيد البطل على الرغم منه. بات المرض في سورية امتيازًا، والإعاقة نعمة من السماء، ومحظوظ من لديه نقص شديد في الرؤيا؛ لأنه لا يُساق إلى جبهات الموت. أما مرضى فصام الشخصية فسيذعنون، على الرغم منهم، للتهيؤات والأصوات التي يسمعونها، وتأمرهم بقتل فلان أو إطلاق الرصاص على مجموعة من الناس.

من يعيش في سورية يعيش في عالم الـ “لا معقول”، إذ تجاوزت مأسوية حياة الناس كل مسرحيات الـ “لا معقول”.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]